عُقُولٌ مَغْلَقَةٌ وَمَسَاعٍ عَبَثِيَّةٌ بقلم: فؤاد زاديكى فِي مُعْتَرَكِ الْأَفْكَ
عُقُولٌ مَغْلَقَةٌ وَمَسَاعٍ عَبَثِيَّةٌ
بقلم: فؤاد زاديكى
فِي مُعْتَرَكِ الْأَفْكَارِ وَ الْمَوَاقِفِ، تَبْرُزُ ظَاهِرَةٌ لَا تَفْتَأُ تُفَرِّغُ الْمَشْهَدَ الْعَامَّ مِنْ أَيِّ قِيمَةٍ، ظَاهِرَةُ التَّحَذْلُقِ الْفَارِغِ، الَّتِي يَمَارِسُهَا بَعْضُ مَنْ أُغْلِقَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ أَبْوَابُ الْحِكْمَةِ وَ الْبَصِيرَةِ. هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَحَرَّكُونَ فِي الْوَاقِعِ الْعَرَبِيِّ، وَ هُمْ يَتَخَبَّطُونَ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ الْمُطْلَقِ، يُحَاوِلُونَ جَاهِدِينَ، وَ بِاسْتِمَاتَةٍ مُثِيرَةٍ لِلرَّثَاءِ، إِضْفَاءَ شَرْعِيَّةٍ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْ وَهْمٍ عَلَى لَا شَرْعِيَّةٍ تُقِيمُ فِي نُفُوسِهِمْ. إِنَّهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْإِجْحَافَ، الَّذِي يَعْتَنِقُونَهُ عَدْلٌ، وَ أَنَّ الْعَنَجِيَّةَ، الَّتِي يَتَجَرَّعُونَهَا فِكْرٌ.
إِنَّ أَصْلَ الْدَّاءِ فِي هَذِهِ الْعُقُولِ الْمَغْلَقَةِ هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، فَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ. لَا يَفْقَهُونَ مِنْ صَفَحَاتِ التَّارِيخِ إِلَّا مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَ يُعَزِّزُ أَوْهَامَهُمْ، فَتَرَاهُمْ يُقَدِّسُونَ الْأَخْطَاءَ، وَ يَرْفَعُونَ الْجَهْلَ رَايَةً لَهُمْ، مُسْتَلْهَمِينَ عِبَرًا مَشَوَّهَةً لِتَكْرَارِ الْهَلَاكِ. لَا تَقُودُهُمْ الْبَوَاصِرُ، بَلْ تَجْرُفُهُمُ الْعَاطِفَةُ الْهَوْجَاءُ وَ الْعَمْيَاءُ، الَّتِي لَا تَرَى مَا بَعْدَ أَنْفِهَا. هِيَ عاطفةٌ تَنُمُّ عَنْ قِلَّةِ إِدْرَاكٍ وَ فَقْرِ فِكْرٍ، وَ هَذَا الْجَهْلُ يَضْرِبُ بِأَطْنَابِهِ فِي عُقُولِهِمْ، مُحَوِّلًا إِيَّاهَا إِلَى مَوَاطِنَ خَصْبَةٍ لِكُلِّ سُوءٍ وَ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ. وَ لِتَغْطِيَةِ هَذَا الْخَوَاءِ الْفِكْرِيِّ الْهَائِلِ، يَلْجَئُونَ إِلَى مَهَارَةِ اللَّفِّ وَ الدَّوَرَانِ وَ الْتَّلَاعُبِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُنَمَّقَةِ. فَتَرَاهُمْ يَبْنُونَ جُدُرًا مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ لِيُضَلِّلُوا بِهَا الْعُقُولَ السَّاذَجَةَ، وَ يُشَوِّهُوا بِهَا حَقَائِقَ الْأُمُورِ. هُمْ سَحَرَةُ الْكَلَامِ، يُحَاوِلُونَ أَنْ يُقْنِعُوكَ بِأَنَّ الْلَّيْلَ نَهَارٌ، وَ أَنَّ الْحَقَّ بَاطِلٌ. فِي كُلِّ جُملَةٍ لَهُمْ سُمٌّ خَفِيٌّ، وَ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ مِنْهُمْ غِشٌّ وَ خِدَاعٌ. لَا يَأْبَهُونَ بِحَقِيقَةٍ، وَ لَا يَهْتَمُّونَ بِعَدْلٍ، فَهَدَفُهُمُ الْأَسْمَى هُوَ تَرْسِيخُ وَهْمِهِمْ فِي عُقُولِ الْبُسَطَاءِ وَ تَضْيِيعُ بُوصَلَةِ الْحَقِّ.
إِنَّ مِثْلَ هَذَا النَّمَطِ مِنَ النَّاسِ يَعِيشُ حَقِيقَةً عَلَى هَامِشِ الْحَيَاةِ، بَلْ عَلَى أَرْصِفَتِهَا الْخَارِجِيَّةِ. هُمْ كَالْمُتَسَوِّلِينَ، الَّذِينَ يَسْتَجْدُونَ لَبْلَابِيِّ مَسَاعٍ لَا تُسْمِنُ وَ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ. هُمْ لَيْسُوا فاعِلِينَ حَقِيقِيِّينَ فِي الْحَيَاةِ، بَلْ مُتَفَرِّجُونَ عَلَيْهَا مِنْ زَاوِيَةٍ ضَيِّقَةٍ تُشَكِّلُهَا عُقُولُهُمْ الْمُضْرَبَةُ. وَ إِنْ حَاوَلُوا الْفِعْلَ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ لَا يُفِيدُهُمْ بِشَيْءٍ، وَ لَا يَأْتِي بِنَتِيجَةٍ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْجَهْلِ وَ الْغُرُورِ.
إِنَّ هَذَا الْوَاقِعَ الْمُرِيرَ يُذَكِّرُنَا بِأَهَمِّيَّةِ الْعَقْلِ وَ الْمَنْطِقِ فِي الْحَيَاةِ، وَ بِضَرُورَةِ التَّحَرُّرِ مِنْ الْعَاطِفَةِ الْعَمْيَاءِ وَ الْجَهْلِ الْمُسْتَفْحِلِ. فَلَنْ تَتَقَدَّمَ الْمُجْتَمَعَاتُ إِلَّا إِذَا تَعَافَتْ عُقُولُهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ، وَ لَنْ يُبْصِرَ الْإِنْسَانُ طَرِيقَهُ إِلَّا إِذَا أَعَادَ الْبُوصَلَةَ إِلَى الْحَقِّ وَ الْحَقِيقَةِ، وَ تَخَلَّى عَنْ هَذِهِ الْمَسَاعِي الْعَبَثِيَّةِ، الَّتِي لَا تُسْفِرُ إِلَّا عَنْ مَزِيدٍ مِنَ الضَّيَاعِ وَ الْخُسْرَانِ.
__________________
fouad.hanna@online.de
|