عمانوئيل والحرب الكرواتية السربية (القسم الثامن )
كان علىَ أن أشتري سيارة بسرعة , وذلك لطبيعة العمل .
أخبرت جميع أصدقائي بالموضوع , وكان أحدهم الدكتور بركات الذي كان أسبقهم , حيث اتصل بي قائلاً : أن هناك سيارة باص صغيرة للبيع.
لقد كانت عز الطلب , سيارتي القديمة لم أحصل على تعويضها بعد لأني
كنت أنتظر فقط تقرير الشرطة للحصول على التعويض ...................
أخذت الباص بالتقصيد ( أي على دفعات ) . لأنني كنت بحاجة إلى بضاعة للمحل الجديد , كان علىً أن أكون حذراً جداً بخصوص البضاعة
لأن العيون كانت ُمصلطة علىَ من جميع الجهات . لذا قررت : أن لا يكون المحل فارغاً ولا مليئاً , وأن أتبضع بكميات قليلة .
فإن أولاد الحرام كانوا أكثر من أولاد الحلال .
مرت الأسابيع والأشهر دون أن يحدث أي شيئ يستحق الذكر , وظننت أن الوضع قد تحسن وكل شيئ على ما يرام , ولكن ما حدث كان العكس .
توقفت سيارة الشرطة العسكرية ثانية أمام المحل , وترجل منها ثلاثة أشخاص . قالت العاملة : ماذا أستطيع أن أقدم لكم ؟
قال أحدهم : نريد السيد عمانوئيل
ردت : لحظات فقط سوف أخبره , دخلت الفتاة الى المكتب وقالت أن هناك بعض الرجال يريدون مُقابلتك في الخارج . خرجت وقدمت نفسي , قال أحدهم نريد إستعارة سيارتك لخدمة الجيش , قلت : لا مانع , وكم ساعة تريدونها ؟
فضحك أحدهم قائلاً حتى إشعار آخر !!!
قلت : ماذا تعني ؟
أجاب حتى نهاية الحرب !!!
قلت : هل تعلمون بأنها ليست سيارتي الخاصة , وإنما هي سيارة المحل .
نعلم أن الجيش بحاجة لها وهو أهم من المحل .
قلت : هل تدرون ما معنى ذلك ؟
قال : ندري فقط إننا بحاجة لها .
قلت : هل تدرون بأنكم تقطعون الأرزاق , وأن قطع الأرزاق يعني قطع الأعناق .
قال : إخرس
عندها لم يبقى أمامي سوى أن أخرس ..........................................
أخرجت الكاميرا وصورت السيارة من الداخل والخارج تصويراً دقيقاً .
قال : ماذا تفعل ؟
قلت : مثلما تستلمون السيارة أريد أن أستلمها , وهذا الفيلم مصور بالتاريخ والساعة مع صوركم وأصواتكم . بعد التوقيع على ورقة الإستلام أخذوا السيارة , وكأنه قانون الغاب .. لحظات من الصمت والتفكير , أخرجت علبة الدخان وأولعت السيكارة . أخذت الهاتف واتصلت مع فلاديمير , ردت السكرتيرة .. نعم !! قدمت نفسي , وطلبت منها أن توصلني بالسيد فلاديمير .
قالت : إنه خارج الوطن , في زيارة للنروج , شكرتها بعد أن تركت رقمي واسمي عندها على أمل أن يتصل بي عند عودته .
إنتابتني لحظات يأس قوية , لم يكن بمقدوري التغلب عليها . إنني لم أعد حراً كالسابق ,فالحرية معناها القوة , والضعيف هو العبد الذي يجب أن يخضع لآمره . كنت أقول لنفسي دائماً لن أتنازل عن حريتي , ولكني أصبحت رهينة لحرية القوة , وسأبقى هكذا .. لأنني ضعيف في بلاد الغربة وجبان لا أتحمل الالم , والغربة هي أكبر ألم . لم يبقى لديَ قوةً ولا عزيمة .
بدأت أفكر بالإنتحار . ذهبت الى الدار .. وكالعادة أول عمل أقوم به هو فتح التلفزيون , حيث الأخبار كانت ُكلها عن الحرب . ومن ضمن الأخبار اليوم كان مقتل إمرأة مع طفلها برصاص القناصة . ضربت يدي على الطاولة صارخاً القناصة .. القناصة .. أين الإنسانية ؟ أين الرحمة في قلوب هؤلاء القناصة ؟
إنهم يُطلقون الرصاص على الناس الأبرياء , على الناس الذاهبين لشراء الخبز أو الحليب ... لماذا ..؟
إن المقصود هنا ليس قتل العدو , وإنما إرضاء حقدهم وكراهيتهم ......
