![]() |
Arabic keyboard |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() تأمُّلاتٌ على طاولةِ الحوشِ بقلم: فؤاد زاديكي جَلَستُ صباحَ هذا اليومِ على كُرسيٍّ قديمٍ في حَوشِ دارِنا، هنا في ألمانيا، حيثُ السُّكُونُ يُضفٍي على اللحظاتِ مَهابَةً، و الهواءُ النّقيّ يُداعبُ أهدابي برِقّةٍ عجيبةٍ. اِتّكَأتُ على راحةِ ذراعيَ اليُسرى، فوقَ الطّاولةِ الزُّجاجِيَّةِ، و أغمضتُ عينيَّ بهدوءٍ كما لو أنّني أستعدُّ لرحلةٍ لا تُشبهُ الرّحلاتِ، بل هي انطلاقٌ في فضاءِ الفكرِ، و سُبحانُ الخيالِ حينَ يفتحُ لكَ بوّاباتٍ لا تُعدُّ و لا تُحصَى. انطلقتُ بفكري بعيدًا، محلّقًا في فضاءٍ رَحبٍ، يضمُّ مئاتٍ بل آلافِ التّساؤلاتِ، الّتي ما تزالُ عصيّةً على الإجابةِ، متأمّلًا في أسرارِ الكونِ، و ألغازِ الحياةِ، و غُمُوضِ الإنسانِ، و المصيرِ الّذي ينتظرُ البشرَ عند آخرِ النّهاياتِ. لم تكنْ أسئلتي نابعةً من فُضُولٍ عابرٍ، بل من عُمقِ إحساسٍ بأنّنا نعيشُ على هامشِ الحقيقةِ، نفتّشُ عنها دونَ أن نُدركَ أنّنا في كثيرٍ من الأحيانِ نهربُ منها أو نتجاهَلُها. تساءلتُ: ما الغايةُ من وجودِنا على هذا الكوكبِ؟ لماذا نُولَدُ دونَ إرادتِنا، و نمضي دونَ أن نُدرِكَ السّببَ؟ هل نحنُ مجرّدُ كائناتٍ تمشي على سطحِ الأرضِ مؤقّتًا، أم أنّ لنا دورًا أعظمَ من هذا؟ كيف يكونُ للكونِ كلِّ هذا الإتقانِ و الجمالِ و لا يكونُ لهُ مُصمّمٌ حكيمٌ؟ و ما الّذي ينتظرُنا بعدَ أنْ يُسدَلَ السُِتارُ على مسرحيّةِ حياتِنا؟ أسئلةٌ تُطاردُني منذُ سنواتٍ، و منها ما ظفرتُ بإجاباتٍ له، بفضلِ ما قرأتُ و تأمّلتُ، لكنّ الغالبيّةَ العُظمى منها ما زالت في دائرةِ الغموضِ، و كأنّها ألغازٌ لا تريدُ أنْ تُفصحَ عن سرِّها إلّا لِمَنْ بلَغَ مقامًا أعلى من مُجرّدِ التّفكيرِ العاديّ. كلّما غُصتُ في هذه الأسئلةِ، ازددتُ يقينًا أنّنا نعيشُ على حافّةِ وعيٍ محدودٍ، و نتمسّكُ بأجوبةٍ هشّةٍ كي نُسَكِّنَ بها خوفَنا الوجوديّ، و نعبرَ بها أيّامَنا الرّتيبةَ و كأنّ شيئًا لم يكُنْ. لكنّ الحقيقةَ، الّتي تُؤرّقُني هي: كيف يمكنُ لنا أن نتجاهلَ هذه الأسئلةَ المصيريّةَ؟ كيفَ نُلهي أنفسَنا بلذّاتٍ عابرةٍ، و أحلامٍ استهلاكيّةٍ، في حينِ أنّ أسئلةً كُبرى تنخرُ في جدرانِ وعينا؟ ألسنا مسؤولين عن السّعيِ لفهمِ حقيقتِنا؟ إنّ ما يُقلقُنِي ليسَ الجهلَ وحدَه، بل الاستسلامُ لهُ، و الاعتيادُ على الغموضِ كأنّه قدرٌ لا مهربَ منه. إنّ سيادةَ الغُموضِ في حياةِ الإنسانِ ما هيَ إلّا انعكاسٌ لعجزِه عن مواجهةِ المجهولِ بشجاعةٍ، أو ربّما هي حكمةٌ كونيّةٌ تُعلّمنا التّواضعَ أمام عظمةِ خلقٍ لا ندركُه إلا بقدرٍ يسيرٍ. و في لحظةِ صفاءٍ، شعرتُ أنّ التأمّلَ في هذه الأسئلةِ لا يقلُّ أهمّيّةً عن العملِ اليوميّ، بل هو عملُ الرّوحِ، الّتي تسعى إلى كمالِها، و تطلبُ الحقيقةَ أينما وُجِدَتْ. فإنْ لم نجدْها، يكفينا شرفُ البحثِ عنها، فالرّحلةُ أحيانًا أهمُّ من الوصولِ. و هكذا بقيتُ جالسًا في مكاني، أُصغِي إلى صمتِ السّماءِ، و أتذوّقُ حلاوةَ الحيرةِ، راضيًا بأنْ أكونَ إنسانًا يتساءلُ، و يحيا بالأملِ أنّ في آخرِ المدى، سيحينُ وقتُ المعرفةِ الكبرى، حينما تزولُ الحُجُبُ، و تُعلَنُ الحقيقةُ، لا لبُرهةٍ، بل للأبدِ. التعديل الأخير تم بواسطة fouadzadieke ; يوم أمس الساعة 02:00 AM |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|