عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-01-2006, 09:13 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 48,243
افتراضي " الوصيّة والسّبي الأكبر تحت المِبْضع وعين المجهر " تعليق وتحقيق فؤاد زاديكه. القسم ا

" الوصيّة والسّبي الأكبر تحت المِبْضع وعين المجهر " تعليق وتحقيق فؤاد زاديكه. القسم الرابع.

قال الشماس اسطيفان: لو سمح لي سيّدي الأميربالكلام, فإني سأخبره عن كلّ ما حصل, وأبيّن له مواضع الإساءة التي تسبّب بها هؤلاء المحصّلون الذين قدموا إلى بلدتنا للقيام بمهمة ليس لأحد الحقّ في الاعتراض عليها, فهي توجيهٌ كريمٌ من سيادة أميرنا حفظه الله وعلّى مقامه بين الخلائق, لأنه عنوان شهامتنا ورمز فخرنا, وليس لنا إلا أن نقرّ بحقّ له هو واجبٌ علينا. ومتى كان هناك خلافٌ فيما أقول وغير وجه الحقيقة التي لا أبغي سواها! فإني حملتُ معي كفني قادماً إلى مولانا الأمير, ولو ثبت له خلاف ما أقول فله كلّ الحقّ في أن ينفّذ أمراً يراه حكيماً, وسأقبل بحكمه غير معترضٍ عليه, أمّا متى بان الحقّ من الباطل وثبتت براءتي أمام مولانا الأمير, فإني أرجو أن يقتصّ ممّن أساء لهيبته, ومثل هذا الخبر سينتشر بسرعة بين العشائر والقبائل انتشار النار في الهشيم وسوف يكون لذلك انعكاسات سيئة - لا سمح الله - على سمعة مولانا الأمير التي لا نريد لها إلا أن تكون طيّبةً, تترك له مهابة بين العشائر, لا أن تتسبّب ثلّة من الصعاليك بأذى أدبي أو أخلاقيّ لسيّدنا الأمير, وهذا ما حرصتُ عليه أشدّ الحرص, وعملتُ جاهداً على أن أفصل بين الأمرين. أمر أن يقوم هؤلاء الرجال بمهمة خوّلهم بها أميرنا, وبين أن يساء إلى استخدام هذه المهمّة بطريقة همجيّة وغير أخلاقيّة, تسيء إلى سمعة الإمارة بين الناس! ممّا سيحرّك مشاعر الغضب بين عشائر كثيرة فترفض إعلان الطاعة للإمير وتخرج عن طوعه, فتعلن العصيان, ممّا قد يتسبّب بمشاكل لسيدنا الأمير هو في غنى عنها!
بهتَ الأميربدرخان لما سمعه من الشماس, من كلام لا يفوه به إلاّ العقلاء والحكماء وأدرك أن الخطأ المرتكب من قبل رجال التحصيل الذين أرسل بهم إلى آزخ قد يكون فادحاً ممّا جرّ إلى هذه النتيجة! وغير مقبول البتة. لذا توجّه بالسؤال إلى أخيه سيف الدين الذي كان حاضراً قائلاً: ما رأيك بما سمعتَ؟ فأجاب سيف الدين على الفور: إذا كان الرجل كان صادقاً فيما يقول, فإنه لا يجب السكوتُ عن فعلة هؤلاء الأغبياء! وتوجّه الأمير إلى الشماس اسطيفان بالقول: ماذا كانت أخطاء هؤلاء الغلمان أيها الرجل الحكيم؟
- الشماس: سيدي الأمير. قبل أن أشرح لك القصة بكاملها وما وصلت إليه الأمور, فإني أحبّ أن أسلّمك هذه الرسالة التي حملتها إليك من وجهاء آزخ ومن الأسقف ?ور?يس لتطّلع على مضمونها ومتى كانت لديك اسئلةٌ أخرى فإني على استعداد كامل لأن أجيبك عليها لكي تتّضح جميعُ الأمور , وتقف على الحقيقة برّمتها, دون زيادة أو نقصان.
دفع الشمّاس بالرسالة إلى الأمير بدرخان الذي أعطاها بدوره إلى أخيه سيف الدين ليقرأها, فقرأها وكان شمعون الإعميريني هو الآخر قد سبق الشماس في الجزيرة فالتقى الأمير بدرخان وأعلمه بحقيقة ما جرى, ونبّهه إلى أن تكرار مثل هذه الأفعال الشنيعة من قبل هؤلاء الرجال قد تكون له نتائج غير جيدة. وعلى الرغم من وصول الخبر إلى الأمير فإنه أراد أن يستمع إلى إفادة الشماس وروايته, ليقرّر بعدها ما سيتخذه من إجراءات على ضوء المعطيات التي سوف تتكوّن لديه.
