الديمقراطية = حكومة + معارضة
من هذه المعادلة الافتراضية البسيطة يستطيع كل من يتابع المشهد السياسي العراقي وكل من يسمع اخبار العراق ويشاهد ما يجري وما يدور بين الكتل والاحزاب الكبيرة الفائزة في الانتخابات التشريعية من محادثات ولقاءات واتفاقات واختلافات وما يذهبون اليه او ما يرومون الذهاب اليه في سبيل تشكيل الحكومة المرتقبة التي يدعون انها ستكون حكومة وحدة وطنية او حكومة شراكة وطنية او حكومة شاملة او ما الى ذلك , فأنه يلاحظ بوضوح انهم بذلك يبتعدون ابعد ما يكون عن الديمقراطية , او انهم بذلك لا يتجهون نحو الديمقراطية ولا يسيرون نحو تطبيقها , ويلاحظ ايضا او يتأكد من انهم لا يريدون الديمقراطية اساسا او انهم لا يرغبون في تطبيقها ابدا ولا يسعون اليها اطلاقا ..
ومن نظرة سريعة الى هذه المعادلة السياسية الافتراضية البسيطة نستطيع ان نقول انها كالمعادلات الرياضية تحتاج الى موازنة وتتطابق لمكونات طرفيها لكي تتحقق , او انها لا تتحقق او لا تتكامل بالصورة الصحيحة الا بوجود اوبموازنة كل مكونات طرفيها .. فالطرف الاول وهو ( الديمقراطية ) التي تسعى اليها كل الشعوب وتتمناها كل الامم وتتدعي بها كل الحكومات في كل الدول سواء التي تمارسها فعلا بحق وحقيقة او التي تتظاهر بها او تتدعي بها بأي شكل من الاشكال , لا يمكن ان تكون ما لم يكن هناك الطرف الثاني اي ( الحكومة و المعارضة ) , ولكي نوضح بعض ما نريد ان نقوله في هذا الموضوع لا بد من ذكر شيئا عن هذه المكونات ومن زوايا مختلفة :-
فالديمقراطية او من التعاريف البسيطة او المبسطة للديمقراطية اوالديمقراطية بمفهومها الشعبي هي انها حكم الشعب او ان تكون الحكومة من الشعب او على الاقل اشتراك الشعب في الحكومة وهذا يعني ببساطة ان يقوم ابناء الشعب بأختيار الحكومة ولفترة محدودة طبعا ..
واما سياسيا فالديمقراطية او من المفاهيم الاساسية للديمقراطية اوالمتطلبات الضرورية لبناء الدولة الديمقراطية فتكمن في وجود حكومة منتخبة او مختارة من قبل الشعب تعمل ما تراه صالحا للوطن ومفيدا للناس وفق ايدلوجية معينة وبحسب اسلوبها الخاص ورؤيتها الخاصة مع وجود من يراقب عملها ويقيم ادائها ويحاسبها على اخطائها بأستمرار , ويكون لهذا المراقب سلطة تكون احيانا اكبر من سلطة الحكومة نفسها , وتصل احيانا الى عزل الحكومة او تغييرها اذا اقتضى الامر عن طريق القضاء الذي يجب ان يكون مستقلا ويكون له القرار الفصل , وهذا المراقب هو ما يسمى وفق المصطلحات السياسية بـ ( المعارضة ) ..
والديمقراطية لها مباديء اساسية وتعاريف مختلفة ومفاهيم كثيرة ولكن كلها تدل على قيام ابناء الشعب بأختيار اركان الحكومة الاساسية من خلال انتخابات حرة, اي قيام ابناء الشعب باختيار من يمثلهم او من يثقون به ليقوم بوضع او تشريع القوانين اي ( البرلمان ) , ومن يكلف بتنفيذ او تطبيق تلك القوانين اي ( الحكومة التنفيذية ) وهي التي تحصل على اكثر الاصوات في الانتخابات , ومن يراقبها في عملها وادائها وهي ( المعارضة ) التي لم تحصل على اكثر الاصوات في الانتخابات , بالاضافة الى ( القضاء ) الذي يكون له القرار الفصل ..
فالديمقراطية من الناحية النظرية تتسم بمفاهيم عظيمة لا مثيل لها ومعاني نبيلة لا بديل لها ومباديء سامية لا نظير لها ابدا اينما كانت ومتما كانت .. واما من الناحية العملية او الفعلية او التطبيقية فأن الامر هنا حتما سيكون مختلفا سواء في ايجابيات الديمقراطية وحسناتها او في سلبياتها ومساوئها بسبب سوء فهم مبادئها او تحريفها او عدم تطبيقها بصورة صحيحة او بشكل عادل , وان ذلك لا يكون الا بسبب عدم الموازنة الصحيحة لمكونات المعادلة اعلاه , وهذا يعني بلغة اخرى عدم التوزيع الصحيح او الفصل التام في صلاحيات المكونات الثلاث المكونة للحكومة اي البرلمان والقضاء والحكومة التنفيذية , وهذا لا يأتي الا من غياب من يراقب او يحاسب هذه المكونات الثلاث لتحديد صلاحياتها والفصل التام بينها ويكون هذا المراقب هو المسؤول الاول والاخير عن كل ذلك وهو ( المعارضة ) .