ارفع عنا غضبك يا رب .. غضبك هو الذي جعل البشرية تقتل جشعاً وحقداً , وكأنهم يشربون الخمر في وليمة .. غضبك يا رب جعل الإنسان يقتل أخيه الإنسان , دون أن يعرف القاتل لماذا قتل ولا المقتول لماذا قُتل . إلهي اغفر لنا زنوبنا , اعطف علينا , حتى تعرف البشرية أن ُتفرق بين الصالح والطالح , حتى تقف الحروب ويموت الحقد وتعيش البشرية بأمان وسلام .................
من كثرة كآبتي نسيت جيمس , الذي حاول أن يلفت إنتباهي له بعواء خفيف , شبيه بالملامة . أخرجت من الخزانة علبة لحمة وفتحتها ثم قدمتها له , وتمنيت له عشاءً هنيئاً . دخلت الى الغرفة المجاورة ولبست قميصاً ابيضاً مع ربطة عنق خمرية , ومن ثم لبست طقمي وخرجت من الداروفي طريقي أخذت وردة بيضاء من الحديقة ووضعتها على صدري .
سرتُ الى فندق المدينة دون وعي ولا هدف , حتى إنني لم أدري لماذا اخترتُ فندق المدينة , حجزت غرفة في الفندق , قال لي عامل الفندق : ماذا حدث يا سيد عمانوئيل ؟ هل ُطردت من الدار ؟ قالها بلهجة ساخرة .
قلت : لا , وإنما أحب التبديل في نمط الحياة من حين لآخر .
كنت أشعر بأني أخذت قرار نهائي , صعدت الى الغرفة وجلست على الكرسي بجانب الطاولة وبدأت بكتابة رسالتي الأخيرة . كانت الساعة تشير الى العاشرة مساءً , كان صوت الموسيقة ينبعث من صالة الفندق , لقد كانت حفلة عيد ميلاد الخمسين عاماً لأحد زوار الفندق .
توقفت ونظرت الى الخارج من خلال النافذة , أخرجت المسدس وأسندته على رأسي , وفي تلك اللحظة تذكرت أبي وأمي , أم بالأحرى دخلا في ذاكرتي بقوة إلاهية خارقة . تذكرت نظراتهما لي , وفكرت باللوعة التي سيتركها إنتحاري لهما , أهذا كل ما أستطيع تقديمه لهما ؟ . فقط اللوعة والحزن . أنا الذي لم أعطيهما شيئاً طوال حياتي . عندها سألت نفسي , هل يحق لي أن أعطيهما الألم واللوعة ؟ ألا يكفي ما عانيا من فقدان أخي
أحسست بأن بيني وبينهما صلة عميقة ..... لا .....لا ... لن أستطيع فعل ذلك , ما داما على قيد الحياة . إنهما لم يروني منذ زمن يعيد , بعيد جداً . شعرت وكأنهما يشدان يدي , أعدت المسدس الى مكانه , وبدأت إعادة فيلم ذكرياتي ..... ذكريات بلدي , أصحابي , أصدقائي , تذكرت كيف أن الناس في بلدي تعمل ليل نهار , الفرد للجماعة والجماعة للفرد يعملوا في الحوانيت , الحقول , في كروم العنب , تذكرت كيف كنا نصلي قبل النوم دون تعب .. تذكرت أن أبناء بلدي كانوا يعملون دون تعب , يعملون في موكب واحد هو موكب الحياة , ولا أحد منهم يفكر بالموت , لأن الموت بإرادة الله ..........
خرجت من الفندق بعد أن مزقت الرسالة وعدتُ إدراجي إلى الدار , حيث كان جيمس باستقبالي فرحاً وكأنه أحس بوضعي النفسي , وكأنه أراد أن يقول انني صديقك المخلص . بدأت مُداعبته قليلاً ,والتكلم معه قائلاً : إنني سوف أتحدى كل الصعوبات وأقاومها مهما كانت , آخذ بعين الإعتبار أن كل ما يحدث لي سيكون بقدرة و مشيئة الله ................
