الوصيّة والسّبي الأكبر" تحت المبضع وعين المجهر 8
"الوصيّة والسّبي الأكبر" تحت المبضع وعين المجهر بقلم فؤاد زاديكه القسم الثامن
إنّ آزخ وهي ولاّدة الأبطال كما كان ومنذ تاريخها الموغل في القدم، فهي قدّمت فيما قبل عصر الشماس اسطيفان رجالات دين وأبطال دافعوا عن وجودها وكتبوا سطوراً في سجل التاريخ بشرف وعزّة. وكما كان الشماس ومن بعد ابراهيم عمنو بطل هذه الرواية. فإنه كان منها الأبطال أمثال إيشوع حنّا ?بره وأندراوس ايليا والأسقف كوركيس والبطل صلو كته والقس كورية وغيرهم وغيرهم.
إنّ الأحداث الخطيرة التي مرّت بها آزخ وما أعقب ذلك من نتائج من خلال غزوة المير كور الراوندوزي لها تركت بصمات على حياة الشعب في هذه البلدة إذ صار كل شيء إلى خراب وصارت الهجرة وكان السبي والتعدي الذي لم تندمل جراحه إلاّ بعد سنوات طويلة مع أن الشعب ورغبته في استمراره في الحياة بعزّة وكرامة وشرف كانت إرادة صلبة استطاعت أن تتجاوز المحنة بكلّ أبعادها وصار من أولويات المتطلبات الحاليّة هو إعادة البناء وفعلا تمّ العمل بهذا الاتجاه وكان الكلّ يداً واحدة كما أسلفنا في تعليقنا السابق.
طفت فوق السطح مشكلة عويصة وهي مشكلة الأسرى الذين تمّ سبيهم ومعظمهم من النسوة والفتيات ففكّر الشعب في طريقة تضمن لهم تحقيق أي نجاح في هذا المجال لكنّ إمكانية إختراق هذا المدّ الجغرافي الكبير إلى حدود الراوندوز والوضع غير المستقرّ للبلدة حيث لا تزال تعاني من آثار الغزوة, فإن القضية التي خصّت موضوع الأسرى بدت وكأنها قضية فردية وعلى كل عائلة أن تسعى بطريقتها إلى استعادة سباياها متى أرادت ورغبت في ذلك.
لم يكن هذا الموضوع سهلا فهو يتطلّب العزيمة والغيرة والرغبة ومن ثم أن يتوّج كلّ ذلك بخطة عملية محكمة تقود إلى نجاح وكان الكلّ متّفقاً على أن أي مسعى بهذا الخصوص لن يكتب له النجاح ومحكوم عليه بالفشل بل هو خطر على حياة الأشخاص الذين يريدون القيام به. نسجّل للتاريخ مقولة صحيحة وهي أنه لم يكن لكل المسبيات أهل يقومون بذلك, فمنهم من لم يبق من ذريتهم أحد وبما نسمّيه في لهجة آزخ أنّ بيتهم راح الميرات أي لم يعد لهم ولد يخلّف ذكرهم ولا من تلد لهم ولداً بعد ذلك.
وحين تمّ عرض هذه الفكرة على الشعب الأزخيني كان الجميع موافقاً عليها من حيث المبدأ أما من حيث التنفيذ والقيام بذلك فكانت هناك مصاعب شتّى وموانع كثيرة. وسنعرض بالتفصيل في الطريقة التي تمّ فيها إطلاق بعض الأسرى من الراوندوز حيث لم تلعب جهة واحدة فقط الدور في هذا المجال بل هناك جهاتٌ عدّة وقد تمكّنا من الحصول على معلومات تاريخيّة أكيدة بهذا الخصوص وسيطّلع القاريء الكريم عليها في عرضنا لطريقة تخليص أسرانا من براثن عناصر المير كور.
كانت غيرة البطل العمنوكي ابراهيم عمنو قويّة وعزّة نفسه عالية فرأى في بقاء أخته في الأسر عاراً كبيراً بين العشائر وكذلك بين سكان البلدة وحتى بينه وبين نفسه. لذا قرّر وبمجهود فرديّ استعان بأخته حانة التي أخذها معه إلى عزمه على خوض هذه المغامرة علماً أنه وضع أمام عينه الموت المحتّم. ولكن إيمانه بربّه لم يتزعزع في أنّ ما كتب له سيلقاه وعليه أن يبدأ في محاولته ويتّكل على القديسين الذين كانت تملأ أديرتهم بلدة آزخ الحبيبة وعلى رأسهم فادية الشعب الأزخيني وحاميتهم في كل العصور عذرت آزخ.
