![]() |
Arabic keyboard |
#1
|
|||
|
|||
![]() المنتدى أبي رجل عجوز ومتقدم في العمر, جاوز الماءة عام, أطال الله بأعماركم جميعا, وما زال حتى كتابة هذه الخاطرة, يتمتع بعقل كامل الوعي, ويخفي ذاكرة لم تطالها شوائب النسيان, ويمتلك نظرا حادق البصر, وله أذنا جيدة مرهفة السمع لم يقترب منها الصمم, وقد أنعم الله عليه بطاقة مميزة, وقوة عضلات لافتة, ورغم طوله الممشوق البنية, ما زال مستقيما غير حاني الظهر, يمسك القلم بثبات الأصابع النحيلة, ويخط الكلمات بهدوء, لتأتي متناسقة, يتباهى بها بين الأقران, ويمارس النفخ في شبابته عازفا أجمل الألحان دون نشاز ... بقلم حسين أحمد سليم آل الحاج يونس Hasaleem يمشي أبي بعنفوان رافع الرأس, لكنه شديد التواضع يتواصل مع الجميع, تنضح من قلبه طيبة معهودة, وتشف نفسه عن لطافة معروفة, لا تستطيع التفريق بينه وبين روحية الشباب, تخاله فتى يافعا وأنت تجالسه أو ترافقه... يهتم كثيرا بمظاهر شكله, ويولي لباسه عناية خاصة, مفتول الشوارب الدقيقة الطويلة, كثيف الحاجبين, يكلل ما تبقى من شعر في رأسه الشيب... وهو يعتمر الكوفية العربية المخططة بالأسود حينا , وحينا يعتمر الكوفية المخططة بالأحمر, وأخرى يستخدم الكوفية البيضاء اللون, يثبتها بعقال أسود اللون مطرزا بالقصب, تتدلى منه شرابة في نهايتها, كريات ثلاث منمنة من الخيطان الحريرية الناعمة... ما زال أبي رغم إقامته في ضاحية بيروت الجنوبية, ورغم كثرة تجواله ومعارفه بطبقات المجتمع المختلفة, ما زال يلبس الشروال العربي الفضفاض الأسود, بسرجه الواسع الهابط بين رجليه, المطرز المنمنم عند أطرافه, يحزمه عند خصره النحيل, بدكة من حبال الكتان المجدول جيدا حتى لا تنقطع... ويلف خصره عند الدكة بالزنار العريض الطويل من قماش الحرير الناعم اللامع الأسود, ويرتدي قميصا أبيض اللون ناصعا ومطرزا عند الأكمام, أزراره لماعة من الذهب, وبلا ياقة عند الرقبة, تثبت في جانبه الأمامي الأيسر جيبا فوق القلب, تحمل ساعته المدلاة بسلسال من الفضة... ويلبس فوق القميص سترة من نفس قماشة الشروال, محلاة بأجياب مطرزة عند الحوافي, وأكمامها منمنمة مطرزة أيضا, يبرز في جيبة سترته عند اليسار أطراف محرمة قماشية بيضاء اللون, وعند طرف ياقة السترة, يثبت وساما صغيرا من الفضة, يحمل أرزة لبنان مكللة بالغار, حصل عليه منحة خاصة, تكريما له لخدماته في طول البلاد وعرضها... دائما ترى أبي في يده سبحة طويلة كبيرة الحبيبات مرجانية اللون, تتدلى منها شرابة فضية بسلاسل ثلاث, تحمل كل منها بقايا عملة قديمة, كانت مستعملة في قديم الزمان في لبنان, يحلو له أن يطقطق بحباتها وهو يحادثك عن مغامراته في عهد الشباب... وفي يده الأخرى يحلو له أيضا, أن يمسك عصاة محلاة بالنقوش التراثية والفلكلورية, مطعمة بمسامير من النحاس الأحمر والأصفر, ذات رأس منحوت ومزخرف شبيه برأس الأسد ملك الغاب, وعصاة أبي مقطوعة من جذع شجرة سنديان معمرة في جبال لبنان, أتى بها من غابات قريته العتيقة, يستخدمها ظاهريا للإتكاء عليها عند المشي, يلوح بها وكأنها السيف بين الفينة والفينة, ويدق بها الأرض كأنه يتحدى أحدا, ولها عنده إستخدامات أخرى إذا إقتضت الأحوال... باكرا يقوم أبي بجولته الرياضية, وهو بكامل لباسه, مهندما مظهره بكل لياقة, يجول في بعض الدروب والطرقات الضيقة, ويمخر بعض الأزقة, ويرود طريق السوق الشعبي في حي السلم, عند أطراف مطار بيروت الدولي لجهة الشرق, يمتع ناظريه بالجديد من الأزياء العصرية, مبتسما كعادته يهز رأسه, وهو يحاول تعديل شاربيه, محاولا رفعهما ليقفا نحو العلا, يزيدان من مظهر رجوليته هيبة ووقار, ويسوي بعض الشيء من سرج شرواله, متفقدا المحرمة البيضاء في جيبة سترته, ويتابع سيره مستطلعا ما تعرض المحلات في واجهاتها... ويقفل عائدا بعد ساعتين من المشي على الأقدام, ترافقه صديقتيه العصاة والسبحة, ليجلس في ديوانيته في العراء, على صخرة عريضة من الحجارة, يختارها من بين مجموعة, وضعها خصيصا تحت شجرة توت معمرة, غرسها يوم كان في عز الشباب, وهي شجرة كبيرة, ضخمة الجذع, ممتدة الفروع والأغصان, مكتظة بالأوراق الخضراء, ترمي أفيائها في دائرة واسعة, تتسع للكثير ممن يحبون القيلولة, في ظل أغصانها وأوراقها ونسائمها المنعشة, وفي أعبابها تعشعش الطيور من كل النواع, تقضي النهار في زقزقات متواصلة, تهيم لسماعها الآذان... في ظل شجرة التوت المعمرة, المنتدى اليومي الدائم, يقضي أبي أكثر أوقاته, لا يبارحها إلا وقت الصلاة والنوم, وغالبا ما أراه يقيم صلاته تحت فيئها, وكثيرا ما أراه يغط في نوم عميق, والنسائم العليلة, تدغدغ وجهه الأسمر اللون, تتلاعب بشاربيه ذات اليمين وذات اليسار, وهو كعادته عندما ينام يعزف موسيقى الشخير, تسترق نساء الحي أنغام شخيره من نوافذ الغرف المطلة على شجرة التوت... يوميا يجتمع عند أبي الكثير من عجائز الحي والشباب, يتداولون شؤون الحي, ويخططون لمشاريع إنمائية تنعش المنطقة, في غياب من بيدهم الأمر والنهي, والذين لا أمر لهم في هذه الأيام, ولا ينفذون شيئا من شؤون الخدمات المطلوبة... وتحت فيء شجرة التوت المعمرة, تبوح الصبايا بالأسرار, ويهمس الشباب بالحب في أذن الشجرة, علها ترشدهم لبنت الحلال, وهي تهتز بأغصانها تضحك من الأحلام التي تراود الكبار والصغار... تعلمت من أبي, قضاء بعض الوقت في ديوانية المنتدى, تحت شجرة التوت المعمرة, أستقبل زملائي من بعض الكتاب والفنانين, نتحادث ونتبادل الأراء في كل الفنون الأدبية والفنون التشكيلة, ونقطع لبعضنا الوعود على أمل اللقاءات, ونخطط لقيام الإحتفالات والسهرات الثقافية والفنية... ويجتمع حولنا الكثير من الصبايا والشباب, يستمعون هادئين, لآخر إبداعتنا من الكتابات والخواطر والقصائد الغزلية والوطنية, وكثيرا ما يشتد التصفيق عند كل بيت مميز من الشعر القديم, وتعلو الهتافات ويشتد الصفير, ويعزف البعض على الطبلة وينفخ البعض الآخر في المزمار, ويقرع أحدهم على الطبل, وآخر يعزف الحب على الرباب, وواحد يلعب الموسيقى على أوتار العود, وأبي تحلو له الهمروجة في الديوانية, فيأذ نايه ينفخ فيه عازفا على مزاجياته, الموسيقى التراثية الفلكلورية, وجوقته تردد العتابا والميجانا والزجل والقرادي والدلعونا والروزانا والشروقي والقصيد... قيلولة شجرة التوت, أمام منزلنا في قرية الصدر النموذجية, غدت ديوانية يلتقي في رحابها الجمع الغفير, وصارت تشبه ديوانيات رجال السياسة في بلادي, مع فارق كبير بحيث في الأولى يمارس النفاق والمراوغة والدجل والتدليس, وفي ديوانية أبي البسيطة, التي تحولت إلى منتدى ثقافي فني, تلتقي في كنف شجرة التوت المعمرة, ثلة من الكتاب والفنانين, يتبادلون الأفكار, ويعرضون الجديد من الخلق والإبداع... وصارت شجرة التوت ذائعة الصيت في أرجاء المنطقة, ودخل إسمها التاريخ بقوة, ديوانية منتدى شجرة التوت للفنون والآداب... كتبت مساء يوم الثلاثاء الواقع فيه 06 / 11 / 2007 للميلاد في رحاب ديوانية منتدى شجرة التوت في قرية الصدر النموذجية.
__________________
حسين أحمد سليم آل الحاج يونس hasaleem
|
#2
|
|||
|
|||
![]()
وصارت تشبه ديوانيات رجال السياسة في بلادي, مع فارق كبير بحيث في الأولى يمارس النفاق والمراوغة والدجل والتدليس, وفي ديوانية أبي البسيطة, التي تحولت إلى منتدى ثقافي فني, تلتقي في كنف شجرة التوت المعمرة, ثلة من الكتاب والفنانين, يتبادلون الأفكار, ويعرضون الجديد من الخلق والإبداع... وصارت شجرة التوت ذائعة الصيت في أرجاء المنطقة, ودخل إسمها التاريخ بقوة, ديوانية منتدى شجرة التوت للفنون والآداب...
استمتعتوأنا أقرأ هذه الخاطرة الجميلة الرب يطيل عمر أبيك أخ حسين ويحق لهذه الشجرة أن تخلد فكم شهدت حالات من الحب المختلفة وهي تحرس هذا الحب كالأم الحنون.... |
#3
|
||||
|
||||
![]() اقتباس:
أستاذ حسين جعلتني _ مشكورا _ أملأ روحي بعطر ذاكرة الأيام و هي تعبّر عن أصالة يندر وجودها في هذا الزمن العاثر و المصاب بألف علة و علة! هل من صحوة من أجل العودة إلى عالم البساطة غير المعقّد؟ أعتقد أنه سيكون ضربا من المستحيل. شكرا للرب الذي منّ على أبيك _محفوظا من عين الحسد_ بهذه الصحة و نرجو له دوامها. سلم لسان خيالك الجميل |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|