![]() |
Arabic keyboard |
#1
|
||||
|
||||
![]() اشتقتُ إلى خبز أمّي اشتقتُ إلى خبز أمّي. اشتقتُ إلى ورق العنب, الذي كانت تلفه, وأنا أنظر إليها, أتأمّل يديها الطاهرتين, والتي تركت معاناة الدهر تجاعيدها الواضحة على صفحة جلدها, وهي أشبه ما تكون بأخاديد سواق ٍ ثلّجها الصّقيعُ القارس, ثم عادت شمس الصّيف اللاهبة فأذابت تلك الثلوج, لتترك آثار تلك الأخاديد, وهي تحدّث عن تعب سنين طويلة وعن معاناة فقر كانت بصماته في تلك الآونة تنبيء عن وجه تلك المعاناة الكالحة.
اشتقتُ إلى تلك الرائحة التي كانت تنبعثُ من خبز التنور وهي تأتي به إلى الداخل, بعد عناء نصف يوم كامل أمضته في التحضير والعجن والخبز. دون أن تظهر على وجهها أية علامات تدلّ على نفور أو تذمّر أو شكوى, بل على العكس من ذلك فإن سرورها كان بالغاً عندما ترانا نبدأ في الأكل منه! كانت رائحة الخبز المنتشرة تصل إلى الداخل قبل وصولها وهي تزكي أنوفنا معلنة عن قرب وصولها, وهي بلا أدنى شك رائحة عطرة ومشهية مجبولة بحنين الصدر وعرق الجبين. كنّا نتدافع كفراشات حول الطشت, الذي جلبته محمولا على كتفها من كل تلك المسافة, وكان ظهرها ينوء تحته, وكانت تعوّدت على ذلك وهي تحاول أن تحمل الطشت في أفضل وضعية توفّر لها راحة أكثر! كانت الرائحة الساخنة المنبعثة من الخبز تغري عيوننا وأنوفنا ونفوسنا وتزيد من حالة الجوع لدينا وأحياناً كثيرة كنّا نأكله على شبع, ففرصة الأكل من الخبز الحارّ لا يمكن أن تفوّت. كنا في كثير من الأحيان ننسى أن نأكل إلى جانب الخبز الشهي والطازج هذا قطعة جبن أو بعض حبّات من الزيتون أو خيارة أو قطعة بندورة أو غيرها, فقد كنا نأكله هكذا حافّا بدون أيّ شيء وهو من ألذ ما يكون! وكان كلّ منّا يأكل بالطريقة التي يختارها, لكن أمي وكالعادة وعقب كلّ خبزة جديدة تقوم بعمل الخبيز لنا وهو تقطيع حوالي رغيفين من الخبز الساخن في صاج أو صحن كبير يتّسع له, ثم تضيف إليه قليلا من الملح وتذيب بعض السمن وتدلقه عليه ساخنا وأحيانا دون أن تسخّنه فإن حرارة الخبز كانت تذيب السمن المضاف إليه, وبعد ذلك تقوم بخلطه بشكل جيّد وكانت هذه الأكلة شهيّة وأعتقد أن جميع بيوتات ديريك كانت تفعل ذلك. أما أنا فكنت على الأغلب أغرّد خارج السّرب (وهذه كانت أكلتي المفضلة في التعامل مع الخبز الساخن) فأقوم بأخذ قطعة من هذا الخبز الساخن ثم أقشر بعضاً من رؤوس (سنّات) الثوم, وأبدأ بخرط الثوم على وجه الخبز إلى أن يذوب عليه وكان يساعد في ذلك الأشكال التي كانت أمي تقوم برسمها على سطح الخبز كإشارة الصليب تيمناً بالخير أو أشكالا أخرى للزينة, وهذه الأخاديد والحفر كانت تساعد على أن أنجز عملي بنجاح وبعد ذلك أقوم برشّ الملح عليه ومن ثم آكل, وكم كان ذلك شهيّاً بالنسبة لي ولذيذاً! كان ذلك عندي أشهى من جميع أنواع الكباب المعروفة وغير المعروفة! اشتقتُ إلى تلك الأيام التي كانت تجمعنا سفرة صغيرة أو كبيرة حولها, نأكل ممّا قامت أمي بتحضيره دون اعتراض أو إعلان عدم رضا, وكانت الأمور تسير على ما يرام والقناعة تحكم بعقلانيتها بعيداً عن غباء الجشع والبطر على النعمة, أما اليوم وفيما يتوفّر لأبناء هذا الجيل كلّ شيء, على خلاف ما كان في وقتنا, إلاّ أنّهم لا يحسّون بهذه النعم التي أعطانا إياهم الرب ولا يفكّرون في شيء من ذلك, وكثيرا ما تطبخ ربة البيت أكثر من طبخة واحدة في اليوم لترضي مختلف الأذواق ومع ذلك فإن عدم الرضا هو السائد, بل أنهم يقومون بتوصية البيتزا وغيرها من الأكلات الجاهزة من الخارج. لقد اشتقتُ بحقّ إلى تلك الأيام الجميلة والبريئة على الرغم من جميع المصاعب التي كانت تصبغ تلك المرحلة بلون التعب وتغلّفه بكساء الحاجة والحرمان. لقد كانت على الرغم من كل الصعوبات والمآخذ عليها أجمل من هذه الأيام, لأن كثيرين لا يحسّون بقيمة ما يملكون ولا يعرفون كيف يوجّهون شكرهم لربهم الذي خلقهم في ظروف غير الظروف التي خلقنا فيها وفي أوضاع غير الأوضاع التي كنا نعيشها بقناعة وبساطة ورضا! |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|