أعدّ إبراهيم عمنو عدّة السفر وأخذ معه ما يلزم من حاجيات الحياة وأخذ معه أخته وقال يا ربّ: متى كانت لك الرغبة في مساعدتي فلا تبخل على ضعف عبدك وإني لا أرى في هذا العمل الذي عزمت على القيام به إغضاباً لك أو خروجاً عن طاعتك وطوعك بل أن عدم قيامي بهذا قد يغضبك يا ربّ. أعرف إنك ربّ عادل ولا تقبل الظلم ولا ترضى به لشعبك الذي دمّرالغزاة بلدته وأحرقوا المقدّسات والأديرة فيها وكتموا أنفاس الأطفال والشيوخ والأرامل دون رحمة أو شفقة وهم يتلذذون بسفك الدماء.
أيها القدوس كنت مع شعبك ولم تتخلّ عنه, فكن معي ومع أختي حانة في مشوار المحنة هذا ومتى شملتني بعنايتك ولطفك فإن التوفيق سيكون حليفي.
بهذه العبارات حاول البطل الأزخيني ابراهيم عمنو أن يجعل لنفسه مزيداً من الحصانة ولإرادته مزيداً من التصميم والإصرار. وكان خوف أهل آزخ عليهما شديداً, إذ كفى ما لقيه من ويلات وهو لا يريد المزيد من الخسائر في صفوف أبنائه وخاصة في شخص بطل مشهود له بالقوة والعزيمة والرجولة مثل ابراهيم عمنو.
زار ابراهيم عمنو كلّ الأديرة في آزخ وطلب من جميعها أن تساعده في محنته هذه وفي سفرته التي لا يعرف إلى أين ستقوده, وكان من الطبيعيّ أن تكون خاتمة زياراته لكنيسة العذراء فصلى فيها بحرارة وركع في هيكلها وهو يبكي ويقول: يا أمّنا الحنون أنت أدرى بمصير شعبك من إدراكه هو به, كوني معي يا أم الرب كما كنت مع شعبنا في كل محنه وويلاته والمصائب التي ألمّت به, إنّي فكّرتُ في الإقدام على هذه الخطوة وأعرف أن فيها خطورة كبيرة لكن الخطورة الأكبر والحزن الأعظم هو أن أفتقد أختي ولا أعود أراها وأفكر في كل يوم أن هؤلاء الوحوش يفعلون بها الأمر الشنيع هذا يقتلني كل يوم فليكن عذابي لمرّة واحد فإمّا أن أنقذ الأسرى من أسرهم وأمسح العار عني وعن البلدة وإما أنال ما كتب عليّ وأنا مرتاح البال والضميرفأموت شهيد قضيّة شريفة وعادلة, إني أعيش يا أمنا الحبيبة ساعات من المرارة تهدّ الجبال ولستُ ممّن يستطيع النوم على ضيم أو القبول بالذلّ. فأرجوك مدّي لي يد المساعدة ولا تبخلي علي وعلى أختي بأن تشملينا برعايتك وحمايتك طولة سفرتنا هذه. ثمّ تقدّم إلى الإنجيل المقدّس الذي كان على ال?ود فحمله بين يديه وضمّه إلى صدره وهو يغمره بقبلات ساخنة تنحدر معها دموع الفرح المشترك مع الحزن. فرح أنه مرتاح الضمير وقد طلب معونة القديسين والأم الحنونة وحزن في أن لا يطول به الأمر في مهمة تخليص الأسرى من أسرهم.
نادى ابراهيم على أخته حانة وقال لها يا أختي لقد قمنا بما يمليه علينا الواجب من الصلاة وطلب المعونة ولم يبق أمامنا الآن غير أن نتوكّل على الرب ونبدأ مشوارنا ونحن لا نعرف ما الذي سيحصل لنا. وحتى لو حصل لنا مكروه لا سمح الله فإن أرواحنا ستصعد إلى أبينا السماوي راضية على ما قمنا به. وسارا متوجّهين إلى بلاد الراوندوز وهما يأخذان الحذر الشديد والحيطة التي تلزم في مثل هذه الأوقات إذ لا يعرف المرء عدوه من صديقه وخاصة في بلاد الغربة وفي الطرقات المقطوعة التي يجب عليهما أن يسلكاها لكي لا يشكّ أحد بأمرهما وتعرف قصّتهما فيصار إلى الإجهاز عليهما. وكانت تلك الطرقات تظهر عليها أحياناً كثيرة حيوانات مفترسة أو قطاع طرق ولصوص لا همّ لهم سوى السرقة والاعتداء على الآخرين ويكون الموقف أكثر صعوبة عندما يكون معه إمرأة فالطمع فيها يكون كبيراً وقد تكون السبب في حصول مكروه لهما. لذا قرّر أن ترتدي أخته حانة لباساً رجّاليّاً وتقلّد كلّ منهما بخنجر مشدود إلى الإبط تحت الثياب وبسكين حادة يتمّ استخدامهم عند الضرورة.
|