Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الادبي > نبض الشعر > منتدى فرعي خاص بالأديب الشاعر صبري يوسف > نص أدبي

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-10-2009, 06:04 PM
SabriYousef SabriYousef غير متواجد حالياً
Silver Member
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 594
افتراضي دموعٌ منسابة من مآقي عزيز بولو وآل بولو وكلّ الأحبّة

دموعٌ منسابة من مآقي عزيز بولو وآل بولو وكلّ الأحبّة

إهداء : إلى روح جورج عزيز بولو وجدّه كوركيس بولو



حمل رنين الهاتف عبر ذبذباته هواجس ذاكرة بعيدة موغلة في منعطفات مرابعِ الطفولة، وديع عمسيح ينقل إليّ أخباراً عبر نقَّالي الصغير، توقظ جراحاً وذكرياتٍ غائرة في أراجيحِ الطفولة، تناثرت دمعة مالحة سخيّة فوق روابي غربتي، لم أستدرك فحوى الخبر في بادئ الأمر، تخيَّلته يقول أن عمّه أبو عزيز وافته المنيَّة، وعندما صحَّح لي الخبر، تصوَّرته يقول، أن المتوفي هو عزيز ابن عمّه، فقفز إلى ذهني أخي سليمان وعزيز شمعون عيسكو الراحل في غربته، وعزيز كوركيس بولو عابراً هضاب ما بعد القارات، الثلاثي الشَّامخ في دنيا من بكاء!

وفيما كنتُ أقدِّم أسفي الشَّديد وحزني العميق لوديع على رحيل صديق أخي وصديق الحارة القديمة، بدأ يقول، يا صديقي ركّز معي، المتوفي ليس ابن عمي عزيز، هو جورج ابن عزيز، مهندِّس شاب في باكورة العمر، ففاجأني أكثر، وتبرعمت قامة الراحل الفتية أمامي مثل أغصان غربتي المسترخية على حافات البحار، حيث التقيتُ منذ سنوات مع عزيز ونجله المرحوم في دار عمِّه شمعون بولو بعد أن اتصل معي أحد أبنائه، قائلاً إن عزيز ابن عمي هنا، يريد اللقاء بكَ هو وابنه القادمان من كندا، تركتُ كلّ شيء ووجَّهت أنظاري نحو العزيز عزيز كوركيس، عانقته بفرح بعد غربة دامت أكثر من ربع قرن، قدَّم إلي ابنه البكر الوحيد، عناقٌ دافئ، سحنة عزيزية مبهجة للقلب، ثم قدَّمني لابنه قائلاً هذا هو صديقي صبري وأخو صديقي سليمان، وطلب من ابنه أن يصوِّرنا على كاميرة فيديو ليحتفظ بصورنا ذكرى للأيام القادمة المحفوفة بالبكاء، أتساءل هل صوَّرني أحدهم آنذاك مع وحيده جورج، هذا الذي رحل في أوج ربيعه، رحل فجأة وكأنه كان حلما جميلاً بين أيدينا ثم عَبَرَ فجأةً زرقة السَّماء، كيف يرحل الأبناء تاركين خلفهم أجدادهم في مرافئ شيخوختهم على قاب قوسين من مثواهم الأخير، وآبائهم في قمة شغفهم وفرحهم بأبنائهم، وأعمامهم وأخوالهم وأصدقائهم وأصداقاء أهلهم وذويهم في غايةِ الأسى والأنين؟ كيفَ يرحل شاب في عمر الزهور، أراه مرةً واحدة، ثمَّ يتركني مُدمى على قارعة غربتي وشوقي وحنيني إلى أزقّتي الطينيَة التي ترعرعت فيها على تخوم بيوتنا العتيقة المتعانقة مع أغصانِ الدَّوالي وأزهار البابونج والنعناع البرّي، يرحل تاركاً خلفه طفولتي ويفاعتي تنفرش على مساحات ذاكرة مخضَّبة بالسنابل، حيث ألعاب الطفولة كانت تمشط روحنا من أنين وشظف الحياة، نلعب في تلكَ الحارة المكتنزة بذكرياتٍ لا تنسى، نلعب حتى أنصاص الليالي ونعود خلسةً إلى بيوتنا موجهين أنظارنا نحو عرازيلنا الكبيرة ونعبر بهدوء على حفيفِ النَّسيمِ تحت ألحفتنا، نعدُّ النُّجوم المتلالئة في قبّة السَّماء، ذكريات محفورة في وهج الذاكرة المتلألئة بالفرح والبكاء، كم مرة حاولت الفرار من ذاكرتي فلم أنجُ من الفرار، ذاكرة نقية مبرعمة بالسَّنابل وعبق البخور المتصاعد خلال أيام الآحاد والأعياد، ولم أجد بدَّاً من الانعتاق من ذاكرتي في متاهات غربتي سوى قلمي حيث يمنحني ألقاً وبهجةً للولوج في اخضرارِ سهول القمح تارةً وفي أكوام الطين تارةً أخرى، ذكريات غارقة في خيوط الحنين، تمنحني فرحاً رغم سماكات الطِّين التي كانت تعانق أقدامنا ونحن نعبر أزقَّتنا متوجِّهين نحو المدارس كي ننقش الحروف على دفاترنا الطَّافحة بدموع لا تخطر على بال!