قال الشمّاس اسطيفان وهو هادىء النفس, صافي الذهن, رابط الجأش: يا أميري إن لقريتنا آزخ عين ماء واحدة للشرب, وتخرج النسوة دائماً إليها وتتزاحمن عليها بانتظار أن يصلهن الدور لأخذ كفايتهن من الماء وأنتم بحكمتكم تدركون جيّداً ضرورة الماء وأهميته للحياة, وحيث ليس لنا غنى عن هذه العين, فهي عصب الحياة وشريان وجود قريتنا! وليس فقط للشرب بل لأغراض أخرى كثيرة تقتضي ضرورة المعيشة أن يستمرّ الذهاب إليها وحيث أن للرجال مهمات أخرى , وجلب الماء هو من أعمال المرأة في قريتنا, وهذه العين هي عميقةٌ ولها درجٌ يتمّ من خلاله النزول إلى العين, ووسط هذا الجو توجّه رجالك إلى العين, على خلاف العادة والأعراف وقاموا بقلع ملابسهم ( ربي كما خلقتني) ثم رموا بأنفسهم في العين وعلى مرأى من النسوة - وخلافاً لكل أدب وحشمة وأخلاق - راحوا يشتمون النسوة ويتكلّمون معهن بعبارات نابية وقذرة لا يفوه بها إلا أبناء العاهرات, والذين ليست لهم اية كرامة أو أخلاق, كما أن مثل هذا الفعل الشنيع مغضبٌ لله ولجميع الشرائع السماوية, استمرّوا في الاغتسال بمياه العين وحرموا النسوة من جلب المياه وكما قلت لسيدي الأمير فإنهم لم يكفّوا عن استعمال الفحشاء وسط مناظر مقزّزة ومخلّة بالآداب, ممّا جعل النسوة يهربن خوفاً وحياء من ذلك العمل الذي لن يرضيكم بكل تأكيد! وماذا سيكون رأيي الأمير لو أن رجالاً من لآزخ قدموا إلى هنا - لا سمح الله -وقاموا بمثل هذه الأفعال الشنيعة؟ علماً أن لرجالنا أخلاقاً وشرفاً وكرامة, لن تجعلهم يفكرون البتة في مثل هذه الأعمال, فهم ناسٌ مؤمنون لا يريدون إغضاب الله, ولا الإساءة إلى شرائعه! ويعلم سيّدي الأمير أنّ - لكلّ واحدة من تلك النسوة - زوجاً أو أخاً أو أباً, وهم لن يقبلوا بمثل هذه الأفعال, ولكي لا تخرج الأمور عن حدّها, فينتشر الخبر ويسيء لمولاي الأمير, قرّرتُ أن أوقف هؤلاء الحمقى عند حدّهم. ولو شئتُ لقتلتهم! لكن لم أشأ فعل ذلك كي لا تضيع الحقيقة فلا تعلمون ما جرى, فتعاقبوننا بسبب سوء فعلتهم وتصرفهم اللعين والشائن! استطعتُ بفعلتي هذه أن أمتصّ ثورة وغضب أهالي وأقرباء تلك النسوة, وكان تدخّلي من أجل لمّ الموضوع والعمل على عدم انتشاره بين الناس, كي لا تتأذى سمعةُ مولانا الأمير حفظه الله!
لقد غالبتني نفسي وقهرتني إرادتي. فلم أجد نفسي إلا أمام أحد خيارين: إما أن أتصرّف بما يمليه عليّ العقل والضمير, وكان ما قمتُ به! و إمّا أن أترك الأمور تجري على عواهنها, وكانت ستؤدّي إلى مخاطر جسيمة ونتائج غير محمودة العواقب! قلتُ لهم: لقد أهنتم شرف الأمير بفعلتكم هذه. فسخروا منّي وحاولوا التهجّم والاعتداء عليّ, ولم أر بدّاً من الدفاع عن نفسي وعن سمعة سيّدي الأمير. لأني كنتُ على ثقة من أنّ مولاي الأمير لن يسمح لمثل هؤلاء الرعاع أن يسيئوا بهذا الشكل الفظيع إلى سمعته وشرفه وكرامته, لأنهم أولا وأخيراً يمثّلون إرادته بموجب المهمّة الموكلة إليهم! وأظنّ أني قمتُ بالواجب, ولو سئل سيدي الأمير في الخيار الذي كان يمكن له أن يسمح به! لما خانني الظنّ, من أنّه سيوافق على ما قمتُ به, بل سيشجعني على ذلك لأني حرصتُ على سمعته وشرفه أكثر من رجاله! ها إني ماثلٌ بين يديكم وأنا هيأتُ نفسي لكلّ الإحتمالات, وحتى لو أمر الأمير بقتلي أو بسجني! فإني سأكون مرتاح الضمير لأني لم أرتكب ذنباً لا بحق مولاي الأمير وسلطته ولا بحقّ أولئك العابثين بسمعة الأمير حفظه الله ورعاه! فهل يرى سيّدي الأمير إساءة له ولحكمه فيما فعلتُ؟ ومتى لم يكن في تصرّفي خطأٌ! فإني أرجو منكم يا مولاي أن تنظروا إلى وضعي وتتركوني أعود إلى بلدتي وأهلي الذين ينتظرون عودتي!