ففي الولايات المتحدة الاميركية مثلا يعتمدون اساس المراقبة والموازنة والفصل بين الصلاحيات لمنع اي قسم من اقسام الحكومة من ان يصبح ذو قوة اكبر او صلاحيات اكثر لكي لا يتسلط على غيره او ينفرد بأتخاذ القرار ...
فوجود المراقبة التي تكون من قبل المعارضة خاصة امر ضروري جدا وخاصة فيما يخص عمل واداء الحكومة التنفيذية لغرض تقويمها ومحاسبتها على اخطائها او عند اخفاقها او تلكؤها في مهامها او عند عجزها في حماية الحقوق الاساسية للمواطنين او في توفير الامن والامان لهم او في انجاز المشاريع الخدمية والانتاجية والمعمارية وتوفير فرص العمل مما يكفل الرفاهية والحياة الحرة الكريمة لجميع ابناء الشعب وهذه هي ما تدل على ترسيخ الممارسة الديمقراطية اوتشير الى تطبيقها بصورة صحيحة ..
فالديمقراطية يجب ان تبنى على اساس الرأي والرأي الاخر المعارض , وهو الذي يغذيها ويجعلها تستمر وتدوم , وان عدم وجود الرأي الاخر يعني عدم وجود ديمقراطية او ان عدم الاخذ بالرأي الاخر يعني انهاء للديمقراطية .. لأن الرأي الاخر المعارض هذا ( اي المعارضة ) هو الذي يولد الديمقراطية وهو الذي يجعلها تستمر وهو الذي يجددها ويطورها مع الزمن وبحسب متطلبات العصر المتجدد دائما وابدا ...
واذا ما اخذنا الولايات المتحدة الاميركية كنموذج او كمثال وذلك لسببين اولهما انها هي التي فرضت الديمقراطية على العراق , وثانيهما ان كلاهما يتميزان بتنوع شديد سواء في الموارد البشرية او في الموارد الطبيعية وهذا التنوع يعتبر في الولايات المتحدة الاميركية المصدر الرئيسي لقوتها وجبروتها وسبب تقدمها وتطورها , ولهذا لا بد ان تكون الديمقراطية المفروضة على العراق بنفس مقاييس ديمقراطيتها او بحسب مواصفاتها , ففي الولايات المتحدة الاميركية يتم تشكيل الكونكرس ( الذي هو السلطة التشريعية للبلد ) بفرعيه بطريقة الشراكة , فمجلس الشيوخ يتم تشكيله بطريقة شراكة لجميع الولايات المتحدة التي يتكون منها البلد ( لكل ولاية ممثلين اثنين ) واما مجلس الممثلين فيتم تشكيله بطريقة شراكة ايضا لجميع السكان في جميع الولايات وبحسب عدد النفوس لكل ولاية , بينما الحكومة يتم تشكيلها من قبل الذي يفوز في الانتخابات الرئاسية فقط وكما يشاء او وفق ما يشاء وممن يشاء , بينما يبقى الذي لم يفوز في الانتخابات في الكونكرس بالمرصاد له ... فلا يجوز مطلقا ان تتوحد الاكثرية التي فازت في الانتخابات مع الاقلية التي لم تفوز لتشكيل حكومة موحدة , واذا ما حصل هذا فأن ذلك يعني انهاء للديمقراطية لان مثل هذه الوحدة لا تكون الا ضد الشعب او على حساب مصالح ابناء الشعب الذي اختارهم وانتخبهم ...
فالديمقراطية في حقيقتها هي فعلا حكم الاكثرية , الاكثرية العددية التي تأتي من ممارسة الية الديمقراطية او المدخل الرئيسي لها التي هي الانتخابات ... ولكن من تطبيقات الديمقراطية المعتمدة يجب ان تكون الاكثرية الفائزة في الانتخابات في الحكومة التنفيذية او هي التي تشكل الحكومة التنفيذية , بينما تبقى الاقلية في البرلمان كمعارضة للحكومة التنفيذية وهي بذلك لا تقل شأنا عنها ابدا ...
وهنا لا بد من ان نشير ايضا ان الديمقراطية بمفهومها الفلسفي هي رؤية حضارية لنظام حياة للمجتمع او طريقة لتعايش الناس قبل ان تكون نظام حكم او نظام لتداول الحكم , فهي يجب ان تكون او ان تمارس في كافة مؤسسات المجتمع ومنظماته المدنية وحتى داخل العائلة وليس فقط في مؤسسات الدولة الرسمية او في الهيئات الحكومية وتشكيلاتها , والديمقراطية لا تنتهي بعد اعلان نتائج الانتخابات واستيلاء الاكثرية على الحكم كما يفهمها البعض او كما يحلو للبعض ان يفسرها هكذا , او كما يسعى الى ذلك البعض الاخر لاقصاء الاقلية او تهميشها او الغائها .. وهي في نفس الوقت لا تجوز تقسيم الحكم على الكل او على اسس دينية او طائفية او مذهبية او قومية او ما الى ذلك , فهي وسيلة لضمان حقوق الكل والحفاظ على كل تلك المسميات وتحقيق المساوات والعدالة لها وليس لألغائها او التسلط عليها او لتحقيق اطماع خاصة من خلالها ...
من هذه المقدمة الطويلة نستطيع ان نقول ان ما يحصل الان في العراق بعد ان فرضت عليه الديمقراطية فرضا قسريا , لا يمت بصلة الى الديمقراطية ابدا , وان كل ما يجري هناك هو في غياب الديمقراطية او الاصح هو تغييب للديمقراطية , وهذا ما يدل اما على عدم فهم للمباديء الاساسية للديمقراطية ليس فقط من قبل عموم ابناء الشعب , بل حتى من قبل بعض المسؤولين والسياسيين وصناع القرار( وهذا امر نستبعده طبعا ) , او التعمد في تجاهل ذلك لغايات واغراض خاصة , او عدم فهم لثقافة المعارضة الضرورية للديمقراطية التي يجب ان تكون لمراقبة اداء الحكومة , او عدم التمييز بينها وبين المعارضة المعادية التي تروم الى القضاء على الحكومة او الانقلاب عليها , او التعمد بدمج مفهوم هاتين المعارضتين لخلط الاوراق او لأغراض خاصة او لتبرير عدم القبول بالرأي الاخر المعارض ...
فالمعارضة الضرورية ليس بالضرورة ان تكون دائما ضد الحكومة , فقد تتفق احيانا هذه المعارضة مع الحكومة على امور كثيرة وتتوحد الكلمة على بعض القضايا المهمة مثل القرارات المصيرية او العلاقات الخارجية وتصبح بذلك سندا للحكومة , وهذا هو ما يميزها عن الانظمة الشمولية الدكتاتورية التي تنفرد في الحكم وتنفرد في اتخاذ القرارات المهمة والغير المهمة على حد سواء ولهذا يكون لها عادة او تنشأ لها دائما معارضة معادية تحاول القضاء عليها ...
ان ما يدور هذه الايام من محادثات بين الكتل والاحزاب الكبيرة الفائزة في الانتخابات ومحاولاتها الاتفاق على تشكيل حكومة شاملة او حكومة شراكة فيما بينهم وادعائهم بأشراك كل الاطراف فيها للوصول الى اتفاق او لارضاء كل الاطراف يقودنا الى التساؤل :-
هل يجوز ان يحكم الشعب كله او ان يكون الشعب كله في الحكم ؟ فهل يجوز ان يحكم الكل على الكل ؟ ومن سيراقب هذا الكل الحاكم ؟ وكيف سيعرف ابناء الشعب ان هذا الكل الحاكم يحكم بعدل اذا كانوا كلهم في الحكم ؟ .
واستنادا الى هذا نقول انه لا بد من وجود من يحكم ولا بد من وجود من يراقب هذا الذي يحكم , ولا بد من ان يستطيع الذي يراقب ان يحاسب الذي يحكم لكي يستقيم ولكي يعدل في تحقيق العدل والمساوات للجميع , هذا بالاضافة الى ان وجود هذا المراقب سيكون حافزا للذي يحكم او سيدفعه الى تقديم الافضل ...
وعلى هذا الاساس نرى انه يجب ان يتم تشكيل الحكومة من قبل الاكثرية الفائزة في الانتخابات وتوزيع المناصب الوزارية اعتمادا على الخبرة والكفاءة والاخلاص وليس لأي اعتبار اخر لتكون حكومة قوية وقادرة على تنفيذ برامجها , وتكون هي المسؤولة على ادارة كافة شؤون الدولة وهي التي تتحمل مسؤولية كل ما يتطلب ذلك , بينما تبقى الاقلية في البرلمان كمعارضة لتراقب اداء تلك الحكومة وعليها تقع مسؤولية محاسبتها , وبذلك يتم ضمان ديمومة الديمقراطية وسلامة ممارستها التي ستضمن او تتيح الفرصة للتناوب على السلطة بين الحكومة والمعارضة من خلال الاصوات التي ترمى في صناديق الاقتراع في الانتخابات التي تمثل رأي ابناء الشعب وقرارهم العادل الذي يجب ان يحترم وان يكون ملزما للكل او فوق الكل ...
وختاما نعود ونقول لا يجوز مطلقا توزيع المناصب الوزارية على الاكثرية والاقلية لغرض ارضاء الجميع او لمراعات مصالح الجميع .. نعم يجوز تشكيل برلمان يضم ممثلي كل ابناء الشعب من كل الفئات ومن كل الشرائح ومن كل المناطق , ولكنه لا يجوز مطلقا تشكيل حكومة مشتركة بين الاكثرية والاقلية بأسم حكومة توافق او حكومة شراكة وطنية او حكومة الوحدة الوطنية او تحت اي مسمى اخر ..
فنعم لبرلمان شراكة .. وكلا لحكومة شراكة .