مراراً صدَّني الشَّارع المتاخم لبيتكم العتيق يا عزيزي عزيز من متابعة المسير، حيثُ أكوام الطين كانت تضاهي قامتي الصغيرة، وهدير الساقية الهائجة كان يهدِّد حقيبتي المدرسية، فكنتُ أتراجع مركِّزاً سيري على محاذاة بيتكم ثمَّ أعبر من الجهة الخلفية إلى أن أصل إلى بيت (اسحق مرادي) المقابل لبيت القس أفريم الراحل في سماوات الغربة، وهناك كنتُ أنظرُ حولي متمتماً، إنَّ المخطط الأسلم للوصول إلى الشارع الاسفلتي، هو قطع الشارع المؤدّي إلى اعدادية يوسف العظمة، الملاصقة أسوارها عبر الأشرطة الشائكة لحوش القس أفريم، عابراً باحة المدرسة من خلال فتحة صغيرة في الشريط الشائك، أسير من خلف المدرسة كي أخرج من الباب الرئيسي، عندها أصبح في برّ الأمان!

أي أمان هذا الذي كنت فيه وأنا أقطع الأزقة المرصرصة بأكوام الطين والبيوت وباحات المدارس مبتعداً عن مدرستي أكثر من الاقتراب نحوها، ولكن مع كل هذا شعور بالفرح كان ينتابني لمجرد أنني على شارع اسفلتي سيؤدي بي إلى باحةِ مدرستي مستسلماً لقدري المكتنف بالطين والمطر وأحزان الشمال، حكّمت يدي على حقيبتي المدرسية والتي كانت عبارة عن كيسٍ من النايلون السميك الذي خاطته لي أمي بدقة شديدة كي تمنع عبور البلَل إلى دفاتري وكتبي المدرسية.
وصلت إلى مدرستي، ناظم الطبقجلي، التي كانت في أقصى شرقي المدينة وأنا كنتُ أسكن في ديريك العتيقة في أقصى الشمال الغربي من ديريك، وكم كنتُ أتمنى لو باع والدي بيتنا العتيق واشترى لنا بيتاً بالقرب من مدرستي ولكنه كان مصرَّاً أن يظل بيتنا بالقرب من البيادر، لأن مخططاته مع بقية الفلاحين كانت مركَّزة على قربهم من البيادر وللبيادر والنَّوارج ذكريات تأخذ كتابتها معي فصولا مسترخية على ينابيع هضاب الرُّوح! آهٍ يا روح وألف آهٍ يا بيادر!
وصلت المدرسة والتلاميذ مصفوفين على مساحة كبيرة من باحة المدرسة، عبرتُ من تحت الشريط الشائك بعيداً عن أنظار الأستاذ المناوب عند مدخل المدرسة، أخذتُ ركناً قصيَّاً من جدار المدرسة وبدأت أغسل جزمتي الطويلة بسرعة بماء المزريب المتدفق من بوري كبير، ثم دخلت خلسة من الجهة الخلفية مع الطلاب المتدفقين اثنين اثنين إلى صفوفهم، شعرت بفرح كبير عندما جلست على مقعدي وكأنني وصلت إلى قمة جبال هيمالايا!