فرح الأمير بدرخان وأخوه الأمير سيف الدين من كلام الشماس اسطيفان وغيرته, وأعجبا بشجاعته ورجولته وحسن منطقه وسعة صدره وحكمة عقله فقال له الأميرباللغة الكرديّة: " حتّى أز صاغ ددونيايي ... تُو وكيلي مِنْ ... وتُو آغا لسَرْ هازخ... وسرْ عشيرا ممّانْ حمّو" وترجمة ذلك القول الكردي بالحرف: "لطالما بقيتُ حيّاً في الدنيا ... فإنك ستكون وكيلي ... على كلّ آزخ ... وعلى جميع عشائر الممّان ... لتكون تحت إمرتك وقيادتك" (ومنذ ذلك التاريخ صارت كل من آزخ وزيوكة القرية الكرديّة الممّية بزعامة طاهره محمو ضمن حلف واحد هو الحلف الممّي الذي كان يضمّ قرى أخرى كثيرة صارت جميعها تحت زعامة الشماس اسطيفان) ثمّ نادى الأمير بدرخان على غلامه المدعو طاهر قائلاً: "يا طاهر اذهبْ واجلبْ للشماس اسطيفان ثوباً سامياً وجزمة ً حمراءَ" فأحضرهما الغلام طاهرله في الحال, فنهض الأمير من موضعه وقام إلى الشماس وألبسهم إياه بيده, مقبّلاً إيّاه, ومربتاً على كتفه, وهنأه على هذه الرئاسة وتمنّى له ولجميع عشائر الممّان (الممّية) كلّ الموفقيّة والخير.

بقي الشماس يوماً بضيافة الأميربدرخان وفي اليوم التالي, أرسل معه مجموعة من الرجال المسلّحين ليصحبوه إلى آزخ بكلّ حفاوة وتكريم, وقد دهش أهل آزخ لهذه الحفاوة البالغة, التي قوبل بها الشماس ورافقته إلى قريته, آزخ وعلموا أن الشماس استطاع بحنكته وبتوفيق من الرب أن يقنع الأميروينال العفو منه, وحيث لم يكن ذلك بالأمر السهل. فكلّ الناس في آزخ توقّعوا غير هذا المصير للشماس. هذا ما كان من أمر الشّماس أما الغلمان فإن الأمير أمر بجلبهم إلى الديوان ورأى ما هم عليه من الخوف والارتباك وحين سألهم أقرّوا بما فعلوه من شائن بحقّ النسوة ورجوا منه الرحمة, غير أنّ الأمير لم يتوانَ في معاقبتهم وجلدهم بحضور الشّماس, ممّا استدعى تدخّل الشماس ورجاؤه في أن يعفو عنهم فكفّ عن ضربهم, لكنّه أمر بسجنهم ليصيروا عبرة لغيرهم, ممّن تخوّل له نفسه الإساءة إلى سمعة الأمير وشرفه.

كانت هذه أول أعمال الشمّاس اسطيفو ابن لحدو اسحق بازو زعيم آزخ وعشائر الممّية والذي ذاع صيته بين العشائر والقبائل, فصار يحسب له ألف حساب, وبلغت آزخ في عهده مكانة مرموقة. وفي مساء اليوم التالي اجتمع الشماس مع الأسقف ?ور?يس والوجهاء الستّة لآزخ, ومن بينهم الوجيه الإسفسي فارس فحدّثهم عمّا دار بينه وبين الأمير من كلام وعمّا كرّمه به الأمير وأجزى عليه, فكانت الفرحة عظيمة وهنأ الجميع الشماس على هذا الفوز وعلى هذه الرئاسة التي نال حظوتها من الأمير بدرخان نفسه.

هنا يجب القول وهي كلمة حق لا بدّ منها, في أن تصرّف وجهاء آزخ الحكيم كان منذ البداية, هو الذي حقّق للشماس هذا الانتصار المعنوي الكبير والذي جعله يجتاز محنة الخوف وينجح في امتحانه ذاك, بأنهم أعطوه المزيد من الثقة وأبدوا تضامنهم معه في تلك المحنة. لقد كانت الحكمة دوماً صاحبة القوة في اتّخاذ القرار, وهذا ما كان, فالعقل والتعقّل هما اللذان كانا وراء هذا الانتصار العظيم وهو أوّل الانتصارات التي حقّقها الشماس والتي كانت السبب فيما تلاها من انتصارات لاحقة كما سنرى.

التعديل الأخير تم بواسطة fouadzadieke ; 12-01-2006 الساعة 10:01 PM
رد مع اقتباس