في دولةِ "اللّاقانون": حِينَ يُصادِرُ الحاكمُ الوَطنَ باسمِ الشّرعيّةِ بقلم: فُؤاد ز

[fouadzadieke]

في دولةِ "اللّاقانون": حِينَ يُصادِرُ الحاكمُ الوَطنَ باسمِ الشّرعيّةِ

بقلم: فُؤاد زاديكي

في زَمانٍ غابَ فيهِ صوتُ الضّميرِ، و تَقدَّمَت فيهِ الهراوةُ على الدّستورِ، لم تَعُدِ الحكايةُ حكايةَ دَولةٍ بل مَسرحيّةٌ يُمثِّلُها المُستبِدُّ وَحدَه، و يُصفِّقُ لها المُطبِّلونَ المُرتَزقةُ. تلكَ هي تُركيا في عَهدِ رَجُب طَيِّب أَردوغان، حَيثُ تحوَّلَتْ دَولةُ القَانونِ إلى "دَولةِ اللّاقانون"، و قاعدةُ الحُكمِ إلى المَثَلِ السّاخِرِ "كُلُّ مَن إيدو إلو".

مُنذُ أن تَسلَّقَ أردوغانُ سُلَّمَ الحُكمِ، لَم يَكُن الدُّستورُ سوى وَرقةٍ يُلوِّحُ بها في الخُطَبِ، بينما في الخَفاءِ يَنهشُ أركانَ الدّولةِ بندًا بَندًا. في عُهدتِهِ تَحوَّلَ القَضاءُ إلى خادِمٍ يُلَبِّي الأوامرَ، و الصُّحفُ إلى أبواقٍ تُبارِكُ القَمعَ، و المُعارَضَةُ إلى "خَطَرٍ على الأمنِ القوميِّ" يُواجَهُ بالسُّجونِ و النَّفيِ و التَّشهيرِ.

و ما حَدَثَ مع عَمدةِ إِسْطَنبول، أَكرَم إِمام أُوغلو، لَيسَ إلّا وَجهًا آخَرَ لهذهِ المَأساةِ المُزمنةِ. الرَّجلُ الذي خَطَفَ مِن أردوغان مَدينةً كانت تُعتَبَرُ قَلعَتَهُ، دَفَعَ ثَمَنَ فَوزِه بالزَّجِّ في غياهبِ السُّجونِ، و بِتُهمٍ جاهزةٍ و مُفصَّلةٍ، تبدأُ من "الإساءةِ لموظّفٍ عامٍّ"، و لا تَنتهي بـ "الارتباطِ بجماعةٍ إرهابيّةٍ"! في مشهَدٍ يَندى لهُ جبينُ العدالةِ، و يَشمَخُ فيهِ صَوتُ القَمعِ على أيِّ صَوتٍ آخَر.

تَحتَ ذَريعةِ "مُكافحةِ الإرهابِ"، اعتُقِلَ أكثرُ من أَلْفٍ و تِسعِمِئةِ ناشطٍ و مُواطِنٍ و مُعارِضٍ، خَرجُوا ليَقولوا: "كفى!"، فَكانَ الجَوابُ قَنابلَ غازٍ، و هَراواتٍ، و مَداهماتٍ في اللَّيلِ، تَذكِرُنا بأنَّنا في دَولةٍ تُدارُ بالعَصا لا بالحُجّةِ.

و لَم تَتوقَّفِ المَأساةُ هنا؛ بل تمَّ عَزلُ إمام أُوغلو من مَنصِبِه، و إلغاءُ شَهادتِه الجامعيّةِ، في سابِقَةٍ تُبرِزُ أنَّ الحاكِمَ لا يَحتَمِلُ النَّجاحَ إذا ما جاءَ من خارجِ دائرَتهِ المُغلَقةِ. هكذا تَتصرَّفُ الأنظِمَةُ المُفلسَةُ: تُجرِّمُ الكَفاءَةَ، و تُصادِرُ الشّعبيةَ، و تَستَبدِلُ الصُّندوقَ بالخُوذاتِ و العَساكِرِ.

هذهِ الانتهاكاتُ الجَسيمةُ، المُتراكِمةُ طَوالَ عُقودٍ، لا تُهدِّدُ فقط الحياةَ السياسيّةَ في تُركيا، بل تُسقِطُ عنها ما تبقَّى من وَجهِها الدّيمقراطيِّ. فالحرّيّةُ لا تُقاسُ بعددِ الصّناديقِ، بل بمَدى احترامِ الحاكِمِ لحُقوقِ الناسِ، و لِصوتِ المُعارَضةِ، و لِقُدسيّةِ القضاءِ.

في تُركيا أردوغان، لَيسَ هُناكَ إلا صوتٌ واحِدٌ، و مِزاجٌ واحِدٌ، و رَأيٌ واحِدٌ. و مَن يُخالِفُ هذا "الوَاحدَ"، يَدفَعُ الثّمنَ، إمّا بالنّفيِ أو بالسّجنِ أو بالاغتيالِ السِّياسيِّ. إنَّهُ نِظامٌ يُخاطِبُ الشّعبَ بلُغةِ القوّةِ، و تحتَ سِتارِ الدّينِ، الذي يُجيدُ اللعبَ على وترِهِ بسبب جهلِ أغلبيّةِ الشّعبِ التركيّ، و انقيادِهِ خلفَ الدّعايةِ الدّبنيّةِ انقيادًا اعمًى، لا يدعُ ايّ فرصةٍ للتفكيرِ و لا المنطقِ و لا العقلانيّة، فهو يَحتَكمُ لِمنطقِ "كُلِّ مَن إيدو إلو"، و كأنَّهُ فوقَ القانونِ، بل هو القانونُ بعَينِه!

فَأينَ ذهبتِ الشّرعيّةُ؟ و أينَ خُطَبُ الإنسانيّةِ؟ و أينَ حقوقُ الإنسانِ؟ لقد دَفنَها أردوغانُ تَحتَ أنقاضِ القُصورِ، و سَقاها بوَهمِ العَظمةِ العُثمانيّةِ، فَلَم يَبقَ في تُركيا سوى صَدى الخوفِ، و شَبحُ السُّؤالِ: إلى أينَ؟
هناكَ تَخَبّطٌ واضحٌ في مساعي الدّولةِ الأردوغانيّةِ و هي تحاولُ استعراضَ القوّةِ تارةً في العراقِ و الآن في سورية و سبق لها أن قامت بذلك في ليبيا و غزّة و محاولات فاشلة لدعم حزب الله الإرهابي في لبنان و تنظيمِ الإخوان المسلمين المجرمِ في مصر و تونس و غيرهما
إنّ أردوغانَ يحلمُ بإعادةِ أمجادِ الدّولةِ العثمانيةِ في مجازرِها ضد الإنسانية كمجازر السيفو في ١٩١٥ و في ما قبلها و ما بعدها.