لم أتذكر نفسي يوماً أنني مشيتُ على أرضٍ صلبة، دائماً يراودني أن الأرض التي أسير عليها رخوة للغاية، متعرّجة، شديدة الوعورة والانزلاق، معفَّرة بأكوام الطين، أرضٌ كانت يوماً أرض الحضارات، ثم غدت رويداً رويداً وبالاً علينا، لا نعلم أين المسير وإلى أين سينتهي بنا المصير، لهذا أرانا تبعثرنا في أطراف الدنيا نبحث عن موطئ قدم، وكلما أمعن النظر في مواطئ أقدامنا أراها تزداد انزلاقاً، وضجراً، وغربةً وانشراخاً، غالباً ما أنهض من نومي وأنا في سماء غربتي، وأشعر عبر الحلمِ أنني ما أزالُ في بيتي العتيق، ما هذا التلاحم والتواصل الحميمي مع أكوامِ الطين المترامية حول بيتي العتيق، لماذا أحنُّ إلى مسقط رأسي رغم انني ذرفت في جنباته دموعاً من لونِ حنين السَّماء إلى منعرجاتِ خلاصِ الرُّوح، من لونِ حنين الأرض إلى حفيف الليل الطويل، أين أنتِ يا أزقتي، وأين أنتَ يا بيتي وطيني، كي أنزلق ولو قليلاً بين توهانِ أخاديدك الرازحة فوق سواقي العمر، آهٍ ضاع عمرنا في مهبِّ الانزلاق، انزلاقُ الغربة في تشظيات الحلم، انزلاق الشوق في حكايا وأقاصيصِ الليل، ليلنا في دنيا الغربةِ لا يشبه منارة الشرق ولا بوح الشمس في عرين السماء، لا يشبه نجوم الشرق، ولا ضياء نجمة الصباح وهي ترنو إلينا قبل أن نوجّه أنظارنا إلى نداوة الكروم، نقطف عناقيد العنب، كم من سلال العنبِ قطفناها من تلكَ الكرومِ، نكهةٌ ولا نكهاتُ الكونِ تعادلُ مذاق تلكَ العناقيدِ، كم أرغب لو توفرت بقدرة قادر سلالٌ من تلك السلال هنا الآن، كي نقدِّمها للأحبة المعزِّين في عرينِ الغربة أثناء التعازي، كي يعلموا كم فقدنا من نقاواتِ الحياة، كم من مرارات الحياة شربنا، وكم فقدنا من بهجةِ العبور في خصوبةِ الكرومِ، أين أنتِ يا دالياتي؟!

