تلازم المتناقضين
تأخذني رحلةُ العمر إلى محطّاتٍ متأخرةٍ من مواقف قطارها لتطوي أعوام زمن ترك فوق ملامح هذه الرحلة أعباء شقاء وصبغ بعض مراحلها بلمسة فرح، ولا بأس أن يلتقي هذان النقيضان المتناقضان فإنه لا يكاد أمر من أمور الحياة يخلو من نقيضه ومتناقضه وحيث أنه و بهذا التماوج المنسجم تكتمل الصورة الإنسانية بشقّيها المفرح والمحزن.
بيد أن المحزن أكثر، هو أننا نحسّ بمظلمة الحزن أكثر ممّا نحسّ بنعمة الفرح وهكذا فإننا نساهم في تعقيد مسار هذه الحياة أكثر بل أن نعمة الإحساس بهذا الفرح تمرّ سريعة وتتلاشى مخلّفاتها دون أن تترك آثار تذكر لفترة طويلة من الزمن. أما الحزن فلا تندملُ جروحه وتتعافى مواضعه على هذا النحو بل هي تتعدّى حدود زمنها إلى ما عداه من أزمنة أخرى وتحلّق بشكواها إلى ما وراء أفق الطاقة البشرية وقد تستفحلُ هذه الشكوى ويتعاظم هذا الإحساس بالمرارة والإحباط إلى درجة يصير الإنسان فيها مأكلةً لهذه الهموم التي لن يكون بوسعه الخروج من دوّامتها إذ هي تنخرط في كيانه وتعمل في أنسجة خلاياه لتهدمها وتدمّر كلّ مسبّبات استمراريتها، والذي يلفتُ انتباه المرء إليه أنّ حالة الحزن هذه إنما هي تخضع في الواقع الأوربي إلى قواعد المنطق وسنّة الحياة المعقولة بعيداً عن ترّهات المبالغة وهول التهويل غير المجدي، لهذا يحسّ المرءُ إحساساً موضوعيّاً فهو قد يحزن بل هو بالتأكيد يحزن لكنْ لا يتعاظم حزنه إلى الدرجة التي هي غالبة و"مشروعة" عندنا بل متى لا نفعلها تكال لنا التهم ونقذف بالأوصاف من كل حدب وصوب ومن كل شكل ونوع.
لاشك أنه توجد هنا أيضاً قلّة تعيش مثل هذا النمط من الحياة وتمارس هذه السلوكية التعبيرية لكنها قليلة جدا ونادرة فهم يعون أن الموت حقّ وأن سلطانه لن يرهبهم وأن الحياة برمّتها رحلة قصيرة وأن "دوام الحال من المحال" وأن للحياة نهاية مهما امتدّت شروشها وطالتْ وأنه سوف تستمرّ معطيات ما تبقّى من معايير الكون الحاكمة حيث أن نهايتها لن تكون في نهاية عزيز أو صاحب أومحبّ، ومفهوم الإستمرارية يجب ألا نلقيه خلف ظهورنا بل أن نتمثّله دائماً أمام أعيننا قدراً ومصيراً محتوماً.
نتشبّث- كشرقيين - تغلب علينا العاطفة وتسوقنا إلى أتونها الملتهب وتتحكّم فينا وتوجّه دفّة حياتنا وسلوكياتنا إلى ما لا تحمد عُقباه. لقد رأيتها تودّع زوجها بهدوء وبكلمات تنمّ عن حسّ واع وشعور صادق متّزن فهي أقرّتُ بأن حياتهما معاً كانت جميلة جداً وسعيدة جداًوممتعة جداً وأنها بفقده فقدتْ عظيماً وثميناً ومواسياً لكنّها تعود لتقول له: سأذكرك وسأذكرك ولن أنساك دون أن تلطم وجهها وتجرّ شعرها وتضرب على رأسها إلى أن تفقد وعيها ثمّ يصار إلى دلق الماء عليها كي تعود إلى وعيها ثانية وهي حين تغادر قبره تحدّثه قائلة: انتظرني فأنا قادمة إليك عندما تشاء إرادة القادر ويكتمل مشواري وها إني أهئ لي مكاناً بجانبك فأنا أحبّك.
تفعل كل هذا برزانة ورباطة جأش وهدوء رائع وحين سألتها كيف تستطيعين فعل هذا وتملّك عواطفك وكبح جماح أحاسيسك بكل هذه الروعة والأناة والبساطة؟ أجابتني قائلة: متى أردتُ أن ترقد روحه بهدوء... عليّ آن آفعل مثل هذا وعليّ ألا أقلقها وأفعل ما يزعجها فهي تحبّ الهدوء وتسعى إلى الراحة... إنها حقيقة مع أنها مرّة فليس لأحد منها مهرب أو نفاذ وأنّ هذه الدرب كانت منذ الأزل وستستمرّ إلى نهاية الأجل.
شعرتُ بضعفي أمام جبروت هذه المرأة والتي فقدتْ زوجها منذ شهرين شعرتُ بالهوة السحيقة التي بيننا وبينها كواحدة من أبناء هذا المجتمع المتخم بكل أسباب الحضارة والتقدم والرقي وبهذا المقدار من الوعي الحضاري يودّعون موتاهم ولا يحاولون أذيتهم أو تعكير صفو هدوئهم وبهذا الإيمان بما ينتظر هذا الميت من مصير الجزاء والعقاب أو المكافأة والثواب يسلّمون بالأمر الواقع وهم ينظرون إلى أمام فهل نخطئ متى فعلنا مثلهم؟ وخاصة عندما ندرك أن الموتى لا يعودون وأن الذي نبكي فوقه ونلطم على رؤوسنا بجانبه إنما هو كومة عظام ستتحوّل عاجلا أم آجلا إلى تراب ورماد؟ ثمّ هل نستطيع أن نستوعب فكرة أن الأحياء أبدى من الموتى؟ وأنه وإلى أن يحين المقدّر والمكتوب والمحتوم علينا ألا نحاول أن نعجّل في تقريب هذا الأجل وتعكير عمل سنة الحياة من خلال جهل تصرفاتنا وحماقة عواطفنا الهوجاء والمؤذية؟