عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 28-07-2005, 12:24 PM
SabriYousef SabriYousef غير متواجد حالياً
Silver Member
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 594
افتراضي

الصَّديق العزيز فؤاد زاديكه

لا تبقى الأشياء مثلما تركناها، ربما تندثر وربما تزدهر، وسواء اندثرت أو ازدهرت فإنها متلألئة في جوانح الذاكرة، وحدها الكتابة تلملم حميمياتنا وتفرشها حول شواطئ الروح وتبقى يانعة ناصعة بعيداً عن رطوبة هذا الزمان، الذاكرة البعيدة بعيدة، لكنها تبقى رحيق الحرف وينبوع الكتابة الذي لا يجفُّ قراره، نحن يا صديقي أشبه ما نكون نباتات برّية لا نملك سوى أقلامنا وذاكرتنا المشتعلة بالقصائد، لا يهمني كثيراً ما حصل ويحصل ببيتي العتيق أو بكروم المالكية التي طحنتها أكوام الاسمنت وأغنام الغجر، لكن الذي يهمُّني هو كيف ألملم كروم المالكية وسهولها الفسيحة وأفرشها فوق شهقة الحرف وبساتين الروح! الكتابة يا صديقي أعمق وأنقى من المكان والزمان لأنّها تتجاوز المكان والزمان معاً لأنها تعبر خصوبة الروح والقلب وتمنح القارئ ألقاً من وهج النجوم! فلا تقلق عمّا تبقّى من الماضي، الأزقة أزقّتنا والكروم كرومنا وسهول القمح مليئة بسنابلنا وهواء المالكية العليل حنيننا وكيفما تموضعت هذه الحميميات الآن فإنها ما تزال متلألئة في خميلة الذاكرة، فأنا يا صديقي لا أنظر إلى ما هو كائن الآن وما سيكون أنظر إلى بهجة الحرف والنصّ وتدفُّقات الخيال المنبعث من الذاكرة الدافئة، والذاكرة هي الفاعل الحي الذي يحرّك حبق الحرف، وصلني خبراً من أكثر من صديق حميم أن كروم المالكية اندثرت عبر الجرافات وتحوّل مكانها فيلات وشقق وبيوت طينية، لكني مع هذا لا أتخيل ديريك إلا وكرومها تعانق معارج غربتي، ويؤلمني عندما أذهب إلى ديريك ولا أرى إخضرار الكروم ولا آكل من عنب البحدو والمسبّق والبلبزيكي والداركفنار والمظرونة! لكنها الحياة يا صديقي، يموت البلبل رغم جمال تغريده وتموت الوردة رغم عبقها وتموت الكروم رغم بهائها ويموت الإنسان رغم ذاكرته المبرعمة مع خيوط الشمس، وحده الحرف يبقى شامخاً على جبهة الحياة!

إن عزائي الوحيد في الحياة هو الكتابة، هو الحرف الذي يقاوم حتى جبروت الموت لأنه حي لا يزول! مع أنّي صديق الموت في أيّ حين فأنا لا أخشى الموت لأنّ كل البشر هم موتى، لكن موتهم مؤجل إلى حين وربما هذا الحين يطول أو يقصر، وهكذا فإن معادلات الحياة أراها سقيمة وطائشة ولا جدوى منها في الكثير من الأحيان خاصة عندما أرى إنسان هذا الزمان يركض خلق الحروب والمال وأهداف غالباً ما تكون قشورية وملولبة مثل حركة الأفاعي ومسمومة أكثر من سمومِ الأفاعي، سيأتي زمن ربما ليس بعيداً يضحك فيه الإنسان ملء شدقيه على ما يقرأه عن جنون بعض البشر وابتعادهم عن جادة الخير والمحبة والسلام!

إنساننا الحالي لا يعجبني، أرى أغلب البشر غائصين في متاهات جوفاء أقل ما أقول عنها أنها غير جوهرية ولا تليق بهم كبشر وتبدو لي إنسانية الإنسان تزداد تقلّصاً وجموداً وكأنه من سلالات الصقيع لا من سلالات الوجهِ البديع!

ديريك يا شهقة الروح، نصّ عشقي مكتنز بالحنين لهذا أطلق عليه محرِّر موقع تيريز عنواناً فرعياً، في معراج الحنين!

لابدّ أن أخرج يا صديقي الآن إلى الهواء الطلق كي أتمتّع بالطيور التي تحلّق بين أحضان النسيم، لأن نسغ الكتابة منبعث من موشور الحياة وصفاء زرقة السماء.

وحدها العصافير تعانق زرقة السماء!

مع خالص المودّة
صبري يوسف ـ ستوكهولم
رد مع اقتباس