![]() |
Arabic keyboard |
|
#1
|
|||
|
|||
![]()
عزيزي أثرو
بادئ ذي بدء، اسمكَ جميل لأنه يعني الأرض! وهذا يوحي لي أنكَ تحبالأرض ومتمسّك بالأرض، فأحييك أولاً .. ثانياً أشكرك يا صديقي على مروركَ الطيب، وعلى تساؤلاتكَ العميقةلأنها تضيء جوانب هامة مما أشرتُ إليه في سياق ردّي على صديقي العزيز الأستاذ سليمغريب. لا يا عزيزي أثرو، لم أقصد إطلاقاً أن كل مَن يعيش في أرض الوطن،يعيش بغير كرامة أو نه نسي شيء اسمه الكرامة! لا وألف لا لم أقصد هذا إطلاقاً، لكنيقصدت بالضبط أن لكل إنسان على وجه الدنيا طموح، ولا بدّ أن يسعى المرء لتحقيق طموحهفمنه من يجد طموحه تتحقق من خلال الهجرة أو خلال الانتقال من رقعة جغرافية إلىأخرى، وهكذا طبقاً لما يراه هذا الكائن أو ذاك، وان أسباب الهجرة هي البحث نحوالأفضل وهذا حق شرعي لكل إنسان، وليس بالضرورة أن يهاجر المرء من بلد ما إلى أخر انتكون كرامته مهدورة، فلربما يشعر في قرارة نفسه انه سيحقق وضعاُ أفضل مما لو هاجرمقارنة فيما هو عليه في بلده او رقعته الجغرافية، فهناك الهجرة الداخلية داخل الوطننفسه، حيث ينتقل أو يهاجر المرء من الريف إلى المدينة ثم من المدينة إلى مدينةأكبر، ثم ربما إلى العاصمة ثم ربما تتوسع مشاريعه وطموحاته فيهاجر إلى عاصمة أخرىأو بلدان أخرى فكل هذه الهجرات هي نوع من التطلع نحو الأفضل، ولا تتعلق فيما إذالديه كرامة أو لا، هي متعلقة أولا وأخيراً إلى البحث عن حياةٍ أفضل، وأظن في هذاالسياق ينطبق ما يتم حتى في أوروبا، حيث أنَّ هناك الكثير ممن يهاجر من بلده إلىبلد آخر، وهكذا يا صديقي القضية أعمق مما يظن المرء للوهلة الأولى، من جهتي كنتُأجد نفسي في سماء ديريك أن ديريك ومع عميق حبي لها أنها بلدة صغيرة جدّاً علي! وهذالا يعني أنني أتعجرف عليها وعلى من يسكنها فهي مني وإلي، وأنا أحب ديريك الآن أكثرمما لو كنتُ فيها لأنني بسبب غربتي أشعر بالحنين المضاعف إليها، ولأنني وحيد منأسرتي، لا أخ ولا أخت!، فلا يوجد من أسرتي أحداً سوى بعض الأهل المتفرقين داخلأوروبا، ناهيك أنني متوحّد مع عالمي الشعري إلى حدّ الاشتعال، فلا أرى أن من يعيشفي الوطن الأم هو بدون كرامة، ولكني أرى أنه له أسبابه في البقاء أو في الهجرة كماشرحت آنفاً! حول تساؤلكَ الثاني واقع الجيل الجديد، لا أبارك إذابة الجيلالجديد بالمجتمع الجديد بل حلَّلت وفنتّدت واقع الحال، ولا يتم هذا الذوبان عبرالجيل الأول والثاني وإنما يأخذ هذا ربما أكثر من جيل لأن المرء ابن بيئته وواقعهولهذا فأنا أرى ان المغترب عبر مراحل جيلية عديدة سيصبح وكأنه ابن البلد الذيترعرع فيه من حيث طريقة العيش والسلوك وطريقة التفكير واللغة والخ مع الحفاظ علىبعض عاداته وتقاليده التي يمارسه أحياناً وستظل بحسب ما يتلقاها من الأسرة وهذاالأمر يختلف من أسرة إلى أخرى ويختلف من بلد إلى آخر بحسب عدد المغتربين وهكذا فليسكل ما يراه ويتمناه الأبوين يتحقق في البنين لأن للبنين أيضا لهم رؤاهم وتطلعاتهمومآربهم وطوحهم! فمثلاً أصادف بعض الشابات والشباب من الجيل الجديد وإذ بهم يقولونأنهم غير مرتاحين للعيش بقية عمرهم في السويد فانهم ينوون حالما أن ينتهوا مندراساتهم وبعض مشاريعهم الدراسية أو العملية أن يهاجروا إلى اسبانيا أو كندا أوأميركا او أيطاليا أو الخ من البلدان التي تستهويهم طريقة العيش هناك! وهذا لا يعنيانهم يجدون أنفسهم بدون كرامة هنا وسيهاجرون إلى حيث الكرامة ولكن يعني أن المرءدائماً في حالة بحث دائم نحو الأفضل، وأحياناً يكون هذا البحث مجرد فضول ومجرد توقعومجرد حلم! وربما يتحقق الهدف وربما لا، وكم من المهاجرين هجروا بلدانهم الأم ثمعادوا إليهم لأنهم وجدوا أنفسهم فقدوا أكثر مما أخذوا، فالقضية تختلف من كائن إلىآخر، فمن جهتي أرى أنّني غير قادر على العيش في مدينة صغيرة مثل ديريك مع اني أعتبرديريك أجمل مدينة على وجه الدنيا لأنه مسقط رأسي! ( تحية إلى ديريك!) ولا داعيللدخول في عوالم تكويني الشعري والقصصي المستوحى من عوالم ديريك فهذا يعرفهالجميع! فلا أبارك الذوبان في المجتمع الجديد وإنما حللت ظاهرة وحالة، وهذهسنّة الحياة، فلو هاجر أجدادي من آزخ إلى استمبول منذ قرابة نصف قرن، كنتُ الآنسأتكَّلم التركية وأحمل ثقافة تركية، والخ فلا ضير أبداً من أن يهاجر المرء من مكانإلى آخر فالكرة الأرضية هي وطن الإنسان، وببساطة أنا أعتبر الكون برمته وطني فأنتقلمن وطن إلى آخر بحسب توقي وشوقي ورغبتي ومزاجي وطموحي إلى هذا الوطن أو ذاك! وأنالست أبداً ضد الأوطان المهاجرة منها بقدر ما أنا بصدد تطوير نفسي أينما ذهبت وإينماحللت، وبالنتيجة أنا محسوب على الوطن الجديد مغترب سوري ولهذا أسعى دائماً أن أعكسحالة راقية إلى الحد الذي أستطيعه سواء عبر الكلمة والحوار والرسم والتواصل معالآخر كائنا مَن كان هذا الآخر .. أعود إلى نقطة هامة لربما يسألني أحدهم طالما تشعر أنكَ لاتستطيعأن تعيش إلا في عاصمة أو مدينة كبيرة فلماذا لم تختَر دمشق مثلاً أو بيروت أوالقاهرة أو الخ من عواصم الشرق، الجواب بسيط للغاية وهو أن مرتبي لو كنتُ منتجاً فيأية عاصمة من هذه العواصم كمدرس بإلكاد يكفي للإيجار، للمسكن فكم سيكون إيجار شقةفي دمشق أو القاهرة؟! هذا من جهة وعندك عشرات الجهات الأخرى غير المشجعةلأختيار هذه العاصمة أو تلك! ولهذا كي أعالج كل هذا الأمور جملة وتفصيلاً، اخترتالغربة لما لها من مميزات تتوائم مع تطلعاتي وأهدافي وطموحي، ولا أخفي على القارئالعزيز أنني اخترت الغربة بهدف الغوص في تجارب جديدة كي أكتب نصّاً من رحمالغربة والحياة، فأنا بصراحة ليس هدفي من الهجرة الهجرة وإنما هو الكتابة وربمابعضهم يسخر أو يندهش من هذه المسألة أو هذا الطموح، لكني فعلاً هكذا كنت وما أزالأنوي، لهذا كنت وما أزال أرى أن الكاتب بكل ما تعني كلمة من معنى، نارداً مايستطيع أن يكتب في بلاد الشرق بحرية مفتوحة بالطريقة التي يعيشها المبدع في دنياالغرب فهناك النصوص لها رقيبها وحسيبها ولها ما لها من مقصّات ومنزلقات ومطبّات لهاأوّل وليس لها آخر والنشر! يا حبيبي أن تنشر كتابا أو رواية أو ديواناً يمر نصَّكَتحت أيدي غريبة وعجيبة، ويضع ألف خط وخط أحمر تحت رحيق ما تكتب، والكتابة برأييوبالدرجة الأولى هي تمرُّد على واقع اجتماعي حياتي فاسد أو غير جيد في بعض جوانبالحياة، ويحاول المبدع أن يعيد صياغات جديدة لواقع يراه مخلخلاً ومتصدعاً كي يصبحأفضل مما هو عليه ولهذا فليس من السهل أن يحقق من له رؤى فسيحة في دنيا الشرق أنيدرج ويصوغ أفكاره، فالمصات تخيف الكتاب الكبار فكيف بالصغار أو المبتدئين! فأودّالتوقف عند نوال السعداوي مثلاً، لقد صدر أكثر من مرة قرارات من بعض دول الشرقأن وضعوا رأسها في قائمة هدر دمها، وأسقطوا الجنسية عن المبدع العبقريالراحل عبدالرحمن منيف، ومنعوا فلان من الدخول إلى البلد الفلاني، والقائمة لا تحصىفي قمع المبدع! وفي هذا الإطار، واختصاراً أن الشرق لا ينهض إلا بأن يتم الاهتمامبالمبدعين، وأصلاً الذي يبيض الوجه في بلاد الغرب والشرق والشمال والجنوب هو هذاالبمدع أو ذاك الفنان! وحول سؤالكَ الأخير حول طرحي لهذه المواضع عبر برنامجي في صورويوتي في أو لا أدري إن قصدتَ سوريويو سات الجديد الذي هو قيد التجريب! اشتغلت فترة من الزمن كمدير برنامج بطاقات ثقافية في صورويو تي في،كتان عملي تطوعي ومجاني لبضعة شهور قدمت خلالها أكثر من عشرين برنامج حواري مع كتابوشعراء وفنانين ومبدعين! وكنتُ انوي فعلاً الاستمرار في عملي وبرنامجي لكن إدارةالتلفزيون لم تتِح لي المجال للتفرغ كعمل، لهذا اعتذرت عن متابعة تقديم برنامجيبشكل مجاني! لأن وقتي أهم من تلفزيونات الكون برمتها! أما إذا كنتَ تقصد التلفزيون الجديد سوريويو سات، الذي هو قيدالتجريب، فقد تواصلوا معي فعلاً وأبديت الاستعداد التام للعمل لكن كمتفرغ للعملوليس بشكل تطوعي أو مجاني، ولدي فعلاً مخطط لتقديم هكذا برنامج أناقش فيه قضاياالغربة والاغتراب، وعشرات المواضيع المتفرعة عنها وما هم قطاع الشباب، إضافة إلىاللقاءات الحوارية مع مبدعين من كافة الأجناس الأدبية والفنية، وكل هذا في القسمالعربي، لكن حتى تاريخه لم أتلقَ ردّاً بخصوص فيما إذا سأعمل في التلفزيون الجديدأم لا، وفي أتلقى ردّاً من إدارة التلفزيون بالموافقة على العمل، سأقدم برنامج حولما أشرت إليه، لكن من رابع مليون المستحيل أن أقدم برنامجاً واحداً إلا ضمن إطارالتفرغ للعمل، لأن الوقت يعصرني ولدي عشرات المشاريع الإبداعية الكتابة، قصة شعر،نصوص، سيناريو، رواية، رسم، الخ الخ فلا لدي ساعة واحدة لعمل تبرعي أو تطوعي، لهذاأنا بصدد البحث عن عمل في أطار تخصصي في المجالات التي أتمكن الولوج فيرحابها! بقي أن أقول، المغترب صديقي، المغتربة صديقتي، أحبائي في الوطنالأم أصدقائي بدون استثناء، فأنا أحب الجميع لأن هدفي من الكتابة أولا وأخيراً هوالإنسان، كائناً مَن كان هذا الإنسان فكيف لا أحب مَن ترعرعت بينأحضانهم! ختاماً: تفضل يا صديقي أترك بين يديك نصّاً سردياً كتبته من وحيمشاهدتي لبعض الصور من ديريك، شاهدت الصور عبر الشبكة العنكبوتية فما وجدت نفسي إلاوأنا أذرف دمعتي فهرت إلى قلمي مقتنصاً هذا النصّ الَّذي وُلِدَ من رحم الحنين إلىسماء ديريك! ديريك يا شهقة الروح! [نصّ] طفرَتْ دموع ساخنة من عينيّ، وأنا ألقي نظرة على صورٍ من شوارعِ ديريك، بلدتي الّتي ترعرعتُ فيها، وتبيّن لي كم أنا قاسٍ على نفسي وأهلي وأصدقائي وشوارعي وأزقّتي الترابيّة التي تبرعمتُ فيها!، وكم تمنّيتُ لو كنتُ داخل كادر الصورة، وأنتم تلتقطون تلكَ الصور. أتساءل باشتعال: هل نحنُ الّذينَ عبرنا المسافات على أجنحة الريح، وتركنا شوارعنا تصرخ في أعماق الليل، تمتَّعنا في ضجيج الغربة، ودهاليز الأقبية الغارقة في موجات الحزن، وسط جموح شوق الروح المنسابة في أعماق الحلم؟! هل ثمَّةَ أجمل من أن يحضنَ الإنسان معابر الصبا، ومخارج الفرح في واحات الطفولة التي احتضنته سنوات طوال، أين نسير يا قلبي، وهناكَ آلاف الصور في الذاكرة تبكي وتنوح من شدّةِ الشوق، أريدُ أن أبكي حتّى أتوازن مع شوقي العميق إلى سماء الأحبّة، كلّ الأحبّة! .. عندما نظرتُ إلى شوارعي وأزقّتي ومعالم فرحي التي خبّأتها بين حنايا الروح، لم أستطِعْ أن أحبسَ دمعتي، فأنا لا أختلفُ عن أيِّ طفلٍ فقد ألعابه الحميمة، ويشتاقُ إليها كلّما هبَّ النسيم العليل من سماء المالكيّة وكرومها وسهولها الفسيحة، نظرتُ إلى المرآة للتأكّد من نقاوةِ دمعتي فوجدتها معفّرة بكلّ أنواع الغربة، وتأكّدتُ أنَّ الحصادَ الّذي حصدته في بحار غربتي، مكثّفٌ بالشوكِ والبربورِ والزؤانِ، ولم أعثر على أيّةِ معالم فرحٍ في تجاعيدِ غربتي سوى هذا الشوق المجنون إلى تلكَ التلالِ وخدودِ الأهل؛ وكلّما أحاولُ أن أعانقَ خلاني، أجدني محاصراً ببحيرات ستوكهولم من كلّ الجهات!.. أنا التائه في أعماق الحرف والبحار والحلم المشنفر بكلِّ أنواع العذاب، لا تصدّقوني يا أحبّائي إن قلتُ لكم أنني سعيدٌ في غربتي، ولا تصدّقوا حرفي عندما يلامس وجنةَ الشفقِ؛ فحرفي وإن علَت قامته، فإنّه يعلو فوق جبهة الروح، تاركاً قلبي يبكي ليل نهار شوقاً إلى ذواتٍ تائهة خلف البحار من الجهةِ الأخرى من جموحِ الروح، كنتُ أظنُّ أنَّ روحي ستهدأُ، لو لملمتُ ديريك حول خاصرة القلب، ديريك مسقط الرأس، تاجٌ من الذهب الصافي، أفرشه فوق روحي، فوق نداوة حرفي، فوق معابر الحنين، فوق طراوة الحلمِ، ديريك صديقتي الأبقى، حبيبة من لونِ البابونج، أوّل أنثى عانقتها من ديريك، أوّل قصّة كتبتها في ديريك، أوّل حرف نقشته في ديريك، أوّل دمعة ذرفتها في ديريك، أوّل حلم مسربل بالإبداع اندلع في ديريك، أوّل نجمة عشقتها، تلألأ وميضها في سماء ديريك، أوّل نورج ركبته في ديريك، وأوّل منجل حملته وحصدتُ فيه سنابل العشق في ديريك، أوّل بيدر فرشتُ فوقهُ أكوام الحنطة في ديريك، أوّل صديقة نبتتْ بين تجاعيد فرحي من ديريك، وأوّل صديق سطعَ فوق خميلةِ القلب من ديريك؛ أحمل ديريك فوق وجنةِ روحي، وأفرشها فوق شهقتي العميقة، أدلقها فوق نهدِ صديقة من نكهةِ الياسمين، أوّل مرّة أشعر بأهمية شوق والدي إلى "آزخ" أو "كوفخ" مسقط رأسهِ، ديريك هي وطني السرمدي الذي أشتاقُ إليه بطريقةٍ صارخة وحارقة، أشتاقُ أكثر ما اشتاقُ إلى أكوامِ الطيّنِ التي رافقتني ثلث قرن من الزمان! لا أنسى أبداً كرومها، أزقتها، أشجارها، ترابها، صيفها ونجومها التي تضحكُ في سمائها القمراء، ألعاب الطفولة تنفرش أمامي فأتذكّر لعبةَ (القتيلة والدامة، والباقوش، والمزعار، والطفش، والشميطونكة، والسيخ، والداربولكة، والكيبالة، والغلوغلو، والكارشو بشّّ، والاعتماد على (التسطو مسطو) قبل بداية كل لعبة، فيرتعش قلبي شوقاً إلى تلالِ الذاكرة البعيدة، فتقفز في أعماق الروح ألعاباً متلألئة بدموعِ الحنين، فأشتاق إلى لعبةِ (البرّي والتوش والبيبة والصلابة والبوكة والصنم والكيلافرّي والبرو برفانو بري وا جاوايا)، ثمّ تأخذني الذاكرة إلى سهول القمح الفسيحة، عابراً البراري مع أحبّتي نبحث عن (الحرشف والحِمحِم والقيفارات والقولكات والبيشّكات وعين البقرة وزهور الختمية)، نلملم بمتعة باقات (القنجرّيه).. نقطِّعها ونخلطها مع الثوم والجبنة الناعمة كي نصنع منها (سيركة) للشتاء الطويل، وكم كنت أفرح عندما كنتُ أشاهد (زيغلانة) في أرضٍ خصبة، كنتُ أستأصلها من أعماق جذورها، وأقشّرها وآكلها بلذّة طيّبة، وكأنّها نبتة الحياة! طفولة من لون النعناع البري، تتراءى أمامي شامخة مثل باقات النرجس البرّي عندما كنّا نقطفها من (كفري حارّو) ونحن صغار، ثم نأتي ونقدّمها لأساتذتنا، حيث يملأ أريجها معابر الصفوف، أشعر الآن وكأنني أشمّ عبق شذاها، فتخرّ دمعتي شوقاً إلى عوالمِ طفولتي الفسيحة المتلألئة مثل سنابل الروح، طفولة متناثرة فوق معابر أزقّتي البعيدة، مترامية حول ضفافِ الأنهار، نلمُّ باقات (القرّامِ) ونصنع منه (ريسيّات) كي نقطع مجرى النهر لإصطياد سمكِ الشبوطِ، أتذكّر كيف كنتُ أركض خلف الفراشات و(الجزجزوكات) والجراد وفرس الأمير، هسيس الحشرات يعبر مخابئ الحلم، نلملم باقات السنابل والحمّص الأخضر والعدس و(شولكة) العصفور وشولكة (الشايكْ)؛ إنّي أتوه شوقاً إلى هواءٍ عليل، إلى أزقّةٍ طينيّة غارقة في شهقات الحنين.. ما كنتُ أظنُّ أنّ لملمةَ شواطئ الذاكرة لا يروي غليل الحنين المحفور في جبهة الروح، هل نحن الذين نرسم أزقّتنا بلون المحبّة، وتهنا خلف البحار، وجدنا مخدّة مريحة أكثر راحة من مخدّة الأم؟، أين أنتِ يا أمّي، لتري كم مخدّتي قاسية وخشنة كأنها مصنوعة من بقايا التبنِ، لا راحة ولا فرح يلوحُ لي في الأفقِ. لماذا ابتعدتَ كثيراً عنّي يا أفقي، وهل ثمّةَ أفقٍ مريح لما أرنو إليه في سماءِ الغربةِ؟ هناكَ ألف سؤالٍ وسؤال يراودني، وكلّ سؤال يذبحني من الوريدِ إلى الوريدِ قبلَ أن أجيبَ عنه، فلا أجيب عن أسئلتي، وأهرب منها بإنهزاميّة قاتلة، ولا أجد سوى حرفي، فأدلقه بكلّ شهوة فوق نصاعةِ الورقِ، لعلّي أخفِّفُ قليلاً من وهجِ الشوق إلى سماءِ الطفولةِ آهٍ.. يا طفولتي البائسة، لماذا أشتاقُ إليكِ رغمَ بؤسكِ، ورغم كثافات الطين التي كانت تحيق بي حتّى ركبتي؟! وجعٌ لا خلاص منه مرّةً، وأنا غائصٌ في أكوامكِ الطينيّة ومرة شوقاً إلى تلكَ الأكوامِ، معادلاتٌ لا أجدُ لها حلاً ولا توازناً، فلا أجدُ نفسي متوازناً مع نفسي، إلا عبر الحرفِ، وحده حرفي يعيد إليّ قليلاً من توازنات معالمِ تيهي المتطاير بين أجنحةِ الليل، ليل غربتي، لو تعلموا كم من الساعات بكيتُ في رحابِ غربتي، تسربلني كآبة الشتاءات الطويلة، أريد أن أفضحَ لكم هذا الذي يدعى (صبري)، هذا الّذي يفرشُ حرفه فوق لجين الغسقِ، غير آبهٍ لجمرةِ الشوقِ المتلألئِ في سماءِ الحلقِ، إلى متى ستكابر أيّها الكاتب (الخياليّ)، أيّها المجنّح في سماواتِ الحرفِ، أينَ المفرُّ من الحنانِ والشوقِ إلى أحضانِ الأحبّةِ وعظامِ الأهلِ؟ البارحة رأيتُ والدي في حلمي، رأيته يحلّقُ فوق البحار عابراً المسافات، بقامته القصيرة وعقاله و(شرواله)، رأيته واقفاً أمامي بهيكله العظميّ، وليس بهيئته الطبيعيّة، خرجَ من قبره غير مكترث بأبجديات الموتِ، جاء كي يعرّي خشونتي، وعدم اكتراثي لجمرةِ الشوقِ، زارني في الحلمِ كي (يشرشحني)، عبر غربتي وأنا غائصٌ في تضاريس الحلمِ، هزّني من كتفي، اندهشتُ من صلابة العجائزِ رغمَ ذوبانِ البدنِ: هيكلٌ عظميّ بكل عنفوانه، جاءني، كي يوقظني من نومي، ويحقِّقَ لي ولو قليلاُ لما تبقّى من خصوبةِ الحلمِ، احتنضتُ العظام الحنونة، فتراءت لي سهول القمح وكروم الفرحِ واخضرار الأيام والشهور والسنين التي عشتها بين أحضانِ الأسرةِ، حلمٌ من لون الادهاش والاندهاش، أسرة ملوّنة بكلّ أنواع الفرح والبكاء، ما يزال حنوناً حتّى بعدَ الموتِ وسيبقى إلى ما بعدَ الموت، استبدلَ مخدَّتي بوسادة من طراوةِ السنابل، وزيّن لحافي بعناقيدِ المحبّة والأبوّةِ، عبرتُ دهاليز أزقّتي، نهضتُ من نومي فجأةً وإذ بي أجدُ وسادتي مطرّزة بنداوةِ الدمعِ، شعرتُ بالإرتعاشِ والخوفِ من خشونةِ غربتي ومن وجعِ الشوقِ، ثمَّ ارتسمت أمامي مشاهدُ الوداع الأخير، وتراءت أمامي الأحبّة، ثمَّ تغلغلَ الحزن في أعماقِ الروح والبدنِ، وتساءلتُ: كيفَ عبر والدي كلّ هذه البحار؟ جاءني كي يبدّدَ آهاتي ويفجِّر بي وهجَ الحنان إلى العظامِ، عظام الّذين أنجبوني للحياةِ!.. هل ثمّةَ شيء في الدنيا أغلى من عظامِ الأمِّ، من عظامِ الوالدِ الحنونِ؟ عجباً أرى كيف تحمّلتُ كل هذه السنين، وأنا بعيد عن شهقةِ الأحبّة؟ هل أنا طبيعي ومن لحمٍ ودمّ؟ يراودني أنَّ قلبي تصلّبَ من خشونةِ المسافات، ربّما من شدّة الحزنِ أو من وطأةِ الشوقِ أو ربّما من وجعِ الحنين، لهذا تجاوزت كل أنواع الشوق، وتهتُ في عوالم ما بعدَ الشوق، لأنّ الشوقَ لم يعُدْ يبلسمُ خدّي، فما وجدتُ في سماء غربتي مَنْ يعانق وجع الشوق غير حرفي، اعذروني يا أحبّتي لو كنتُ قاسياً بحقّكم أكثر من حجرِ الصّوانِ فقد خلخلت الغربة أجنحتي فلم أجد نفسي إلا وأنا أندفع في رعونةِ الريحِ وغدرِ البحرِ، فتأكسدتْ لغة الشوق مع أحجار الصوان من شدّةِ حزني وألمي فلم أجد ما يسعفني سوى قلمي كي أكتبَ عن غزارةِ الدموع بعدَ هبوطِ الليلِ، وعن جمرةِ الشوقِ بعدَ أن حلّقت في أعماقِ السماء، لكنّي خبّأتُ كلّ تلاوين الحنان بين خميلةِ الروحِ، فلم أستطِعْ أن أفشي لكم بكلّ أسراري، كي لا تقلقوا على خشونة الانتظار، لكن آنَ الأوان أن أفضحَ لكم نفسي وأصارحكم وأنا بكاملِ قيافتي: أنَّ عينيَّ لم تذُق طعمَ الفرح منذ أن عبرتُ البحار، ومنذ أن تسلَّلتُ من بين أحضانكم الدافئة ولم أجد حضناً أدفأ من أحضانكم ومع كلّ هذا الإنشراخ، لا تقلقوا، فأنا لم ولن أنساكم يوماً واحداً، سأعود يوماً إلى مساحات طفولتي المتناثرة بين خدودكم الطافحة بالعذوبةِ، كي أفرشَ لهيبَ غربتي وشوقي فوقَ أحضانِكم الفسيحة، وأشهقُ بكلِّ فرحٍ شهقةً عبقة أكثر من بهجةِ الإنتشاء! ستوكهولم: 1 . 9 . 2003 صياغة أولى 13 . 7 . 2004صياغة أخيرة صبري يوسف كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم sabriyouse1@hotmail.com www.sabriyousef.com |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|