الصديقة العزيزة صباح
تحية أيّتها المتغلغلة في غربة فسيحة تكاد تلامس شهوة القمر!
أكثر ما يغيظني أنني لم أؤرشف رسائلي التي أرسلتها للأحبة الأصدقاء والصديقات على امتداد تجربتي في عالم الرسائل والصداقات، إلا القليل القليل منها، وقد أقتنصت بعضاً منها وصغت منها قصصاً قصيرة وقصائد ولم أتركها في سياقها الرسائلي!
مثلاً قصة الكرافيتة والقنّب التي كتبتها انبعث من خلال رسالة كتبتها للعزيز الصديق متى ابراهيم سارة، وعندما انتهيت من كتابة الرسالة وقرأتها وجدت انها تحمل بين طياتها قصة قصيرة جاهزة ولا تحتاج إلا لبعض الصياغات الخفيفة والاصطفاءات وفعلاً اقتنصت الرسالة ولم أرسلها له إلا بعد أن نقلت كل ما في مضمون الرسالة وكتبتها بطريقة قصصية ثم أرسلت له رسالته بعد أن كانت الكرافيتة والقنّب تتربّع على صفحات الصحف الصادرة من لندن ودنيا الشرق والمواقع الالكترونية!
وقد استطعت أيَضاً أن أستثمر الكثير من القصائد والرؤى والمقالات من عوالم الرسائل التي كتبتها للأحبة ولكن مع كل هذا فإنني فقدت الكثير الكثير لأنني ما كنتُ أحتفظ بنسخ عن الرسائل المرسلة لأصحابها!
جاءني منذ فترة طيبة من أديبة شابة طموحة من ربوع الخليج تنوي إعداد كتاب حول أدب الرسائل، إيميلاً ودعوة للمساهمة في إعداد كتاب عن أدب الرسائل وبعد أن قرأت إيميلها وعرضها أرسلت لها ردّاً متسائلاً ماذا تريدين بالضبط؟ فقالت اعداد كتاب حول أدب الرسائل من مجموعة الكتاب والشعراء والروائيين الشباب لأن هذا الجنس الأدبي شبه منقرض؟ ضحكت في عبّي متمتماً، شبه منقرض! مئات الصفحات ذهبت في جعبة الريح، وتقول شبه منقرض، معكِ حق يا عزيزتي أن تقولي عن هذا الجنس الأدبي شبه منقرض لأننا لا نكترث لأهمية رسائلنا إلا بعد فوات الأوان، كنتُ آنذاك ململماً ومبوِّباً إلى حدٍّ ما بعض الرسائل وكان بين أجنحة آرشيفي بعض الرسائل التي تحمل حبق النص السردي الشعري على شاكلة هذا النص الذي بين أيدينا، فأرسلت لها نصين من نصوصي حول أدب الرسائل، وعندما قرأتهما قالت لي هل عندك المزيد، فقلت لها ليس لدي سوى بضعة نصوص أخرى لكني أستطيع ان أكتب لكِ المزيد والمزيد جدّاً لأن هذا النوع من الأدب لا يحتاج إلى أية استعدادات للكتابة والتخطيطات سوى وجود شخص ما إنسانة ما تنتظرني لأن أكتب لها نصاً على هذا الإيقاع أو ذاك، ضحكت وقالت طيب اعتبرني هذه الانسانة وأكتب لي نصوصاً على هذا الإيقاع العشقي والإنساني العميق! ضحكت وقلت لمَ لا! ثم تاه كلِّ منّا في معمعانات غربته في الحياة!
يستهويني هنا أن أشير إلى مسألة طريفة، غاية الطرافة، هذه المسألة حصلت معي منذ أكثر من ثلاث سنوات، حيث أنني كنتُ وما أزال على تواصل عبر الشبكة العنكبوتيّة مع الكثير من الكتاب والكاتبات والشعراء والشاعرات من خلال نصوصنا وأشعارنا وهمومنا المشتركة، ففي إحدى الأيام جاءني إيميل قصير جدّاً لكنه ذو مفعول كبير! رسالة إيميلية من قارئة معجبة بنصوصي الشعرية العشقية! وبدأت أردُّ عليها بشراهة رسائلية غير معهودة من قبل، نصوص عشقية من الطراز العميق، أكتب رسالة تلوى الأخرى ويردني على رسائلي بضعة كلمات لا أكثر، ولم تتواصل معي على الماسنجر نهائياً، فقط عبر الإيميل وهكذا استمر الأمر معي قرابة عام ونصف العام تقريباً!
كنتُ غائصاً في عوالمها الشوقية حيث بدت أنها رومانسية من الطراز الرفيع، كانت مفصّلة على مزاجي وجموحاتي المتدفقة مثل مياه دجلة أثناء قمة هيجانه، وأجمل ما في هذه التجرية أنني أرشفت أكثر الرسائل التي أرسلتها إليها لأنني في عهد التواصل الالكتروني وسهولة نقل وتبويب وأرشفة النصوص جعلني قادراً على الإمساك بهذا السيل الجارف من الرسائل، وفيما كنتُ في قمّة جموحي وتواصلي وتدفقي الشعري، تلقيت صدمة ولا كلّ الصدمات! ربما يخيل إليكم ان المرسلة كانت شاباً، لا كانت أنثى من لحم ودم، لكنها كانت أنثى افتراضية غير موجودة على أرض الواقع، كانت قارئة افتراضية صنعتها وأوجدت لها إيميلاً صديقة من صديقاتي المبدعات وسلَّطتها عليَّ كنوع من الدعابة، ثم تطوَّرت الدعابة إلى أن وصلت إلى مرحلة أنها لا تستطيع أن تنقطع عن مراسلتي، كانت ربّما تستمتع برسائلي العشقية التي كانت أكثر من الطراز المنشور هنا، عبر هذا النص، لأنها كانت نصوص لأنثى من نكهة الفرح الخفي وليس للنشر، وهكذا وصلت صديقتي إلى مفترق طرق فلم تستطِع أن تستمر في مراسلتي ـ على حدِّ قولها لي لاحقاً ـ خوفاً عليّ لأنها بدأت بدعابة وأنا استهوتني بادرتها لأنني تصورتها قارئة رومانسية تصلح أن تكون ملهمة من ملهماتي ومحفزة لنصوصي، لأن شرارة بسيطة كانت كافية أن تجمحني للكتابة، وهكذا عندما وجدتني صديقتي غارقاً في هذه القارئة الافتراضية دخلت على الخط عبر الماسنجر وقالت لي في سياق دردشاتنا هناك موضوع مهم تود أن تصارحني به لكنها لا تسطيع أن تبوح به عبر الماسنجر، وكنّا نتواصل عبر الماسنجر فقط بالكتابة، لا صوت ولا صورة لكني أعرفها معرفة عميقة للغاية وهي عزيزة علي لأنها كاتبة محترمة ولها حضورها الأدبي الجيد، فقلت لها ولو، معقول أن تنحرجي منّي، تفضلي خذي راحتكِ فأنا رهن إشارتكِ، ففهمت منها أن الموضوع كبير ويحتاج أن تراسلني عبر إيميلي الشخصي، فقلت لها على راحتك يا عزيزتي.
بعد يومين جاءني رسالة عبر إيميلي وإذ بي أجدني أمام مقدمات وشروحات طويلة، وزودتني بالكود السرّي للايميل الذي كانت تراسلني وصرحت لي أنها هي التي صنعت إيميلا لهذه القارئة الافتراضية وهي التي كانت تراسلني بجملة وجملتين وأنا كنت أغوص في عالم الكتابة والردود العشقية العميقة، وقدمت اعتذارها عبر رسالتها وزودتي بكل الرسائل التي أرسلتها لها لأنها كانت محفوظة في ملف خاص، ولأنها وجدت في الرسائل نصوصاً شبه جاهزة مع الخروج قليلاً عن أعراف النشر، لأنني كنت عبر رسائلي آخذي امتدادي على المليان! هاهاهاها، لكن هذا المليان كان ملياناً حضارياَ رومانسياً انسانيا منعشاً للروح، وهكذا خرّبت بيتي وبيت بيتي في تصريحها لي، لأن الذي أزعجني بالأمر ليس لأنها صديقتي وصنعت قارئة افتراضية بل أن هذه القارئة ستختفي من حياتي وستختفتي معها شراهتي المفتوحة على ظلالِ الهلال!
وبعد أيام ظهرت صديقتي على الماسنجر، فوجّهت دعوة للكتابة لها، قبلت الدعوة وبدأنا نناقش الأمر فصرحت لي انها خافت علي أن أصل إلى نقطة خطيرة في علاقتي مع هذه القارئة التي صنعتَها، فقلت لها أن جل تركيزي يا عزيزتي كان منصباً على الكتابة، وأما هي فكانت قارئة وصديقة غامضة، حتى انني وضعت في الحسبان أن تكون افتراضية أيضاً والذي كان يهمني منها أن اللعبة كانت رائعة، فلم أنزعج منكِ لأنكِ قمت بهذا العمل بل مزعوج لأنك قضيت على القارئة وما يرافقها من كتابة، ضحكت وقالت ولا يهمك سأسلّط عليك قارئة أخرى أفضل منها بكثير، وغصنا في عالم القهقهات ..
الآن عندما أفرش رسائلها وأقرأها أشعر أن أدب الرسائل فيه من الحميميات والمشاعر الشيء الكثير، فإذا كانت قارئة افتراضية قادرة على تفجير كل هذا التدفق الشعري فكيف لو كانت أنثى من لحم ودم وشَعرُها يتدلى على غدائرِ القصيدة!
مع عميق مودتي واحترامي
صبري يوسف ـ ستوكهولم
التعديل الأخير تم بواسطة SabriYousef ; 03-10-2006 الساعة 12:23 PM
|