لن أنسى أبداً عندما قلتُ لاخوتي قبل أن أعبر جهةَ البحرِ، لو اضطررتم يوماً وضاقت بكم الدنيا، (بيعوني) ولا تبيعوا دالياتي! لكنهم لم يسمعوا إلى نصيحتي ولم يكترثوا لانصهاري في حبِّ الكرومِ، لهذا باعوا شهقتي الأولى دون أن يفكروا بانسياب دمعتي وأنا تائه فوق أرصفة الغربة، أناجي دالياتي ونجمة الصباح شاهدة على نضوحِ دمعتي قبل انبلاجِ خيوطِ الشَّفقِ على بوحِ الأنينِ، آهٍ .. تخلخلَتْ أجنحتنا فوقَ بوَّاباتِ المدائنِ، بوَّاباتٌ في منتهى الروعة، لكنها تفصلني عن بسمة الأحبة، عن رحيل أجنحة الشباب، قارات تفصل بيننا، كيف سأصل إلى أحضان عزيز بولو وأقدّم له حنين القلبِ، أين أنتَ الآن يا هاني بولو، آهٍ لو ترى كيف تنساب دمعتي فوق شفير غربتي، وأنتَ يا قسطنطين أراك تعلن غضبك على الجراح المتفاقمة فوق جبينِ البلاد، بلاد الحضارات غاصت في قاعِ المتاهاتِ، وأنتَ يا أدمون هل تغلي شوقاً إلى سماء ديريك لتعانق جبال الحزن المتراكمة فوق شيخوخة الوالدِ، أحزانٌ غائرة تنضح من مآقي الأمِ، آهٍ وألف آهٍ يا عزيزي عزيز يا أبا جورج، لو تعلم كم من البكاء حتى هاجت الريح، كيف تستطيع أن تصمد في وجه زلزالِ الفراقِ، كيف تستطيع أن تخفِّفَ من لظى القلب، آهٍ لو كنتُ بلسماً يشفي انشطاراتِ جراحِ الرُّوحِ!
عجباً أرى يا جراحي، قبل أن أتممَ تفاصيل انسياب دمعتي، راودني أن أعبر قليلاً في خضمِّ الأثير، وإذ بي أقرأ ما تفاقمَ من أسى في فيافي الروح، جدُّ جورج الشاب الراحلِ، يرحلُ قبل انبلاجِ الضياءِ، يرحلُ من شدة تفاقمِ الشوقِ والأسى إلى حفيدٍ حلَّقَ عالياً نحوَ سموِّ السَّماءِ، هل حنَّتِ الروحُ إلى مزاميرِ اللقاءِ في خدورِ السَّماءِ؟!

يرحل العم كوركيس بولو أبو عزيز في اللحظات التي كنتُ أفرش دمعتي فوق بخور الفراقِ، فراق حفيدٍ من لونِ دمعة الروح، يرحل قبل أن أتمم تفاصيل أنيني، كيف سألملم ما تبقَّى من تشظّياتِ القلب، مَن أعزّي هذه المرة، وبأي جهةٍ أفرش اشتعالاتِ قلمي، تاه قلمي ما بين نداءِ الكروم وما ينسابُ من دموعٍ خلفَ البحارِ، جهتان متاخمتان لغليانِ العناقِ، عناقُ الأحبّة، في صباح العيد، في صباح العزاء، في صباحٍ طافحٍ بالبكاء، أهلاً بكِ يا غربتي، يا أحبتي، يا أصدقاء الطفولة، يا لونَ حلمي الغافي فوق أسرار البحارِ، تعالوا يا آل بولو أنقش فوقَ خدودِكم جميعاً مذاق دمعتي لعلِّي أخفِّف ولو قليلاً من حنينِ الرُّوحِ إلى أزقة ديريك العتيقة، ذاكرة تسمو عالياً، تهفو إلى قاماتِ شبابٍ وأجدادٍ متعانقة في ضياءِ السَّماءِ!


ستوكهولم: 17. 2009.10
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

التعديل الأخير تم بواسطة SabriYousef ; 20-10-2009 الساعة 05:21 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-10-2009, 05:12 AM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,879
افتراضي

عزيزي صبري على الرغم من معرفتنا الأكيدة بأن ما حصل هو مشيئة ربانية و هو حكم صادر على كل البشر إلاّ أن وقوع هاتين الحالتين الأليمتين في زمن متقارب’ فإنه يدمي القلوب أكثر و يسعر النفوس. ليس أمامنا سوى أن نتوجه بكل التعازي القلبية الصادقة و الحارة لكل آل بولو الأحبة معزينهم بهذين المصابين الكبيرين و راجين من الرب لهما كل الصبر و السلوان و الرحمة لروحي الفقيدين الحبيبين الشاب جورج و العم كوركيس بولو أبو صديقنا الغالي الأستاذ قسطنطين. مشكور على هذه المشاعر النبيلة و هذا الدفق من الاحساس الجميل النابع من قلب صادق و محب و نفس طيبة جميلة.أبعد الرب عن حياتكم كل مكروه صديقي المحب صبري.
__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:16 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke