Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الادبي > نبض الشعر > مثبت خاص بفؤاد زاديكه > خاص بمقالات و خواطر و قصص فؤاد زاديكه

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-12-2025, 12:42 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 48,598
افتراضي السّلامُ المَنشودُ بين حُلمِ الإنسانيةِ وواقعِ الصّراعات بقلم: فؤاد زاديكى

السّلامُ المَنشودُ بين حُلمِ الإنسانيةِ وواقعِ الصّراعات


بقلم: فؤاد زاديكى

يُعَدّ السّلامُ أحَدَ أسمى القيمِ، التي تَطمَحُ إليها الإنسانيةُ مُنذُ وجودها على هذه الأرض، فهو الغايةُ التي يَنشُدُها الإنسانُ ليحيا آمِنًا مُطْمَئنًا، بعيدًا عن الخوف والقتل والدّمار. غير أنّ المتأمِّلَ في تاريخ البشرية يَلحَظ أنّ الحروب والنّزاعات لم تُفارقْ مسيرتَها، وكأنّ السلامَ ظِلُّ فكرةٍ مثاليةٍ أكثرَ منه واقعًا مُعَاشًا. فمُنذُ أقدمِ العصورِ وحتّى يومِنا هذا، لم تَعْرفِ البشريةُ زَمَنًا خاليًا من الصّراعات، الأمرُ الذي يَطرَح تَساؤلاتٍ عميقةً حولَ إمكانيةِ تَحَقُّقِ السّلام يومًا ما في عالَمٍ تحكُمُه المصالحُ وتُدَارُ فيه النّزاعاتُ بالقوّة.

تَكمُن أهميةُ السّلام في كونِه الأساسُ الذي تَقومُ عليه نهضةُ المجتمعاتِ وتطوّرُ الحياة في مُختَلِفِ جوانِبها. فعلى الصّعيدِ الإنسانيِّ والاجتماعيِّ، يُوفِّرُ السّلامُ بيئةً يَسودُها الاستقرارُ والتّعايشُ، ويعزّزُ قيمَ التّسامح والاحترام المتبادَل بين الأفراد والشّعوب. وفي ظلّه، تَتماسكُ الرّوابط الاجتماعية، ويشعرُ الإنسانُ بالأمان والانتماء، فتزدهرُ العلاقاتُ الإنسانيةُ وتُصانُ الكرامةُ البشرية. أمّا في غياب السلام، فإنّ العنفَ يُدمِّرُ النّسيجَ الاجتماعيَّ، ويزرعُ الخوفَ والكراهيةَ، ويُحَوَّل الإنسانُ إلى كائنٍ مُهدَّدٍ في وجودِه ومستقبلِه.

ومن النّاحيةِ الاقتصادية، لا يُمكِنُ لأيّ مجتمعٍ أنْ يُحقّقَ تَنميةً حَقيقية في ظلّ الحروب. فالصّراعاتُ تستنزفُ المواردَ، وتُدمِّرُ البُنيةَ التحتيّةَ، وتُحَوِّلُ الطاقاتِ البشريّةَ من البناءِ إلى القتلِ والدّفاع. بينما يُتيحُ السّلامُ تَوجيهَ الجُهود نحوَ الإنتاجِ، والابتكارِ، وتَحسينِ مستوى المعيشة، وبناءِ اقتصادٍ مُستقرّ قادرٍ على تلبيةِ حاجاتِ الإنسان. وكذلك الأمرُ في المجالِ العلميّ والثّقافيّ، إذ لا يزدهرُ العلمُ ولا يُبدِعُ الفكرُ في أجواءِ الفوضى والدّمار، بل يحتاجُ إلى الاستقرارِ وحريّةِ التّفكيرِ، وهما ركيزتانِ لا تتحقّقانِ إلّا في ظلّ السّلام.

ورَغم هذه الأهميةِ القُصوَى، يَظَلّ تحقيقُ السّلامِ العالميّ أمرًا بالِغَ الصّعوبةِ، بسببِ مُعوِّقاتٍ عديدةٍ في مُقدّمتها المصالحُ السّياسيةُ والاقتصاديةُ للقُوَى الكبرَى، التي غالِبًا ما تَجِدُ في الحروبِ وسيلةً لِفَرضِ النُّفوذِ والسّيطرة. كما تلعَبُ الأيديولوجياتُ المُتعصّبةُ، والنَّزْعاتُ القوميةُ والدّينيةُ المُتطرّفةُ، دَورًا خَطيرًا في إشعالِ الصّراعاتِ وإدامتِها. ويبرُزُ عامِلٌ بالِغُ الخُطورَة يَتمثّلُ في شَرِكاتِ تصنيعِ الأسلحةِ، التي تحقّقُ أرباحًا هائلةً من استمرارِ الحروبِ، ما يجعلُ السّلامَ تهديدًا مباشِرًا لمصالِحِها. فكيفَ يُمكنُ للعالَمِ أن يَنْعَمَ بالسَّلامِ، وسُوقُ السّلاحِ مُزدهرٌ، وآلاتُ القَتلِ تُنتِجُ بلا توقّفٍ وبأحدثِ التّقنيات؟

إنّ غيابَ السّلام يُخَلِّفُ آثارًا مُدمِّرَةً على المجتمعاتِ البشريةِ، تَبدأ بِفُقدانِ الأرواحِ ولا تنتهي عندَ حدودِ الدّمارِ المادّي. فالحروبُ تُشرّدُ الملايينَ، وتنشُرُ الفقرَ والمرَضَ، وتُخَلِّفُ جِراحًا نَفسيةً عَميقةً، لا سيّما لدى الأطفالِ الذين يَنشؤونَ في بيئاتٍ يَسودُها العُنفُ والخوف. كما تؤدّي إلى انهيارِ القِيَمِ الإنسانيةِ، وانتشارِ الحقدِ والرّغبةِ في الانتقامِ، ما يُهدِّدُ بإدامةِ دَوّامةِ العُنفِ عبرَ الأجيالِ.