لم يمضي على مُكالمتي اسبوعاً واحداً , حتى اتصل معي فلاديمير سائلاً عن الصحة والعمل والأحوال , فأخبرته بما حدث باختصار . قال : سوف أتدبر الأمر , لا تقلق ساعات قليلة وستكون السيارة أمام المحل , مغسولة وحتى مليئة بالوقود . وفعلاً خلال ساعات كانت السيارة بحوزتي .. مع كتاب شكر من قائد الفرقة ............
في أحد الأيام جائني ( تساكو ) مدير النادي وهو مُتأثر وحزين , قلت ما بك يا صاحبي ؟
قال : ابني
قلت : ماذا حدث له ؟
قال : لقد تم أسره مع مجموعة من رفاقه . سألته متى وأين ؟
قال : هذا الصباح . حيث كان في دورية على الخطوط الأمامية ......
حاولت التكلم معه بهدوء حتى أرفع من معنوياته قائلاً أن الحرب قاربت على الإنتهاء وإن تبادل الاسرى سيتم قريباً , وما شابه ذلك من الكلام .....
رد عليَ بصوت يكاد يُسمع .. هذا إن لم يُقتل في الأسر ؟ قلت لاتخف لن يقتلوا الأسرى....
كان تساكو يتنفس بصعوبة بسبب مرض في القلب , وأيضاً كان السكري معه عالياً جداً , عدا عن وزنه الثقيل , الذي كان 157 كيلو غرام , فكان ذو رقبة قصيرة متصلة بكتفيه , كان يُشبه المصارعين اليابانيين (سومو).
نظرت إليه فقد كان العرق يتصبب منه وكأنه في حمام باسطو ولونه غير طبيعي . خفت عليه من جلطة مُفاجئة , لأن وضعه الصحي كان سيئاً جداً.
كان علىَ أن أخفف من محنته وفي نفس الوقت محنتي أيضاً . كان تساكو من المدمنين في حبه للعبة الشطرنج , فما كان مني إلا أن أتحداه في لعبة سريعة , فبعد تردد بسيط وافق على التحدي .
كانت الطاولة جاهزة وللحال بدأت اللعبة , ولأول مرة لم يكن هدفي الربح في هذا اللقاء , وإنما كان هدفي التخففيف عنه آلامه . ( أي أن أتركه يربح اللعبة ) , فعندما يربح الإنسان يشعر بإرتياح نفسي كبير .
بعد ساعة من اللعبة كانت المقاييس مُتوازنة تقريباً . و فجأة سمعنا صوت إنفجار قوي . خرجنا بسرعة لنرى ماذا حدث ؟؟
على بُعد 50 متراً تقريباً من المحل كان على الأرض أربع شباب مُلطخين
بالدماء , وأحدهم يصرخ ساعدوني ... ساعدوني ... إتصلت فوراً بالإسعاف والشرطة , طبعاً قمتُ بتصوير الحادث وإرساله الى التلفزيون.
عند التحقيق تبين أن أحد الشباب كان يحمل قنبلة في يده وقد أخرج صمام الأمان منها وهو يشرح لهم عن كيفية إستعمالها , وبدلاً من أن يُعيد صمام الأمان إليها , وضعها في جيبه دون صمام الأمان بعد أن حررها برفع يده عن الضاغط , مما أدى إلى إنفجارها . راح حاملها ضحية هو وأخاه الأصغر والإثنان الآخران حصلا على جروح غير خطيرة ...........
سألت تساكو ما رأيك يا صاحبي في الوضع الحالي الآن ؟ إذا ماقارنته بالوضع السابق . بالتأكيد إنك تتذكر أيام كانت يوغوسلافيا دولة واحدة , حيث كان الأمان والطمأنينة , الوضع الإقتصادي كان أفضل , وخاصة الطبقة الوسطى . أما اليوم تقولون لقد حصلتم على الحرية , وأية حرية ؟ هل تعلم أية حرية هي اليوم ؟ إنها حرية بيع الكحول , التبغ , الحشيشة , الهيرويين و الأسلحة . إنهم معروضين في كل مكان و مُتوفرين أكثر من الماء والخبز ...... حتى أكثر من الشمس والهواء .....
رد قائلاً : كل ما قلته صحيحاً ولكن ليس هناك من خط رجعة , نطلب فقط من الله إنتهاء الحرب قريباً ....... يتبع ......عيدواسحاق عيدو
التعديل الأخير تم بواسطة aido ; 15-05-2006 الساعة 09:39 PM
|