وأمامَ هذا الواقعِ القاتِمِ، يَبرُز دورُ أصحابِ الفكرِ والإبداعِ بوصفِه أحَدَ المسارات الإنسانيةِ العميقةِ نحو تَرسيخِ ثَقافةِ السّلام، وإنْ بدَا هذا الدّورُ غيرَ مباشِرٍ مُقارَنةً بقوّة السّلاح. فالشّعراءُ والأدباءُ والفنّانون والمفكّرون يَمتلِكُون ما يُعرَفُ بالقُوَّةِ النّاعمةِ، القادرةِ على التّأثيرِ في الوعي الجَمْعِيّ وتشكيلِ وِجدانِ الشّعوب. لقد كان الشّعرُ، عبرَ العُصورِ، صوتَ المقهورين وصرخةً في وجه الظّلم، يحمِلُ رسائلَ ترفُضُ الحربَ وتُمجّدُ الإنسانَ. كما استطاعَ الأدبُ، من خلال الرِّوايةِ والقِصّةِ والمَسرحِ، أن يَنقُلَ مُعاناةَ الشّعوب، ويُقَرِّبُ بين الثّقافات، ويكسِرَ الصّورَ النّمطيةَ التي كثيرًا ما تقِفُ خلفَ النّزاعاتِ.

أمّا الفنونُ بِمُختلَفِ أشكالِها، من موسيقَى ورسمٍ وسينما، فقد أثبتتْ قُدْرتَها على مُخاطبَةِ المشاعرِ الإنسانيةِ بِعُمق، والتّعبيرِ عن رفضِ العُنفِ والدّعوةِ إلى السّلام بلغةٍ يَفهمُها الجميعُ دونَ حاجةٍ إلى ترجمةٍ. وكثيرًا ما كانت لوحةٌ فنّيةٌ أو لحنٌ موسيقيٌّ أبلغَ تأثيرًا من خِطابٍ سياسيٍّ مُطَوّل. كما يُسهِمُ المفكّرون والفلاسفةُ في تَحليلِ جُذورِ الصّراعات، ونَقدِ أنظمةِ الظّلم، وطَرحِ رؤًى بديلةً تَقُومُ على الحِوارِ والعدلِ بَدَل القُوّة. ورَغمَ أنّ تأثيرَ المُبدعين قد يكونُ بَطيئًا وتَرَاكُميًا، إلّا أنّه عميقٌ ومُستدَامٌ، لأنهُ يعملُ على تَغييرِ الإنسانِ من الدّاخلِ، وبِناءِ وَعيٍ يرفُضُ الحربَ ويُؤمِنُ بقيمةِ السّلام.

يَبقَى السؤالُ الأشدُّ إلحاحًا: هل يُمكنُ أن يَعُمَّ السّلامُ يومًا ما العالَمَ؟ إنّ الشكّ في ذلك يبدو مُبَرَّرًا في ظلِّ تاريخٍ طويلٍ من الحروبِ، واستمرارِ سِباقِ التّسلُّح، وتغليبِ المصالحِ على القِيمِ. وربّما يكونُ السّلامُ الشّاملُ حُلمًا بعيدَ المَنَالِ في الواقعِ الرّاهنِ، لكنّ هذا لا يَعني الاستسلامَ لليأس. فالسّعيُ إلى تَقليلِ الحُروبِ، ونشرِ ثقافةِ السّلام، والدّفاعِ عن الإنسانِ وكرامتِه، يَظَلّ واجِبًا أخلاقيًا لا غِنًى عنه.

وفي الخِتامِ، يُمكِنُ القولُ إنّ السَّلامَ المنشودَ يَظَلّ حُلمًا إنسانيًا كبيرًا تَصطَدِمُ به تَعقيداتُ الواقعِ وقَسوةُ المَصالِحِ، غيرَ أنّه حُلمٌ لا يجوزُ التَّخلّيُ عنه. فبينَ عالمٍ تحكُمُه الأسلحةُ، وكلمةٍ تُحاولُ إنقاذَ الإنسانِ من نفسِه، يبقى الخِيَارُ مَفتُوحًا أمامَ البشرية: إمّا الاستمرارُ في طريقِ الدّمار، أو الإيمانُ بأنّ السلام، وإنْ تأخّرَ، يستحِقُّ أن يُنَاضَلَ من أجلِه.
__________________
fouad.hanna@online.de


التعديل الأخير تم بواسطة fouadzadieke ; 17-12-2025 الساعة 05:52 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:00 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke