Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الديني > المنتدى المسيحي

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-09-2008, 11:51 PM
الصورة الرمزية ابو سومر
ابو سومر ابو سومر غير متواجد حالياً
Titanium Member
 
تاريخ التسجيل: Oct 2007
المشاركات: 910
افتراضي امثال سيدنا ورب المجد يسوع المسيح

الجزء الأول طبيعة ملكوت الله


هذا الكتاب


دراسة أمثال المسيح دراسة ممتعة، تنقلنا من واقع الحياة إلى السماويات، ببساطة وعُمق، فالمسيح هو «الراوي الأعظم» صاحب الأسلوب السهل الممتنع، الذي لا يفقد طلاوته مهما نُقل إلى مختلف اللغات، أو انتشر في كل الحضارات، لأن المبادئ الروحية في تعليمه هي الأساس.
وأمثال المسيح بالغة الإعجاز في توضيح كيفية انتشار ملكوت الله في العالم، وفي وصف السعادة التي يحصل عليها الإنسان الذي يُملِّك الله على حياته، وفي شرح نوعية حياة الإنسان الذي ينتمي إلى ملكوت الله.
ولقد اخترت من أمثال المسيح سبعة وثلاثين مثلاً، قدَّمتها بحسب موضوعاتها، فبدأتُ بخمسة عشر مثلاً تشرح طبيعة ملكوت الله، وأتبعتها باثني عشر مثلاً تتحدث عن امتيازات أبناء ملكوت الله، ثم ختمت بعشرة أمثال عن مسؤوليات أبناء ملكوت الله.
وكل ما يرجوه الكاتب هو أن يدرك القارئ روعة الحياة التي يجدها كل من ينتمي إلى ملكوت الله، وتكون كلمات المسيح دستور حياته، وطاعة الله أقصى أمانيه.
مقدمة


تميَّز تعليم المسيح برواية الأمثال «وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ» (مرقس 4: 34). والمثل قصة أرضية تعبِّر عن حقائق أوحى الله بها، فهو يشبه مسكناً على الأرض وقد فُتحت نافذته نحو السماء. وما أن تقول «أمثال المسيح» حتى تتذكَّر أروع القصص من وقائع الحياة العادية. ولا غرابة، فالمسيح هو «كلمة الله» المتجسِّد، الذي شارك الناس في أحداث حياتهم اليومية.. عندما ولدته العذراء القديسة مريم أضجعته في مذود، وزاره في مهده رعاةُ الأغنام البسطاء، وعاش في الناصرة لا في عاصمة البلاد، وكسب عيشه من أعمال النجارة، واختار تلاميذه من الصيادين البسطاء. غير أنه كان صاحب رسالة محبة الله للبشر جميعاً على اختلاف نوعياتهم ومعتقداتهم، فهو «الكلمة» والمتكلم، وهو الرسالة والرسول والرسالة. وقد جاء إلى العالم برسالة واضحة قوية عن محبة الله، وعدالته، وأعلن هذه الرسالة بطريقة واضحة قوية جذابة، حتى «بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ» (متى 7: 28 و29).وكانت الأمثال إحدى طرق تعليمه الجذابة.
وتصوِّر الأمثال التي ضربها المسيح حالاتٍ من واقع حياة الناس، ولذلك نطلق عليه «الراوي الأعظم» فهو الذي يُرينا أباً يفيض قلبه حباً وشوقاً إلى ابن ضال نادم راجع من البلد البعيد إلى الأحضان الأبوبة المنتظرة، الواثقة أنه لا بد راجع (لوقا 15: 20)، ويرينا راعي أغنام منحنٍ على طرف هاوية ليرفع حمَلاً له سقط في حفرة (لوقا 15: 4)، ويرينا جريحاً وقع بين اللصوص يسعفه مسافر يختلف عنه في الوطن والدين (لوقا 10: 33). وتنقلنا أمثال المسيح لنرى فلاحاً يبذر بذوره (متى 13: 3) أو يحرث بمحراثه (لوقا 7 :17)،وصياداً يلقي شباكه (متى 13: 48)، وأرملة تستنجد بقاضٍ مرتشٍ (لوقا 18: 3)، وبنّاء يبني قلعة (لوقا 14: 28)، وملكاً يتّجه بجيشه لأرض المعركة (لوقا 14: 31). ولمس المسيح في أمثاله الحياة العائلية كما في مثَل الابنين (متى 21: 28-31)، والحياة الزراعية كما في مثَل التينة غير المثمرة (لوقا 13: 6-9) والحياة التجارية كما في مثَل الوزنات (متى 25: 14-30)، والحياة السياسية كما في مثَل الملك الذي طلب حكماً فانقلب شعبه عليه أثناء سفره (لوقا 19: 11-27).
ولم يكن المسيح أول من استخدم أسلوب التعليم بأمثال، فقد سبقه أنبياء العهد القديم وغيرهم في ذلك. ولكن أمثال المسيح تخلو من القصص الخرافية، وحديث الأشجار والحيوانات، فهو «الطريق والحق والحياة» الذي أعلن الأخبار المفرحة الحقيقية بأسلوب تعامل الله الحقيقي مع البشر, فجاءت أمثاله واقعية تحمل دروس الأبد لكل بشرٍ في كل زمن وفي كل مكان، فقد قال «ٱَلْكَلاَمُ ٱٰلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا 6: 63).
لماذا علَّم المسيح بأمثال؟

قبل أن يبدأ المسيح التعليم بالأمثال كان قد وعظ تعليماً صريحاً وقال لمفلوجٍ شفاه: «مغفورة لك خطاياك» (مرقس 2: 9)، ودخل بيوت الخطاة وأكل معهم (مرقس 2: 16)، وشفى صاحب يدٍ يابسة يوم سبتٍ، فرفضه قادة بني إسرائيل وتشاوروا معاً على قتله (مرقس 3: 6)، فغيَّر المسيح طريقة تعليمه إلى الأمثال التي يفهمها البسطاء الراغبون في التعلُّم، لأنهم سيسألون عن معناها. أما الرافضون فسيظنون أن المسيح يضرب أمثالاً، أو يروي حكايات، فيتوقَّفون عن مقاومته، ويتركونه يعظ الجموع الراغبة في المعرفة. ويتَّضح لنا هذا من أنه عندما روى أول أمثاله، وهو مثل الزارع، سأله تلاميذه: «لماذا تكلمهم بأمثال؟» فأجاب: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِٱلأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا» (مرقس 4: 11، 12). وختم مثل الزارع بقوله: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!» (مرقس 4: 9)
فالمثل يعطي الراغب في المعرفة مزيداً من المعرفة، لأنه سيفتش عن معناه. أما المشاغب الرافض فسينصرف عن المعنى الكامن في المثَل لأن قلبه مغلق، ولذلك قال المسيح: «فَإِنَّ مَنْ لَهُ (الرغبة في المعرفة) سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ (هذه الرغبة) َٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ» (متى 13: 12)
كيف نفسِّر الأمثال؟

عند تفسير الأمثال يجب أن نراعي ثلاثة قوانين:
  1. يجب أن نعرف المناسبة التي روى فيها المسيح المثل، فنفسِّره في نور القصد الرئيسي من روايته. وتساعدنا مناسبة رواية المثل على إدراك المعنى الرئيسي المقصود منه.
  2. ليس لكل تفاصيل المثل معاني روحية، فلا يجب أن نحمِّل النصَّ أكثر من جوهر التعليم، ولا أن نستقي منه استنتاجات فرعية لا ترتبط بالقرينة، ولا أن نستخرج من كل تفاصيل المثل دروساً. وقد نصحنا القديس يوحنا فم الذهب أن نأخذ المعنى الرئيسي من المثَل: «وألا نشغل نفوسنا كثيراً بالبقية». ففي مثَل السامري الصالح، يكفي أن نرى أن قريبي هو المحتاج لمساعدتي، مهما اختلف عني في الدين والجنسية، دون داعٍ لأن نتساءل عن المقصود بالحمار أو صاحب الفندق أو الدينارين.
  3. لا يمكن أن يُؤخَذ المثل وحده أساساً لعقيدة دينية، بل يجب أن نقرن آيات الكتاب معاً قبل أن نكوِّن عقيدتنا (1كورنثوس 2: 13). وقد روى المسيح أمثاله للبسطاء الذين سمعوها بسرور لأنها لمست واقع حياتهم.
1 - الملكوت انتقال إلى حالة جديدة


(أ) الملكوت حياة جديدة - مثلا الرقعة والزقاق (لوقا 5: 27-39)
(ب) الملكوت تعليم جديد - مثل الكاتب المتعلم (متى 13: 52)
(ج) دعوتان واستجابتان - مثل الأولاد اللاعبين (لوقا 7: 31-35)
(أ) الملكوت حياة جديدة مثلا الرُّقعة والزِّقاق


27وَبَعْدَ هٰذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً ٱسْمُهُ لاَوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي. 28فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. 29وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَٱلَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. 30فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ 31فَأَجَابَ يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. 32لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ.
33وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذٰلِكَ تَلاَمِيذُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ 34فَقَالَ لَهُمْ: أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ 35وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. 36وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ. 37وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. 38بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً. 39وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ (لوقا 5: 27-39).

(ورد هذان المثلان أيضاً في متى 9: 14-17 ومرقس 2: 13-22)
مناسبة رواية المثَلين:

روى المسيح هذين المثَلين أثناء وليمة أقامها له لاوي العشار (جابي الضرائب). وكان جمع العشور (أو جباية الضرائب) وظيفة محتقرة عند اليهود، لأن الذي يقوم بها لصٌّ، وخائنٌ لوطنه، لأنه يتقاضى ضرائب أكثر مما يحقُّ له، كما أنه كان يأخذ أموال أبناء شعبه ليؤدّيها للسادة المستعمرين الرومان. فكان العشَّار (في نظرهم) يرتكب خيانتين: خيانةً أخلاقية، وخيانة وطنية.
وكان المسيح قد مرَّ بلاوي وهو يؤدي عمله، فدعاه: «اتبعني» (لوقا 5: 27)، فأطاع وترك كل شيء وقام وتبعه. وكان لدعوة المسيح له، ولقبوله هو لتلك الدعوة أثرٌ عظيم في نفسه، فقد شعر أنه ذو قيمة كبيرة في نظر الله. وفاض قلبه بأفراح الخاطئ التائب الذي غُفرت خطاياه، وأراد أن يعبِّر عن ابتهاجه، فأقام وليمة للمسيح احتفالاً بالتجديد الذي جرى له، دعا إليها زملاءه وأصدقاءه من العشارين أمثاله.
وفي أثناء الوليمة كانت جماعتان مختلفتان تراقبان المسيح، أولهما جماعة الفريسيين، وهم اليهود المتديِّنون المتزمِّتون، فانتقدوا السيد المسيح والمحيطين به من الذين حضروا وليمة لاوي، وقد اعتبروهم صحابته، وتساءلوا: كيف يقبل معلِّمٌ ديني محترم دعوة الخطاة ويأكل معهم؟ لا بد أنه مثلهم! وأخذوا يراقبون ليروا إن كان لاوي وضيوفه سيراعون مطالب شريعة موسى في الاغتسال قبل الأكل.
أما الجماعة الثانية فكانوا بعض تلاميذ يوحنا المعمدان، المعلِّم المتنسِّك المتقشف الذي كان لفرط تقشُّفه «لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً» (لوقا 7: 33). وكان قد قال عن المسيح إنه «ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي، ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.. هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ.. ينْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 1: 27، 29 و3: 30). فاندهشوا وهم يرون المسيح يأكل ويشرب ويحضر الولائم ويصادق العشارين والخطاة، وهو أسلوبُ حياةٍ يناقض أسلوب معلّمهم المعمدان!
سؤالان:
وبسبب هذه الوليمة طُرح على المسيح وتلاميذه سؤالان، أحدهما من الفريسيين، والآخر من تلاميذ المعمدان. سأل الفريسيون تلاميذ المسيح: «لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟» (لوقا 5: 30). وسألوا المسيح: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً... أَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟» (لوقا 5: 33). وسأل تلاميذ المعمدان السيد المسيح: «لمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» (متى 9: 14).
جواب المسيح على سؤال الفريسيين:
وأجاب المسيح على سؤال الفريسيين بقوله: «لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (لوقا 5: 31 و32). وقد أوضحت إجابة المسيح هذه خمسة أمور:
  1. أوضحت طبيعة رسالة المسيح، فهي رسالة الحب الكامل لأنه الطبيب الذي يحب الخطاة، ويتعامل معهم ويختلط بهم، لا لأنه مثلهم، بل لأنه يقدم لهم الشفاء المجاني. إنها رسالة المحبة ذات العرض الذي يشمل كل أمم الأرض، وذات الطول الذي يطول كل العصور، وذات العمق الذي يصل إلى الخاطئ حيثما يكون لينتشله من أعماق سقوطه، وذات العلو الذي يرفع التائب إلى سماء المجد والعظمة. إنها المحبة الفائقة المعرفة، لأنها مجانية، ومتأنية، ودائمة (أفسس 3: 18 و19).
  2. أوضحت طبيعة خلاص المسيح، فهو هبته المجانية لمرضى الخطية، ففي المسيح لنا الفداء، «بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7). فخلاص المسيح هو الشفاء من مرض الخطية، وهو عطية الطبيب لمرضاه، كما يقول الوحي: «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23). ونحن نخلص برحمة الله ونعمته، فالرحمة تمنع عنا العقاب الذي نستحقه، والنعمة تمنحنا البركات التي لا نستحقها.
  3. وأوضحت طبيعة البشر الذين جاء ليخدمهم، فهُم مرضى يحتاجون إلى الطبيب، وهم خطاة يحتاجون إلى التوبة. أما الذين يظنون أنفسهم أبراراً فلا نصيب لهم في شفاء المسيح وخلاصه المفرح.
  4. وأوضحت طبيعة الخطية، فهي عصيان يُغضب الله، ويحجب وجهه عن الخاطئ، ويفصل الخاطئ عنه.
  5. وأوضحت طبيعة التوبة، فهي رجوع الضال عن ضلاله وتغييره تغييراً كاملاً، لأن روح الله ينيره فيدرك سوء مصيره، ويبكته فيعزم أن يترك خطاياه، فإن «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ»(أمثال 28: 13). كان لاوي مريضاً بحب المال، وكان خائناً لبلده. ولما فتح قلبه وبيته للمسيح نال الشفاء من الجشع، وأقلع عن خيانة بلده.. بل إنه أصبح مبشراً لزملائه الخطاة والضالين، فدعاهم ليلتقوا بالمسيح المخلِّص الذي أنقذه وفرَّح قلبه، ليتمتعوا بما تمتَّع هو به. كما أنه أرادهم أن يشاركوه فرحه، فالسماء تفرح بالخاطئ التائب، كما يفرح التائب بخلاص نفسه.
لماذا يصوم الفريسيون؟
كان اليهود، ومنهم الفريسيون، يصومون لأن شريعة موسى طالبتهم بصوم يومٍ واحد في السنة هو «يوم الكفارة العظيم» وهو يوم الاعتراف بالخطايا وانكسار القلوب بسببها. وفي هذا اليوم من كل سنة كان رئيس الكهنة يدخل إلى «قُدس الأقداس» في الهيكل، أولاً بدمٍ عن نفسه ليغفر الله له. وعندما يرضى الله عنه يدخل إلى قدس الأقداس مرة ثانية بدمٍ للتكفير عن خطايا الشعب (لاويين 16 وعبرانيين 9: 7).
وأضاف الفريسيون إلى هذا الصوم السنوي الذي طالبت به الشريعة صوم يومي الإثنين والجمعة من كل أسبوع، باعتبار أنهما تذكار لصعود موسى إلى جبل سيناء ليأخذ لوحي الشريعة اللذين كتب الرب عليهما الوصايا العشر. وهو صومٌ تطوعي، فوق ما طالبت الشريعة به! وكانت هناك أصوامٌ أخرى، فقد صام بنو إسرائيل يوماً كاملاً مع الصلاة والبكاء، بسبب حزنهم لاضطرارهم للقيام بحرب أهلية (قضاة 20: 26)، وصام دانيال النبي عن الطعام الشهي وعن الاغتسال والادِّهان مدة ثلاثة أسابيع بسبب حزنه، وبسبب انتظاره لإعلانٍ من الرب (دانيال 10: 3).
لماذا يصوم تلاميذ يوحنا؟
أما تلاميذ يوحنا فكانوا يصومون أصوام الطقس اليهودي. ولما سجن الملك هيرودس معلِّمهم المعمدان حزنوا، فصاموا وصلّوا طالبين أن ينقذ الله معلِّمهم من سجنه.
وسأل المسيح: «أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ» (لوقا 5: 34، 35). وفي هذا القول شبَّه المسيحُ يوحنا المعمدانَ، كما شبَّه نفسه بعريس، وتلاميذهما بأنهم بنو العرس. فلن يصوم بنو العرس والعريس معهم. ولكن يحقُّ لتلاميذه أن يصوموا ويصلّوا طالبين نجاته، لأنه كان سجيناً.
ولم يكن اليهود يقيمون مراسيم عبادة في حفلات الزفاف، كما نفعل اليوم، بل كانت وليمة العُرس عندهم هي كل شيء. ففي يوم العُرس يُحضِر العريس عروسه من بيتها إلى بيته في موكبٍ يجتاز كل طرقات القرية، يسمعان منهم كل تمنياتهم لهما بالسعادة، ثم يبدأ العشاء الذي يستمر طول الليل. وبالطبع لن يصوم الناس في يوم العرس.
لماذا لا يصوم تلاميذ المسيح؟
شبَّه المسيح ملكوت السماوات بحفل عرس، وشبَّه نفسه بالعريس، وشبَّه تابعيه بالعروس. وسبب هذا التشبيه أن المسيح العريس هو الرأس المحب، والعائل، ونبع السرور. وأن المؤمنين عروسه لأنهم جسده. ولا يستطيع المؤمنون أن يصوموا ما دام العريس معهم.
كانت حياة المسيح على أرضنا مصدر الأفراح والولائم، فبمناسبة ميلاده، قال ملاك الرب: «أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ» (لوقا 2: 10، 11). ولأول مرة في تاريخ أرضنا، احتشد أكبر تجمُّع للملائكة يسبحون الله ويقولون: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). ودُعي اسمه «يسوع» لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم (متى 1: 21).
وأفراح خلاصه تبدأ وتستمر، لأنه عمانوئيل «الله معنا» (متى 1: 23). فبعدما تجسَّد المسيح، عمانوئيل، لم تعُد صورة الله عندنا صورة السيد البعيد المتعالي، بل صورة الأب المحب القريب، الذي ندعوه: «يا أبانا الذي في السماوات» (متى 6: 9)، والذي ندنو منه لنسمع تطويباته وهو يصف أصحاب السعادة (متى 5: 1-12)، والذي سكن في وسطنا بحسب وعده: «يَقُولُ ٱلرَّبُّ. وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ» (زكريا 2: 10 و11). وبسكناه وسطنا يرفع المتَّضعين، ويخفض المتكبرين، كما قالت العذراء المطوَّبة: «أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِين» (لوقا 1: 52) «فَيُعْلَنُ مَجْدُ ٱلرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعاً» (إشعياء 40: 5).. وكل الذين يقبلونه وينالون خلاصه، يُقال لهم: «فتبتهجون بفرح لا يُنطَق به ومجيد» (1بطرس 1: 8).
متى يصوم تلاميذ المسيح؟
لا بد أن يصوم تلاميذ المسيح يوم صلبه: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ» (لوقا 5: 35). وارتفاع المسيح هو يوم عُلِّق على الصليب، فقد قال: «كَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14، 15). وقال أيضاً: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32).
وقد تنبأ المسيح بصلبه قبل حدوثه، فقال لتلاميذه: «ٱبْن ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس 8: 31). ثم قال: «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (مرقس 9: 31). ثم قال: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (مرقس 10: 33، 34)
ولا شك أن تلاميذ المسيح صاموا يوم رُفع مصلوباً، فكيف يقدرون أن يأكلوا ومعلِّمهم يعاني كل هذه الآلام؟ واليوم يصوم معظم المسيحيين يوم الجمعة العظيمة الذي فيه يذكرون آلام مخلِّصهم. ففي يوم الصليب تحقَّق قول سمعان الشيخ للعذراء القديسة مريم: «وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لوقا 2: 35)
ويصوم تلاميذ المسيح مشتركين معه في آلامه، فقد وُهب لهم لا أن يؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن يتألموا لأجله (فيلبي 1: 29). وعندما يتألمون يصومون في انكسار أمام الله طالبين عونه، وهم يعلمون أن أحزانهم ومتاعبهم مؤقَّتة «لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مزمور 30: 5)
وقد علَّمنا المسيح أن نصوم، فقال: «مَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَٱلْمُرَائِين... وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متى 6: 16-18). وبالصلاة والصوم نتعلَّم أن نتحكم في أجسادنا، فلا تسود علينا، بل نسود نحن عليها، فنكون خداماً أفضل للمسيح.
أولاً - الحاجة إلى خَلْقٍ جديد

يتَّضح لنا من مثلي الرُّقعة والزِّقاق أن هدف مجيء المسيح إلى العالم لم يكن إصلاح أمر الإنسان، بل إعادة خلقه روحياً وتجديده وتغييره تغييراً كاملاً. ويتَّضح لنا أيضاً أن الذي يصبح خليقةً جديدة هو الذي يفتح قلبه للمسيح ولتعليمه.
1 - نحتاج إلى ثوب جديد، لأن الترقيع يؤذي ولا يُصلح:
قال المسيح عن الرقعة: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ... لأَنَّ ٱلْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ ٱلثَّوْبِ، فَيَصِيرُ ٱلْخَرْقُ أَرْدَأَ» (لوقا 5: 36 ومتى 9: 16).
نشأ المسيح في بيئة فقيرة، ولا بد أنه رأى السيدات الفقيرات يرقِّعن الثياب القديمة بقطع قماش جديد، فيزِدْنَ الأمر سوءاً. مع أن الأوجب والأنسب أن يتخلَّصن من القديم ويحصُلن على الجديد.
والمعنى المقصود من المثَل أننا نحتاج إلى تجديد كامل، وليس إلى ترقيع القديم. خلق الله أبوينا الأولين آدم وحواء في حالة البراءة، ولكنهما عصيا ربَّهما فأفسد العصيان كل شيء. ولما أخطأ آدم أخطأت ذريته، وسقطت، وصار بعضهم لبعضٍ عدو، فقتل الأخ أخاه! فسدت طبيعتنا ففسدت أعمالنا، وصارت نفوسنا أمَّارة بالسوء، وصرنا بالطبيعة أبناء الغضب. عتُق ثوبنا، الذي هو كناية عن برِّ الإنسان وصلاحه، وصار مهلهلاً لا يستر لابسه، ولهذا لا يرضى الخاطئ بحاله أبداً، ويجد نفسه عاجزاً عن إصلاح نفسه بنفسه. لقد حاول أبوانا الأولان عبثاً أن يسترا نفسيهما بأوراق الشجر، لأن الأرضي مؤقَّت وزائل، ولا يمكنه أن يُصلح الدائم الذي جهَّزه الله للحياة الأبدية.. وكان ما فعله آدم وحواء بأوراق الشجر محاولة ترقيع الثوب القديم بقماش جديد لا يناسبه ولا يساعده. فالترقيع هو محاولة الإنسان العاري أن يستر نفسه بمحاولة ذاتية لإصلاحها بالتوقُّف عن خطية معينة، يتبعها الامتناع عن خطية أخرى.. أعرف شخصاً جرح إصبعه، وكتب تعهُّداً على نفسه بإصلاح أموره، ولكنه عاد إلى سابق عهده، لأنه اعتمد على قوة إرادته وحدها، ولم يأخذ من المسيح قلباً جديداً.. وهناك من يجتهدون لأداء أعمال صالحة بمجهودهم الذاتي، ظانين أن كفَّة حسناتهم الكثيرة تزيل تأثير سيئاتهم، كما أن هناك من يطلب من المسيح أن يُجري بعض التحسينات فيهم، بينما كان الواجب أن يطلبوا منه تغييراً كاملاً، لأن حاجتنا هي إلى تجديد كامل. وهذا ما لا يفعله لنا إلا المسيح، آدم الثاني، الذي لا يُرَقِّع الطبيعة القديمة بل يمنحنا طبيعة جديدة.
2 - نحتاج إلى زقاق جديد لأن الزقاق القديم لا يقدر أن يستقبل الجديد:
«لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً» (لوقا 5: 37، 38). كان اليهود يحتفظون بالخمر في أزقَّة تُصنع من جلود الجداء أو الحملان. فبعد ذبح الحيوان يعملون فتحة عند الرقبة، ينفخون فيها ليسلخوا الجلد، ثم يربطون مواضع الأرجل الأربعة، فيُصبح الجِلد زقاقاً يضعون الخمر فيه. وكانوا يضعون الخمر الجديدة في زقاقٍ جديدة، لأن الزقاق الجديدة تحتمل تمدُّد الخمر الناتج عن تخمُّرها، ويمتد عمرها إلى الوقت الذي تحتاجه الخمر لتتعتَّق.
والمعنى المقصود أن قلب المؤمن المتجدِّد يحوي معرفة المسيح الجديدة، التي تنمو وتزيد داخله. وكلما عرف نعمة الله يشتاق أن يعرفها أكثر، فينمو في النعمة (2بطرس 3: 18).
الزقاق إذاً هي الشكل والقالب، والخمر هي الروح والقلب. وكما أن الخمر الجديدة تتمدَّد فتحتاج إلى زقاق جديدة تتفاعل معها، هكذا روح المسيح فينا يوسِّع قلوبنا، ويعطينا حرية أكثر ومحبة أعمق للآخرين. وكل من يملأه روح المسيح لا يمكن أن يبقى في القالب القديم المتحجِّر الذي لا ينمو ولا يمتد، لأن الحب دائماً يجعل صاحبه يمتد إلى خارج نفسه ليخدم كل من يحتاجون إلى خدمته، مهما كان لونهم أو دينهم. كما أن الحياة الجديدة التي ننالها من المسيح تعطينا امتلاءً وغيرة لنوصِّل رسالة الخلاص إلى غيرنا، فنكون للمسيح شهوداً «فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْض»ِ (أعمال 1: 8). ونجدِّد عهودنا مع الله باستمرار طاعةً للوصية الرسولية: «تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2). ونخلع الإنسان العتيق الفاسد، ونتجدَّد دوماً بروح ذهننا، ونلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أفسس 4: 22-24 وكولوسي 3: 10).
ثانياً - الحاجة إلى تعليم جديد

جاء المسيح بتعليم جديد يُشبع القلب الجديد. وقد لاحظ الناس أنه يعلِّم تعليماً جديداً تؤيده المعجزات، فعندما شفى رجلاً تسكنه الأرواح الشريرة وقف الناس مذهولين يتساءلون: «مَا هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ؟» (مرقس 1: 27).. وعندما شفى مريضاً بالفالج (الشلل) قال له: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مرقس 2: 5) ثم أمره أن يقوم ويحمل فراشه، فبُهِت الحاضرون وقالوا: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!» (مرقس 2: 12)، لأنهم لم يسبق لهم أن سمعوا أو رأوا شيئاً مثل هذا من قبل. ولا زال تعليم المسيح باقياً شامخاً يعلو على كل تعليم، لأنه تعليم المحبة أم الفضائل.
وأذكر ثلاثة تعاليم جديدة جاءنا بها المسيح:
1 - تعليم جديد عن أبوَّة الله:
علَّمنا المسيح أن الله أبٌ محب وأنه قريبٌ منا، وقال: «صَلُّوا أَنْتُمْ هٰكَذَا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ..» (متى 6: 9-13). عندما نزلت شريعة موسى نزلت على جبل مضطرم بالنار، وسط ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق، حتى استعفى السامعون من أن تُزاد لهم كلمة، وكان المنظر مخيفاً حتى قال موسى: «أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!» (عبرانيين 12: 18-21). أما شريعة المسيح فقد جاءت لسامعيها بالفرح، فقد جلس المسيح ودنا إليه تلاميذه فأخذ يعلِّمهم مبادئ ملكوته مبتدئاً بالقول «طوبى» بمعنى: يالسعادة! (متى 5: 1-3). ولما كان الله أبانا، فإن قوته تعمل في خدمة محبته. وقد كلَّمنا الله في المسيح كلمته المتجسد، الذي عاش بيننا، وكان يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة، ودعا نفسه إلى بيت زكا العشار الخاطئ وقضى يوماً في بيته، فكشف لنا وجه الله المحب (لوقا 19: 5).
2 - تعليم جديد عن شريعة المحبة:
حين سُئل المسيح: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ ٱلْعُظْمَى فِي ٱلنَّامُوسِ؟» أجاب: «تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ... وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ ٱلنَّامُوسُ كُلُّهُ وَٱلأَنْبِيَاءُ» (متى 22: 36-40). وشريعة المحبة تمنح حريةً «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). وهو تعليم يسمو على شريعة موسى وفروضها الثقيلة، التي قال عنها الرسول بطرس إنها: «نِيرٌ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ» (أعمال 15: 10). وهكذا توقَّفت شريعة الطهارة الطقسيَّة، من غسل الجسد والملابس والأواني، وبدأ تطبيق التعليم عن طهارة القلب التي تؤهِّل صاحبها لمعاينة وجه الله (متى 5: 8)، وجاء الجديد بدل القديم، فتعلَّمنا أن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس (رومية 14: 17).
ويسمو ناموس المحبة على كل ناموس، لأن المحبة تكميل الناموس (رومية 13: 10)، وهي أعظم من كل شريعة لأنها تجعل الواجب محبَّباً إلى نفوسنا. في العهد القديم يدعونا الناموسُ عبيداً، أما العهد الجديد فيدعونا «أبناء» و «أحباء» لأن الله أنعم علينا بالتبني، فقد قال المسيح: «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً، لأَنَّ ٱلْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لٰكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي» (يوحنا 15: 15).. ومع أن الله يعتبرنا أبناء، إلا أننا نفتخر بأننا عبيده، نستعبد أنفسنا له بكل رغبتنا، لأننا محتاجون إلى ربوبيته. وهذه العبودية الاختيارية هي التي تحررنا. فعندما نسلم سلاحنا له ونخضع أمامه ننال منه الانتصار.
3 - تعليم جديد عن الخلاص:
تكلم الله في العهد القديم بالرموز التي تشير للمسيح، أما في العهد الجديد فقد تحقَّقت هذه الرموز.. أشارت ذبائح العهد القديم إلى حمل الله الوحيد الذي يرفع خطية العالم (يوحنا 1: 29)، وكان الختان علامةً في الجسد رمزاً إلى المعمودية التي تعبِّر عن الغسل والتنقية، وكانت وليمة الفصح احتفالاً بالنجاة السياسية والاقتصادية رمزاً لوليمة العشاء الرباني التي تعبِّر عن الحرية الروحية، وكان البخور في الهيكل رمزاً للصلاة التي قال المسيح عنها: «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ» (لوقا 18: 1).
وجاءنا المسيح بطريق جديد للخلاص، لا بالطقوس والأعمال، لكن «بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ» (أفسس 2: 5) فقد ظهرت نعمة الله المخلِّصة الساترة لخطايانا. وليست النعمة مثل الشريعة، فالشريعة كالمسطرة التي تُظهِر عوَجنا ونقصنا، ولكنها لا تساعدنا على إصلاح العوَج وتكميل النقص. أما النعمة فيقول صاحبها: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17).
٭ ٭ ٭

وختم المسيح مثَل الزِّقاق بقوله: «لَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ» (آية 39). وهو قولٌ يصف ردَّ فعل من يستمع إلى تعليم جديد، فإنه لأول وهلة يقول إن العتيق الذي اعتاده أفضل. فعندما تُعرَض الديانة الروحية على إنسان يعتنق ديانةً طقسية يقف أمام هذا العرض موقف المتردد، لأنه مستريح إلى القديم الذي عاش فيه. ولكن عندما ينير روح الله قلبه فإنه ينفتح لكلمة الوحي المقدس. وهذا ما حدث مع شاول الطرسوسي الذي كان يهودياً متعصِّباً، ولكن عندما ظهر الله له بنور يفوق نور النهار، قال: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 6)، فغيَّر الله حياته وجعل منه بولس الرسول.
ثالثاً - جاء المسيح بالخَلْق والتعليم الجديدين

كان اليهود يحلمون بالجديد، فكانوا يطلبون اسماً جديداً، كما قيل: «تُسَمَّيْنَ بِٱسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ ٱلرَّبِّ» (إشعياء 62: 2) والاسم الجديد يعني شخصية جديدة وإنساناً جديداً، لأن المؤمنين يصيرون «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23).. وكانوا يريدون قلباً جديداً، طاعةً للأمر: «اِطْرَحُوا عَنْكُمْ كُلَّ مَعَاصِيكُمُ ٱلَّتِي عَصِيْتُمْ بِهَا، وَٱعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ قَلْباً جَدِيداً وَرُوحاً جَدِيدَةً» (حزقيال 18: 31). وبتعليم المسيح الجديد وخلقه الجديد يصير المؤمنون «رِسَالَةَ ٱلْمَسِيحِ... مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ» (2كورنثوس 3: 3).. وعندما يتغيَّر القلب وتتغير الشخصية يرنمون للرب ترنيمة جديدة ويقولون: «جَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلٰهِنَا» (مزمور 40: 3)
وقد نتساءل: من أين لنا هذا الجديد؟ وكيف ندفع تكلفة الحصول عليه؟ ربما نظن أن الأسهل هو أن نرقِّع القديم. لكن الرب الصالح يقدم لنا الجديد الذي دفع هو كل تكلفته. فما أجمل أن نسمع سؤال إسحاق وهو يسير مع أبيه إبراهيم: «هُوَذَا ٱلنَّارُ وَٱلْحَطَبُ، وَلٰكِنْ أَيْنَ ٱلْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» فيجيبه أب المؤمنين: «ٱللّٰهُ يَرَى لَهُ ٱلْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ٱبْنِي» (تكوين 22: 7، 8). ويكشف الله عن عيني إبراهيم فيرى كبشاً وراءه مُمسكاً في الغابة بقرنيه، يفدي به ابنه، ويدعو اسم المكان «يهوه يرأه» بمعنى أن الرب يرى ويدبِّر.
لا تحاول أن تصلح نفسك بنفسك، فالمحاولة فاشلة كما فشلت محاولة أبوينا الأوَّلين أن يسترا نفسيهما. لكن تعالَ إلى المسيح ليخلق منك إنساناً جديداً ويمتعك بحياة جديدة.
سؤالان
  1. ما هو التعليم الجديد الذي جاء به المسيح عن الله، وما هو الفرق بينه وبين التعليم القديم؟
  2. لماذا تفشل المجهودات الذاتية في تغيير الحياة؟ وما هو الطريق الصحيح للتغيير؟
(ب) الملكوت تعليم جديد مَثل الكاتب المتعلم


كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ (متى 13: 52).

لا يمكن أن نكون أعضاء في ملكوت الله إلا إن صرنا خليقة جديدة، وهذا ما يسمِّيه المسيح «ولادة من فوق» (يوحنا 3: 3، 7) و «ولادة من الماء والروح» (يوحنا 3: 5). ويحتاج المؤمنون الجدد إلى معلِّمين من نوع خاص، يكونون قد صاروا أعضاء في ملكوت الله بالولادة من فوق، ويكونون قد سمعوا دعوة الله لهم ليقدموا خدمتهم لغيرهم من المؤمنين، ويكون كل واحد منهم كاتباً متعلماً في ملكوت السموات، يشبه رجلاً رب بيت، يُخرج من كنزه جدداً وعتقاء.
الكاتب المتعلم هو الذي يتعلَّم أولاً في ملكوت الله، ثم يعلّم الآخرين ما تعلَّمه عن ملكوت الله، كما قال النبي: «أَعْطَانِي ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ لِسَانَ ٱلْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ ٱلْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ، يُوقِظُ لِي أُذُناً، لأَسْمَعَ كَٱلْمُتَعَلِّمِينَ» (إشعياء 50: 4)، فهو يصغي بأذن وقلب مفتوحين لله، فيأخذ منه ما يُغيث به المعيي.
أولاً - صفات الكاتب المتعلم

1 - هو كاتب:
  1. كانت وظيفة الكاتب بالغة الاحترام، لأنه ينسخ التوراة بيده. تصوَّر أنك تكتب الكتاب المقدس بيدك كلمة كلمة.. لا بد أنه يملأ عقلك، ويفيض القلب بما امتلأ به العقل، فتحكم الأفكار الإلهية سلوكك لأنها تصبح غذاء فكرك. ويتحقَّق فيك الوصف: «فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلا» (مزمور 1: 2). وكلمة «يلهج» في اللغة العبرية تعني «يجتر». فالكاتب المتعلم يلتهم كلمة الله بسرعة، ثم يبدأ في التأمل فيها، فيسترجعها ويُمعن التفكير فيها من جديد ليستفيد منها أكثر.
  2. وكانت وظيفة الكاتب أيضاً أن يشرح كلمة الله للشعب. لقد عرفها وكتبها وانطبعت على عقله وقلبه، فيقدِّمها لغيره، لأنه يشعر بعظيم فائدتها، ويدرك أهمية المسؤولية التي وضعها الله عليه، لأن الوحي يقول: «ٱكْرِزْ بِٱلْكَلِمَةِ. ٱعْكُفْ عَلَى ذٰلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ» (2تيموثاوس 4: 2).
  3. وكان الكاتب المتعلم عادة يقدِّم صيغة مختصرة للشريعة، وهذا يعني أنه يجب أن يكون قد درسها وعرفها بعمق يسمح له أن يقدمها مختصرةً وبوضوح في كلمات قليلة. وقد اعتاد الناس أن يسألوا الكاتب المتعلم عن صيغته المختصرة للشريعة، فجاء مرة ناموسيٌّ (أي معلم للناموس) إلى المسيح يسأله عن الوصية الأولى والعظمى، وكأنه يطلب ملخصاً للشرائع من المسيح، فأجابه: «أَوَّل كُلِّ ٱلْوَصَايَا هِيَ: ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ» (مرقس 12: 28-31).
وقد كان الرسول بولس كاتباً متعلماً في ملكوت السماوات، وأراد لتلميذه تيموثاوس أن يكون كذلك، فقال له: «إِلَى أَنْ أَجِيءَ ٱعْكُفْ عَلَى ٱلْقِرَاءَةِ (تلاوة كلمة الله في اجتماعات الكنيسة) وَٱلْوَعْظِ (حثّ الناس على تطبيق ما سمعوه) وَٱلتَّعْلِيمِ (شرح العقيدة والدفاع عنها)... لاَحِظْ نَفْسَكَ وَٱلتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذٰلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هٰذَا تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضاً» (1تيموثاوس 4: 13، 16).
2 - هو عضو في ملكوت الله:
يصبح الكاتب المتعلم من أبناء الملكوت السماوات عندما يولد من الروح القدس، فيصير الله ملكاً على حياته وسيداً لتصرُّفاته، لأن دستور الملكوت يحكمه، فيطبِّق في حياته اليومية ما يقرأه وما يعلّمه للآخرين.
وعضوية هذا الكاتب المتعلم في ملكوت الله تجعله وديعاً، يجلس عند قدمي سيده ليتعلَّم منه ما يعلِّمه للآخرين، مثل مريم التي جلست عند قدمي المسيح تسمع كلامه (لوقا 10: 39)، وهو يصلي بتواضع: «طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهُ خَلاَصِي» (مزمور 25: 4، 5) فيجيبه الرب: «أَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (خروج 4: 12).
وهناك معلمون لم يختبروا الولادة الثانية، تمتلئ عقولهم بالمعرفة دون أن تختبرها قلوبهم. ولكن الكاتب الذي نحتاجه هو الذي يعرف بعقله والذي اختبر بقلبه، فيستطيع أن يُشبع الآخرين مما شبع هو به. لقد عرف طريق الشبع السماوي، فيرشد الآخرين إلى طريق الشبع.
والكاتب المتعلم المولود من الله يتحدث حديث الاختبار الذي يختلف جداً عن حديث صاحب المعرفة الفلسفية العقلية. والكلمة «حكمة» في اللغة العبرية تعني تطبيق ما نعرفه، فإن «رَأْسَ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» (مزمور 111: 10). أما كلمة «حكمة» في اليونانية فتعني المعرفة المجرَّدة. وقد نادى المسيح بضرورة المعرفة التي تتحوَّل سلوكاً وتطبيقاً عندما قال: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يوحنا : 37). وأتبع هذا بالقول: «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (آية 38). فإن كل من ارتوى من ماء الحياة يستطيع أن يروي الآخرين مما رواه الله به، ويقدر أن يشبعهم بالغذاء الروحي الذي شبع هو به.
3 - هو رب بيت:
  • يشعر الكاتب المتعلم بمسؤوليته من نحو الذين كلَّفه الله برعايتهم، لأنه رب البيت المسؤول بعائلته. ولما كان قلبه متَّسعاً عامراً بالمحبة لله والناس، فإنه يعتبر أفراد مجتمعه أعضاء في عائلته الكبيرة، فيعاملهم كما يعامل أهل بيته، ويوجِّههم بالمحبة كما يوجِّه أفراد عائلته. بل إنه يقدِّم أولاده الروحيين على نفسه، ويرعى رعية الله، كما أوصى الرسول بولس قسوس كنيسة أفسس: «اِحْتَرِزُوا اِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ» (أعمال 20: 28). وكلمة «أسقف» تعني ناظر أو مشرف، يفتقد ويرعى الجميع.
  • ورب البيت مسؤول عن إعالة أسرته ومدِّها بالطعام المغذي، ومنع ما يضرها ويؤذيها. والكاتب المتعلم كربِّ بيت يهتم بإطعام عائلته الطعام الباقي للحياة الأبدية، ويحرص على صحتهم الروحية بإبعاد كل تعليم زائف عنهم.
  • ورب البيت يلد نفوساً للرب، كما قال الرسول بولس عن أنسيمس: «ٱلَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي» (فليمون 10). وكان أنسيمس عبداً سرق بيت سيده في كولوسي، وهرب إلى العاصمة روما، وهناك سمع رسالة الرب من الرسول بولس، فتاب وصلُح حاله وصار مثل اسمه (أنسيمس يعني «نافع»). وكل كاتب متعلم يربح الناس للمسيح طاعةً للدعوة الإلهية: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ» (مرقس 1: 17).
عندما سلَّم الواعظ الأمريكي دوايت مودي حياته للرب كان يعمل بائعاً في محل أحذية، فأصبح واعظاً باركه الرب، وقطع عهداً على نفسه أمام الله ألا تمضي عليه ليلة دون أن يكون قد كلَّم شخصاً عن المسيح. وذات ليلة كان متعَباً جداً، فذهب لينام. ولكنه تذكر أنه لم يكلم أحداً في ذلك اليوم عن المسيح، فارتدى ثيابه ونزل إلى الشارع، فوجد سكيراً دعاه للتوبة، فصاح السكران: «ليس هذا شغلك!» فأجابه: «بل هو شغلي!» فقال السكران: «إذاً لا بد أن تكون أنت مودي»! لقد كان مودي كاتباً متعلِّماً، رب بيت كبير، يقود البعيدين إلى الحياة القريبة من الرب. وكان جون وسلي قد عبَّر عن هذا بقوله: «كل العالم أبروشيتي» لأنه شعر أن العالم كله هو مسؤوليته.
ثانياً - عمل الكاتب المتعلم

1 - اقتنى كنزاً:
المؤمنون أوانٍ خزفية بسيطة صنعها الفخاري الأعظم، لكنه وضع داخلها كنزاً ثميناً (2كورنثوس 4: 7) يُخرج منه الكاتب المتعلم جُدداً وعُتقاء، لأن الكنز أصبح ملكه، وصار هو مسؤولاً عنه. وهذا ينطبق على كل كنز روحي وجسدي ومادي أنعم الرب علينا به، فقد أعطاه لنا وجعلنا وكلاء عليه لنستخدمه في خدمته.
  • كنز الكاتب المتعلم هو كلمة الله: وهي أشهى من الذهب والإبريز الكثير (مزمور 19: 10)، وهي كنز لأنها تجيب على أسئلة الحياة الأساسية التي لا نجد لها إجابات إلا فيها، ومنها: كيف أحصل على غفران خطاياي، وكيف أتأكد أنها غُفرت؟ كيف أنال الحياة الأبدية، وكيف أضمنها لنفسي؟ كيف تُستجاب صلاتي؟ وغيرها من الأسئلة.. فكلمة الله تؤكد للتائب خلاصه وحياته الأبدية في المسيح الذي سدَّد ديون اللاجئين إليه فلا تُحسب عليهم. ولا يمكن أن يتقاضى الله أجرة الخطية من المسيح، وفي نفس الوقت يتقاضاها من الخاطئ الذي احتمى بفداء المسيح. فإن كنا قد احتمينا بكفارة المسيح فإنه يطهِّرنا ويستر خطايانا قائلاً: «إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18). «يَعُودُ يَرْحَمُنَا، يَدُوسُ آثَامَنَا، وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ ٱلْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ» (ميخا 7: 19). ولما كان الله قد غفر لنا، يجب علينا أن نغفر لأنفسنا ولغيرنا.
  • كنز الكاتب المتعلم هو اختباره: تحوي الكلمة المقدسة حقائق تُترجم واقعاً حياتياً، وتحوي مواعيد سماوية تتحقق حرفياً. والكاتب المتعلم الذي حصل على كنز الكلمة الإلهية يحصل أيضاً على اختبارات يومية. لقد عرف النبي داود الكثير عن الله من وحي الله له، ولكنه أيضاً اختبر صلاح الله معه، فقال: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْ» (مزمور 23: 1).. واستمع الرسول بطرس لتعاليم المسيح، ومنها قوله: «إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 16: 17)، ولكنه اختبر اختبارات عظيمة، منها أنه كان على جبل التجلي، عندما التقى النبيان موسى وإيليا بالسيد المسيح، وتحدثوا عن صلبه، وسمعوا صوت الآب من المجد الأسنى قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سُررتُ به». وقال عن هذا: «كنا معه في الجبل المقدس، وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت» (راجع 2بطرس 1: 16-19).
  • الكاتب المتعلم حصل على كنزه ليوزِّعه: لم يعطنا الله كنز نوره السماوي لنخبئه تحت سرير الكسل، ولا تحت مشغوليات العمل. «هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ ٱلسَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ؟» (مرقس 4: 21). «وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 15، 16). فالكاتب المتعلم يضيء على الآخرين بالنور الذي منحه الله له، ويشارك غيره في ما منحه الله له من معرفة وبركة. والمعروف أن كل ما نوزِّعه على غيرنا ينقص، إلا شيئان، هما المحبة والإيمان، فكلما شاركنا غيرنا في محبتنا وإيماننا زادا عندنا. والكاتب المتعلم يحب الناس، ويريد أن يختطف نفوس الخطاة من النار (يهوذا 23)، ولهذا فهو يشرح لهم إيمانه، ويوضح مباهج غفران الخطية لكل من يقابله.
هذا الكاتب الذي يملك الكنز لا يبخل بتقديم معونة لمَن يحتاج إلى عون، أو نصيحة لمن يحتاج إلى نُصح. إنه يشارك الرسول بولس قوله: «إِذِ ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ» (1كورنثوس 9: 16)، وقال أيضاً لقسوس كنيسة أفسس: «لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً وَفِي كُلِّ بَيْتٍ، شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ وَٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أعمال 20: 20، 21).
2 - الكاتب المتعلم يملك جدداً وعتقاء:
أذكر ثلاثة معانٍ للتعبير «جدد وعُتقاء»:
  • هما العهدان القديم والجديد: وكلاهما يشهدان للعناية الإلهية، فالقديم يروي كيف شقَّ الله بقوته ومحبته مياه البحر الأحمر ليعبر العبيد الأذلاء على اليابسة، الأمر الذي لما شرع فيه الظالمون غرقوا! وفي مدة أربعين سنة أطعم المستضعفين في الأرض بالمن والسلوى، ورواهم بماء من الصخر، وقال لهم: «سِرْتُ بِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، لَمْ تَبْلَ ثِيَابُكُمْ عَلَيْكُمْ، وَنَعْلُكَ لَمْ تَبْلَ عَلَى رِجْلِكَ» (تثنية 29: 5). وفي العهد الجديد نقرأ عن معجزات المسيح في إسكات العاصفة، وإطعام خمسة آلاف من خمس خبزات وسمكتين (مرقس 4: 35-41 و6: 38-44).
    ويحكي العهدان عن الفداء الإلهي، ففي العهد القديم نقرأ عن ستر آدم وحواء بأقمصة من جلد من ذبيحة حيوانية (تكوين 3: 21)، وفي العهد الجديد نقرأ عن الستر بدم المسيح (عبرانيين 9: 12). في القديم نقرأ عن وليمة الفصح تذكاراً لنجاة الأبكار من الموت (خروج 12: 13)، وفي الجديد نقرأ عن وليمة العشاء الرباني تذكاراً لنجاة كل من يؤمن بالمسيح الفادي من لعنة الخطية (لوقا 22: 19). في القديم قدَّم الله الشريعة، وفي الجديد قدَّم النعمة «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا» (يوحنا 1: 17).
  • هما الاختبارات الجديدة والقديمة: عند الكاتب المتعلم معلومة قديمة، يضيف إليها كل يوم شيئاً جديداً، فيكون عنده دائماً كنز جديد مع مخزون الاختبارات القديمة، فيرنم ترنيمة جديدة بالإضافة إلى الترنيمة القديمة! ولذلك قال الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «أَتَذَكَّرُ ٱلإِيمَانَ ٱلْعَدِيمَ ٱلرِّيَاءِ ٱلَّذِي فِيكَ، ٱلَّذِي سَكَنَ أَوَّلاً فِي جَدَّتِكَ لَوْئِيسَ وَأُمِّكَ أَفْنِيكِي، وَلٰكِنِّي مُوقِنٌ أَنَّهُ فِيكَ أَيْضاً. فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ أُذَكِّرُكَ أَنْ تُضْرِمَ أَيْضاً مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِيكَ بِوَضْعِ يَدَيَّ لأَنَّ ٱللّٰهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ ٱلْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ ٱلْقُوَّةِ وَٱلْمَحَبَّةِ وَٱلنُّصْحِ» (2تيموثاوس 1: 5-7).
    وفي كل يوم يختبر المؤمن اختبارات جديدة مع الرب يضيفها إلى ما سبق أن اختبره، فلنردِّد مع النبي إرميا قوله: «لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. نَصِيبِي هُوَ ٱلرَّبُّ قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُوهُ. طَيِّبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجُّونَهُ، لِلنَّفْسِ ٱلَّتِي تَطْلُبُهُ» (مراثي إرميا 3: 22-25). ووجود الله معنا كل يوم يضمن لنا اختبارات متجدِّدة. وحتى لو استهلكت مصاعب الحياة بعض قوتنا الروحية، فإن الرب يمنحنا قوة روحية جديدة كل يوم، ويُلبسنا سلاحه الكامل فنقدر أن نثبت ضد مكايد إبليس (أفسس 6: 11).
  • هما المعرفة والتطبيق: فالمعرفة هي المعلومة التي تعلمناها، والتطبيق هو ممارسة المعلومة الموجودة عندنا. نحن نعلم أن يسوع مات، ودُفن، وقام هازماً الموت، وهذه حقيقة تاريخية، ولكنها في الوقت نفسه اختبار معاصر، لأننا نقول: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). وانتصار المسيح هو انتصار المؤمنين به، فيقولون: «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ». أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟.. شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا ٱلْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1كورنثوس 15: 54-57). القديم إذاً هو معرفة التاريخ، والجديد هو الاختبار المعاصر في الحياة اليومية الحاضرة.
دعونا ندعو الله الذي جعلنا خليقة جديدة في المسيح، وعمَّر قلوبنا بتعليمه الجديد، أن يجعل من كلٍّ منا كاتباً متعلماً في ملكوته، يُخرج من كنزه جدداً وعتقاء، لشِبع نفسه، وشِبع كل المحيطين به.
سؤالان
  1. ما هي البركة التي يأخذها الكاتب وهو ينسخ كلمة الله؟ وما هي البركة التي ينالها السامعون وهو يفسِّرها لهم؟
  2. اذكر باختصار ثلاثة معانٍ للجدد والعتقاء.
(ج) دعوتان واستجابتان مَثَل الأولاد الذين يلعبون في السوق


31 ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هٰذَا ٱلْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ 32يُشْبِهُونَ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. 33لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. 34جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. 35 وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا(لوقا 7: 31-35).

(ورد المثَل أيضاً في متى 11: 16-19).
رأينا في مثلي الرقعة والزقاق أن ملكوت الله حياة جديدة، ورأينا في مثل الكاتب المتعلم أن الذي يقوم بالتعليم في الملكوت معلم يقدِّم التعليم الجديد، ويعلن الله من خلاله رسالة حبه لكل الناس بمختلف خلفياتهم، ويتواصل معهم بواسطة هذا المعلم، ويستخدم كل وسيلة لتحريك مشاعرهم وأشواقهم نحوه. وهذا المعلم كارز يدعو الجميع للتوبة بأساليب متنوعة.
ويعلِّمنا مَثَل «الأولاد الذين يلعبون في السوق» أن هناك دعوة موجَّهة دائماً لكل الناس من كل نوع وبكل أسلوب، فقد كلَّم الله الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة (عبرانيين 1: 1). كما يعلمنا المثل أن بعض الناس يقبلون التعليم الجديد والبعض الآخر يرفضونه، بغضّ النظر عن أسلوبه. والذين يخافون الله ويقبلون تعليمه الحكيم يدافعون عن هذا التعليم ويبرِّرونه أمام العالم بكلامهم وأفعالهم.
وصف المسيح في هذا المثل أولاداً خرجوا ليلعبوا في ساحة القرية الكبرى. وكان القرويون يستخدمون الساحة في الصباح الباكر سوقاً يبيعون فيه ما يستغنون عنه، ويشترون فيه ما يحتاجون إليه. وكانت الساحة تخلو من الباعة والمشترين وقت الظهر تقريباً، فيتجمَّع الأولاد ليلعبوا فيها. ويقول هذا المثل إن الأولاد الذين خرجوا ليلعبوا انقسموا إلى فريقين، ووقفوا صفَّين متقابلين، فاختار أحد الفريقين أن يلعبوا لعبة «وليمة العُرس»، فزمَّروا لزملائهم ليبدأوا اللعبة بالرقص، ولكن الفريق الآخر لم يتجاوب، وقالوا إن مزاجهم ليس مزاج فرح وسعادة، ورفضوا أن يرقصوا.. فقرَّر أفراد الفريق الأول أن يلعبوا لعبة الجنازة وبدأوا ينوحون، ولكن الفريق الآخر عاد ورفض الاشتراك في اللعب بحُجَّة أنهم لا يرغبون في هذه اللعبة أيضاً، ورفضوا أن يبكوا أو أن يلطموا.. ويتَّضح من المثَل أن الفريق الثاني غير متعاون، بل ورافض لكل نداءٍ يُوجَّه إليهم مهما كان موضوعه، ولا يستجيبون لأية دعوة مهما كان نوعها.
وقصد المسيح بهذا المثل أن أناس جيله سمعوا دعوةً للتوبة من يوحنا المعمدان تنذرهم وتحذِّرهم، فلم ينتبهوا إليها، ولم يؤمنوا بها، وانتهى الأمر بالمعمدان إلى السجن في قلعة مدينة «مخيروس» ثم قُطعت رأسه (متى 14: 10). وجاءتهم دعوةٌ ثانية من المسيح فيها ترغيب وتشجيع وتشويق، فرفضوها، وانتهى الأمر بالمسيح إلى الصليب، الذي تبعته القيامة فالصعود إلى السماء، ومنها ننتظر عودته ثانيةً. والدعوتان مختلفتان في أسلوبهما، متَّفقتان في موضوعهما. وكان يجب أن أناس جيله يستجيبون لإحدى الوسيلتين الكرازيتين، فيتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن كثيرين منهم رفضوا.
أولاً - دعوتان

هناك أوجه شبَه كثيرة بين المسيح والمعمدان، منها صلة القرابة الجسدية، فقد قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم وهو يبشِّرها بالحبَل بالمسيح: «هُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً» (لوقا 1: 36). وقد طلب المسيح من المعمدان أن يعمِّده ليكمل كل بر (متى 3: 13-15). وشهد يوحنا للمسيح أنه المخلِّص الآتي إلى العالم، وأنه «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29). وقال المعمدان عن المسيح: «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 34) وقال أيضاً: «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ» (يوحنا 3: 30، 31). واشترك المسيح مع المعمدان في تعميد الناس بمعمودية التوبة، ونادى كلاهما بمجيء ملكوت الله (يوحنا 3: 22، 23).
وبالرغم من هذا التشابه فإننا نرى بينهما اختلافاً في أسلوب الكرازة، فقد استخدم المعمدان أسلوب التوبيخ والتحذير، وهو ما يسميه المثل «نُحنا لكم». واستخدم المسيح أسلوب التشجيع والتشويق، وهو ما يسميه المثل «زمَّرنا لكم». ونحن نحتاج إلى رسالة التحذير، كما نحتاج إلى رسالة التشويق، لأن بعض الناس يستجيبون للتوبيخ، وبعضهم الآخر يقبلون الكلمة الرقيقة. ويستخدم الله معنا طول الأناة، كما يستخدم التأديب لنتوب ونرجع إليه، ونصبح أبناء الملكوت.
1 - دعوة التوبيخ والتحذير:
كان يوحنا ناسكاً متقشِّفاً حتى قالوا إنه «لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً» (لوقا 7: 33) وكان يلبس وبر الإبل، ويأكل جراداً وعسلاً برياً (متى 3: 4)، ووصف نفسه بالقول: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ ٱلنَّبِيُّ» (يوحنا 1: 23). وكان وعظه تحذيرياً نبَّر فيه على الدينونة قائلاً: «يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟ فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ...وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ» (متى 3: 7، 8، 10).. وكان مستمعو يوحنا من العشارين والخطاة، ومن الجنود الذين سألوه: «وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟» فَأجَابَ: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَٱكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ» (لوقا 3: 14). وهذا الوعظ دعوة للتوبة وعمل الصلاح، خوفاً من العقاب الإلهي، وتحذيراً من الدينونة الأخيرة. وقد وصف واعظٌ حكيم يوحنا المعمدان بقوله: «كان يوحنا كئيباً وحقيقياً مثل جنازة، ولا مفرَّ من الاستماع إليه».
2 - دعوة التشويق والتشجيع:
جاء المسيح يدعو الناس لحياة التوبة المفرحة، «وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ ٱلزَّمَانُ وَٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِٱلإِنْجِيلِ» (مرقس 1: 14، 15)، والإنجيل هو الخبر المفرح. والمسيح هو المملوء « نِعْمَةً وَحَقّاً... وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا» (يوحنا 1: 14، 16، 17)، وقد قال عن نفسه: «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10)، وكان يلبي الدعوات ويشارك في الأفراح، وقد أجرى معجزته الأولى في حفل عرس لتستمر أفراح المدعوّين وسعادة أصحاب العرس (يوحنا 2: 1-11)، وذهب إلى بيت لاوي العشار، وجاء عشارون وخطاةٌ كثيرون واتكأوا ليأكلوا معه ومع تلاميذه (متى 9: 10). وضرب مثل «الابن الضال» ليعلن أنه «هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 7).
وأعلن المسيح ترحيبه بكل من يُقبل إليه حين قرأ في مجمع الناصرة ما تنبأ به النبي إشعياء عنه قبل ميلاده بسبعمئة سنة (61: 1-3) والذي يقول: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ» (لوقا 4: 18). وحقَّق المسيح إعلان محبته بأعمال رحمته، فعندما كان في بيت بطرس في كفرناحوم شفى حماة بطرس من الحمى، وفي المساء «قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ وَٱلْمَجَانِينَ. وَكَانَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى ٱلْبَابِ. فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً» (مرقس 1: 32-34).
وقد أحب المسيح الخطاة والزناة واللصوص ورحَّب بهم وأكل معهم، فاتَّهمه شيوخ اليهود بأنه محبٌّ للعشارين والخطاة (متى 11: 19 ولوقا 7: 34)، أما هو فقال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً» (يوحنا 6: 37)، ورحَّب بالمرأة الخاطئة التي جاءت بقارورة طيب، ووقفت من ورائه عند قدميه وهو متكئ «بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ» (لوقا 7: 38)، «فقال: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً» (لوقا 7: 47). وطلب المسيح من الآب أن يبقى تلاميذه في العالم ليكونوا نوره وملحه، وشبَّههم بمدينة موضوعة على جبل، وسراج موضوع على منارة (متى 5: 13-16)، وصلى من أجلهم: «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (يوحنا 17: 15) فيكونون مثل سفينة وسط الماء، دون أن يدخلها الماء.
وقد اتَّبع كثيرون من تلاميذ المسيح طريقته في الوعظ، ومنهم يوسف القبرصي الذي أُطلق عليه لقب «ابن الوعظ» لأنه كان يشجع الناس (أعمال 5: 36).
ثانياً - استجابتان

كما تليِّن الشمس الشمع وتيبِّس الطين، يقبل البعض رسالة المسيح شمس البر وتلين قلوبهم لها، بينما تتقسَّى قلوب البعض الآخر وترفض قبولها. ونجد استجابتين مختلفتين للأسلوبين المختلفين للوعظ:
1 - الاستجابة الرافضة:
رفض أبناء جيل المسيح رسالة اللطف واعتبروها تسيُّباً، كما سبق أن رفضوا رسالة التوبيخ واعتبروها تزمُّتاً. وواضح أن الواعظ لا يقدر أن يجتذب كل الناس، ولا يمكن أن يُرضي كل سامع، وعلى الوعاظ أن يتوقَّعوا الرفض بل والمقاومة من بعض سامعيهم، فقد قال المسيح لتلاميذه: «تُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ» (متى 10: 18 و19).
ومع أن بعض الناس يرون في كلمة الله حكمة، ويدركون أن «رَأْسَ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبّ»ِ (مزمور 111: 10)، إلا أن كثيرين يرون فيها جهالة وحماقة. وقد أوضح الوحي هذه الحقيقة المؤسفة بقوله: «لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ. لأَنَّ جَهَالَةَ ٱللّٰهِ أَحْكَمُ مِنَ ٱلنَّاسِ! وَضَعْفَ ٱللّٰهِ أَقْوَى مِنَ ٱلنَّاسِ!» (1كورنثوس 1: 22-25). وواضحٌ من هذا أن اليهود لم يقتنعوا بتعاليم المسيح السامية ولا بمعجزاته الخارقة، فطلبوا آية جديدة، كأن ينزل من على الصليب، أو أن يردَّ المُلك الأرضي لبني إسرائيل. وطلب اليونانيون براهين منطقية يقبلونها، لا إعلانات إلهية يجب أن يقبلوها، واعتبروا معجزات المسيح خرافات أو أعمال سحر. وفي كل عصر نجد من يطلبون المعجزة، أو يعظمون العقل البشري. غير أن رسل المسيح، ومعهم كل المدعوّين من الله، رأوا في المسيح المصلوب مخلِّصاً وفادياً، فكان الخلاص بالصليب هو حكمة الله السامية حتى لو حسبه بعض الناس جهالة، وكان الفداء بالدم قوة الله المنقذة، حتى لو حسبه بعض الناس ضعفاً.. هكذا ظهر لبعض الناس أن الأبواق ضعيفة أمام أسوار أريحا الشامخة (يشوع 6: 20)، وأن مقلاع داود لا شيء أمام ضخامة جليات الجبار (1صموئيل 17: 45). لكن قوة الله وحكمته جعلت من الأبواق والمقلاع وسائل انتصار مذهلة.
وقد ظهر المسيح في الجسد إنساناً بسيطاً، فرفضه اليهود، ولكن «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» (لوقا 20: 17، 18)
لما أخطأ أبوانا الأوَّلان وأكلا من الشجرة المنهي عنها اكتشفا عريهما واختبئا من الله، ففتَّش عليهما وقدَّم الحل لمشكلتهما بحكمته السامية. فدبَّر أمر فدائهما بذبيحة ستر عريهما بجلدها، وهذا هو لباس البر من عند الله. وهكذا أعلن الله في جنة عدن لأبوينا الأوَّلين طريق الخلاص العظيم، إذ قال للحية التي أغوتهما: «هُوَ (نسل المرأة) يَسْحَقُ رَأْسَكِ (الحية) وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين 3: 15). ولا يوجد إلا نسل امرأة واحد، هو المسيح ابن مريم. ولم يسحق رأس الحية أحدٌ غيره، فهو الوحيد الذي لم يخطئ. وقد سحقت الحيِّة عقبه يوم صليبه، لكنه قام منتصراً غالباً ولكي يغلب.
وكان يجب على الرافضين أن يدركوا حكمة الله في الصليب، لأن فيه تتلاقى عدالة الله مع رحمته. فالله غفور رحيم، ولكنه قاضٍ عادل. ولو أنه كان غفوراً فقط ما كان عادلاً. ولو أنه كان عادلاً فقط ما كان غفوراً. لكن في الصليب تلتقي العدالة مع الرحمة، كما قال المرنم: «ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10). وأساس هذه الحكمة إلهي، وموضوعها روحي، وهي أقوى من كل حكمة أرضية وأسمى من كل شريعة وضعية، لأنها أبدية تقودنا إلى الله، وما أسعد من يدركها.
2 - الاستجابة المنفتحة:
ولكننا نشكر الله على الذين قبلوا رسالة التوبة على فم يوحنا المعمدان، ومنهم تلاميذ المعمدان، ومنهم الجنود القساة الذين تابوا بعد أن سمعوه. ونحن نمجد المسيح على كل من فتح قلبه له، ومنهم زكا العشار الذي برهن على صدق توبته فقال المسيح عنه: «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ» (لوقا 19: 9)، ومنهم المرأة السامرية التي تابت وصارت المبشِّرة بالخلاص لمدينتها (يوحنا 4: 28-30)، ومنهم قائد المئة الروماني الذي قال المسيح عن إيمانه: «لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا» (متى 8: 10). ولا زال الرب يضمّ إلى الكنيسة الذين يخلصون.
3 - التائبون يدافعون عن حكمة الله:
ختم المسيح مثل «الأولاد الذين يلعبون في السوق» بقوله: «والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها» بمعنى أن الذين يقبلون رسالة التوبة هم أبناء الحكمة الذين يدافعون عنها ويبرِّرونها، إذ يستجيبون لصوت العقل والضمير، ويقبلون رسالة الله، سواء كان الوعظ بها توبيخاً وترهيباً أو تشويقاً وترغيباً. وكل مَن يقبل رسالة الله يجب أن يدافع عن الحكمة التي آمن بها ويبرِّرها بالتغيير الذي أحدثته التوبة فيه، وبسلوكه الجديد، كما قال الرسول بولس للكورنثيين: «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 3: 2 و3). وهذا يعني أن الناس ستقرأ رسالة المؤمن، أراد أم لم يُرد، شعر أم لم يشعر. فهل ستُقرأ فيك رسالة حب، أم رسالة كراهية.. رسالة خدمة أم رسالة أنانية.. رسالة قداسة أم رسالة نجاسة؟.
فيا من قبلتم رسالة المسيح وتبرَّرتم بكفارته، أنتم الذين ستبرِّرون حكمة الله وتدافعون عنها، لأن الحكمة يجب أن تتبرَّر من بنيها لا من الأغراب عنها.. ولن يبرر الملائكة حكمة الله، لأن الذين سقطوا منهم حفظهم الله إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام (يهوذا 6) ويقول الوحي: «حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ» (عبرانيين 2: 16). فلا بد أن يبرِّر حكمة الله الذين استفادوا من هذه الحكمة. وهذه مسؤولية صعبة، غير أنها مسؤولية مفرحة.
هل كلَّمك الله بالمحبة، كما قال المسيح «زمرنا لكم»؟ أو هل تعامل معك بالتأديب «نُحنا لكم»؟ أحياناً يغدق لك العطاء لتتوب، وأحياناً يضغط عليك ويحاصرك حتى تسلِّم أمورك له.. وفي الحالتين هو يريدك أن تتمتع بكل بركات غفرانه وفدائه.
سؤالان
  1. ما هي الحكمة، وكيف نكون حكماء؟
  2. ماذا نفعل لنبرر الحكمة؟
2 - تشبيهات لملكوت الله


(أ) أراضي الملكوت - مثل الزارع (متى 13: 3-9 و18-23)
(ب) أعداء الملكوت - مثلا الزوان وسط الحنطة، والشبكة في البحر (متى 13: 24-30 و47-50)
(ج) نمو الملكوت - مثل البذور التي تنمو سرا (مرقس 4: 26-29)
(د) قوة الملكوت - مثلا حبة الخردل والخميرة (متى 13: 31-33)
(ه) عظمة قيمة الملكوت - مثلا الكنز المخفى، واللؤلؤة الثمينة (متى 13: 44-46)
(أ) أراضي الملكوت مثل الزارع


3فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: هُوَذَا ٱلزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ ٱلطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. 5وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. 8وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ. 9مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ
18فَٱسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ ٱلزَّارِعِ: 19كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ ٱلْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ، فَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هٰذَا هُوَ ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلطَّرِيقِ. 20وَٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، 21وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ. 22وَٱلْمَزْرُوعُ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى يَخْنُقَانِ ٱلْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. 23وَأَمَّا ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَهُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ (متى 13: 3-9 و18-23).

(ورد هذا المثل أيضاً في مرقس 4: 2-9 و14-20 ولوقا 8: 4-8 و11-15)
رأينا في الأمثال الثلاثة السابقة أن الحياة المسيحية حياة جديدة، كالثوب الجديد، ورأينا أن كل كاتب متعلم في ملكوت السماوات يعظ عن هذه الحياة الجديدة. ثم رأينا أن للوعظ أساليب مختلفة، كما أن استجابة السامعين للوعظ تختلف. وفي «مثل الزارع» يشبِّه المسيح الكاتب المتعلم بفلاح يلقي بذوره على الأرض، فيجد أن مستمعيه أربعة أنواع: الذين يشبهون الطريق، والأرض المحجرة، والأرض الشائكة، والأرض الجيدة. ولا تنمو البذور إلا في الأرض الجيدة.. والبذور هي كلمة الله التي إن دخلت القلب تمنحه حياة روحية جديدة تتجدَّد فيه باستمرار، وتجعل القلب يعطي ثمراً صالحاً ووفيراً، وتحفظه من الخطإ، فيقول المؤمن: «خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مزمور 119: 11).
«خرج الزارع ليزرع». لكن بعض البذور لم تثمر ليس لخطإٍ في الزارع لأن يده مدرَّبة وحكيمة.. وليس بسبب عيب في البذور بدليل أن بعضها نما وأثمر، وكلمة الله فعّالة فهي «سَيْفُ ٱلرُّوح»، وهي «أَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (أفسس 6: 17 وهي كنارٍ وكمطرقة تحطم الصخر (إرميا 23: 29). ويأمرنا الوحي: «ٱقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ» (يعقوب 1: 21) فنصبح «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23)
إذاً لا بد أن يكون العيب في التربة، لأن البذور هي نفس البذور في كل حالة، والزارع هو نفسه لم يتغيَّر. كما يعود العيب على إبليس الذي يخطف البذور، وإلى القلب البشري الذي يرفضها.
ومع أن الزارع يعلم أن التربة أنواع، وأن جزءاً من بذوره سيضيع بدون فائدة، إلا أنه يستمر يلقيها بسخاء، وينتظر منها أن تثمر، لأنه يريد أن يبارك الأرض ويجعلها تثمر، ولأن الثمر يُفرح قلبه، ولأنه يريد أن يَشبع بالنفوس الراجعة إلى الله، ولأنه يريد أن تجد تلك النفوس شِبعها. والزارع يرجو أن تتغيَّر بعض أنواع التربة نتيجة العناية والرعاية، فقد تُشَقُّ الطريق فتقبل البذور بعد أن رفضتها، وقد تُزال الأحجار فتجد البذور عمق أرض، وقد تُقلَع الأشواك فلا تعود تخنق النبات الصالح.
أولاً - البذور التي سقطت على الطريق البذور المسروقة

خرج الزارع ليزرع، هذا فضل نعمة الله الواضحة في أنه يلقي البذور حتى على الطريق، الذي هو قلب الإنسان المهمل الذي يعطي إبليس فرصة خطف الكلمة فلا تثمر فيه. وكم سرق إبليس البذور الصالحة، حتى من الفريسيين المتديِّنين، ومن أهل كورزين وبيت صيدا، البلدتين اللتين رأتا معجزات المسيح، فقال لهما: «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ» (متى 11: 21)
ويقول المسيح إن صاحب «الأرض الطريق» «لا يفهم» قيمة الكلمة ولا معناها (متى 13: 19) ولا يقدِّر قيمة البذور، ولا يبالي إلا بأن يحيا لدنياه. كل شيء عنده خارجي لا يترك في داخله تأثيراً. يسمع بأذنه لا بقلبه، فلا ينتبه لما يسمعه ولا يدرك معناه الروحي، ولا يعتبر أنه هو المخاطب. إنه كالطريق المكشوف للطير وللرياح، اللذين يسرقان البذور، فلا يبقى منها شيء في الأرض.
تُرى لماذا صارت تلك الأرض طريقاً؟.. لا بد أنها كانت يوماً أرضاً صالحة، ولكن دَوْس أقدام الإنسان والحيوان حجَّرها. ويتقسى قلب الإنسان بسبب التعوُّد على الخطية. لقد خلق الله الإنسان مستقيماً «أَمَّا هُمْ فَطَلَبُوا ٱخْتِرَاعَاتٍ كَثِيرَةً» (جامعة 7: 29). إنهم مثل المدعوّين إلى عُرس ابن الملك «لٰكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ» (متى 22: 5) لأنهم أحسوا أن الحقل والتجارة أكثر أهمية من التعبير عن مشاعر الاحترام للملك، أو الاشتراك مع ابن الملك في حفل عرسه. كان تقييمهم خاطئاً، فقيَّموا المؤقَّت على أنه أهم من الدائم، وقيَّموا الرخيص على أنه أهم من الثمين، وقيَّموا المصلحة الذاتية الحاضرة أكثر من المصلحة الأبدية الباقية، لأن «إِلٰهَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 4: 4)
ليحفظك الرب من أن يكون قلبك كالطريق، فلا تبالي بالمهم، ولا تقدِّر قيمة الأشياء الثمينة، لأن اللامبالي يشبه الذي لا يرى في الأهرام العظيمة إلا كومة أحجار، ولا يسمع في السيمفونية الرائعة إلا أصواتاً مختلطة.
ثانياً - البذور التي سقطت على الحجر البذور العطشانة

الأرض المحجرة طبقةٌ رقيقة من التربة فوق أرض كلها حجرية، ليس لها عمق أرض، فتنمو فيها البذرة وتصبح نبتة، ولكن مصيرها مثل يقطينة يونان التي «بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ» (يونان 4: 10)
وأصحاب الأرض المحجرة أفضل من الأرض «الطريق» لأنهم قبلوا البذور فنمَت، ولكن الحجر لا يسمح للجذور أن تمتد لتحصل على الغذاء والماء، فتموت النبتة المبتدئة. إن ميولهم دينية، ربما بسبب التأثير العائلي، أو بسبب تربيتهم الأولى، أو بسبب التأثير الحضاري للدين، فيسمعون الكلمة ويقبلونها بسرور. لكن ما أن تلفحهم حرارة شمس الصعوبات حتى يحترق فيهم النبات الغض ويذبل ويموت. إنهم يشبهون الكاتب الذي لم يكن بعيداً عن ملكوت الله، ولكنه لم يكن قريباً منه، ولا دخله، فقال له المسيح: «لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (مرقس 12: 34). إذاً لم يكن تجديد هؤلاء كاذباً، لكنه لم يكن عميقاً، بل كان سطحياً ومؤقتاً. لم يتأصَّل الحق في ذاكرتهم وضميرهم، فانتهى بسبب الصعوبة والاضطهاد، وتغلَّبت الإغراءات الوقتية على المجد غير المنظور.
صاحب الأرض المحجرة إذاً يعجب بالكلمة ويحبها ويريد أن يتمسَّك بها، لكنه غير مستعد أن يدفع تكلفة اتِّباع المسيح. إنه مثل الشاب الذي قال للمسيح: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (لوقا 9: 57، 58)، فهناك مَن يحسبون تكلفة الاتِّباع ويستكثرونها، ويرتدّون. إنهم مثل يهوذا الإسخريوطي الذي ربما حسب أنه سيكون وزيراً في مملكة أرضية. ولكن عندما اكتشف أن المسيح يقيم ملكوتاً روحياً، وأن اتِّباعه يعني التضحية، باع سيده بثلاثين قطعة فضة (متى 26: 15). وقد قال الرب للنبي حزقيال إن رسالته ستكون لبعض الناس «كَشِعْرِ أَشْوَاقٍ لِجَمِيلِ ٱلصَّوْتِ يُحْسِنُ ٱلْعَزْفَ، فَيَسْمَعُونَ كَلاَمَكَ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ» (حزقيال 33: 32).
ومن أصحاب القلوب المحجرة جماعة أشبعهم المسيح من خمس خبزات وسمكتين، فآمنوا به. ولكن لما بدأ يتكلم عن أن جسده مأكل حق وأن دمه مشرب حق رجعوا إلى الوراء، لأنهم رأوا الكلام صعباً ومُبهَماً، ولم يريدوا أن يفكروا في المعنى الروحي الكامن وراءه (يوحنا 6: 53-66). لقد قبلوا تعليم المسيح بسرعة، لكن صعوبة المعاني جعلتهم يرتدّون. فلم يكن سماعهم الكلمة كافياً لخلاص نفوسهم، إذ كان يجب أن يستمروا في سيرهم مع المسيح. «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا 14: 25-27).
لقد كلَّف خلاصنا غالياً، لأن المسيح تجسَّد وصُلب ليتمِّمه. ومهما كلفنا اتِّباع المسيح فهو ليس شيئاً بالمقارنة بالثمن الذي دفعه المسيح، فنقول: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَِيْقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. وَلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 8: 35-39).
ليحفظك الرب من الأحجار التي تقتل نمو كلمة الله فيك.
ثالثاً - البذور التي سقطت على الشوك البذور المخنوقة

سقطت البذور على أرض فيها شوك، فنمت، لأنها أرض صالحة ينمو فيها الشوك كما تنمو فيها البذور الجيدة. وكانت هناك إمكانية حصاد، لولا أن الشوك خنق النبات الجيد.. والشوك موجود بالتربة، ويستمد غذاءه منها، وهو ينمو بسرعة أكبر من سرعة نمو البذور، فيلتهم غذاءها، ويعلو فوقها فيحجب عنها أشعة الشمس، فيموت الزرع الجيد مختنقاً.
ويرمز الشوك إلى الطبيعة القديمة فينا، والتي تهدد الطبيعة الجديدة، «لأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ» (غلاطية 5: 17). ولذلك قال المسيح: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ» (متى 26: 41).
قال شابٌّ للمسيح: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلٰكِنِ ٱئْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي». فأجابه: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (لوقا 9: 61 و62). إنه «رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ» (يعقوب 1: 8)، وهو مثل الشاب الغني الذي رفض أن يتبع المسيح «وَمَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» (مرقس 10: 22)، وهو مثل ديماس الذي قال الرسول بولس عنه: «تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ ٱلْعَالَمَ ٱلْحَاضِرَ» (2تيموثاوس 4: 10). صحيحٌ أنه «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ. لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى 6: 24، 33).
وما أكثر الشوك الذي ينافس البذور الجيدة. هناك أشواك هموم هذا العالم ومتاعبه عند الفقراء، مع أن المسيح يقول لهم: «لاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا» (متى 6: 31 و32).. وهناك أشواك غرور الغِنى الذي يجتذب عيون الأغنياء، مع أن الوحي يقول لهم: «لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ ٱلْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ» (1تيموثاوس 6: 7)، و «مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ» (لوقا 12: 5).. وهناك أشواك غرور المركز الاجتماعي أو العلمي، وغرور الصحة والشباب.. وهناك أشواك شهوات سائر الأشياء، مع أن الوحي يقول: «وَٱلْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1يوحنا 2: 17).
ليحفظك الرب من الأشواك التي تخنق كلمة الله فيك.
رابعاً - البذور التي سقطت على الأرض الجيدة البذور المثمرة

أصحاب «الأرض الجيدة» هم الذي «يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِٱلصَّبْرِ» (لوقا 8: 15). والقلب الصالح «يسمع» ويقبل.. ثم «يحفظ» بمعنى أنه يفكر ويتأمل ويسترجع الكلمة مرة ومرات، ويلهج بها، فتنمو وتثمر بالصبر سلوكاً صالحاً لنفسه وللآخرين. والقلب الجيد يقبل البذور فتنمو فيه.. ثم «يثمر بالصبر» والمثابرة، فتتغيَّر الحياة تماماً، طاعة للوصية «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا 21: 19)، وعندما تُقتنى النفس يضيء نورها أمام الناس، وتُرى أعمالها الحسنة فيتمجَّد الآب السماوي (متى 5: 16) ويصبح المؤمن «كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ، ٱلَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ» (مزمور 1: 3)
صاحب الأرض الجيدة هو المستعد المُخْلص، مثل تيموثاوس الذي قال له الرسول بولس: «مُنْذُ ٱلطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (2تيموثاوس 3: 15)
وكم نشكر الله من أجل الأرض الجيدة، فقد قال المسيح: « ٱلْحُقُولَ قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ» (يوحنا 4: 35). «لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ ٱلْمَطَرُ وَٱلثَّلْجُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ ٱلأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعاً لِلزَّارِعِ وَخُبْزاً لِلآكِلِ، هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (إشعياء 55: 10، 11).
والأراضي الجيدة أنواع متعددة، فبعضها يثمر ثلاثين ضعفاً، وبعضها ستين، وبعضها مئة ضعف. وعندما ألقى المسيح هذا المثل كانت الأرض تعطي عادةً ما بين ثمانية أضعاف إلى خمسة عشر ضعفاً، فيكون أن الرب ينتظر من المؤمنين ثمراً أكثر، عملاً بالوصية: «إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّماوَاتِ» (متى 5: 20).
لكن لماذا يعطي مؤمن ثلاثين ضعفاً بينما يعطي غيره ستين أو مئة ضعف؟.. الفرق بينهم هو مدى استعداد كلٍّ منهم لطاعة الرب. فصاحب المئة ضعف هو الذي يقول مع إشعياء: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي» (إشعياء 6: 8). وكلما كنا مستعدين أن نطيع الله أكثر يجعلنا نثمر أكثر.. ويعود الفرق أيضاً إلى مقدار الوقت الذي نصرفه في الصلاة، إذ يكون شعارنا: «أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً» (مزمور 109: 4) لأنه بمقدار صلاتنا يكون ثمرنا، ونصبح عاملين بالكلمة، لا سامعين فقط خادعين نفوسنا (يعقوب 1: 22).
٭ ٭ ٭

وختم المسيح هذا المثل بالقول: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ» (متى 13: 9). وهذا يعني أن الحق مُعلَنٌ للجميع، ولكل مستمع الحرية أن يقبل الحق إن هو أراد، كما أن له مطلق الحرية أن يرفضه. قال المسيح: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). لا يجبر الله أحداً، لكنه أعطى لكل إنسان أذنين، ثم يوجِّه الدعوة ويُعيد توجيهها. فلنقل: «مَرَّةً وَاحِدَةً تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ، وَهَاتَيْنِ ٱلٱثْنَتَيْنِ سَمِعْتُ» (مزمور 62: 11).
فأي نوع من التربة قلبك؟ إن كان كالطريق فإن الله يمكن أن يحرثه بمحراث نعمته، بالرقَّة أو بالتأديب، كما قال: «وَأُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ لِكَيْ يَشْعُرُوا» (إرميا 10: 18). وقد ينفتح قلبك بعد نور مبهر يُعمي العيون كما حدث مع شاول الطرسوسي (أعمال 9: 3، 4)، وقد ينفتح بسرعة وهدوء كما حدث مع ليديا (أعمال 16: 14) وقد ينفتح بعد زلزلة كما حدث مع سجان فيلبي (أعمال 16: 26-34).. فإن كان قلبك حجرياً فالرب قادر أن ينزع منك قلب الحجر ويعطيك قلب لحم (حزقيال 11: 19).. وإن كان يحوي الشوك الذي يخنق البذور الصالحة فهو قادر أن يقتلع الشوك من داخلك. وإن كنت تثمر ثلاثين ضعفاً يجعلك تثمر مئة ضعف.
سؤالان
  1. اشرح هذه العبارة: «لم تثمر البذور، ليس بسبب خطإ في الزارع، وليس بسبب عيب في البذور، بل بسبب عيب في التربة».
  2. كيف تُصلح القلب الذي يشبه الطريق، والذي يشبه الأرض المحجرة، والذي يشبه الأرض التي ينمو بها الشوك؟
(ب) أعداء الملكوت مثلا الزوان وسط الحنطة والشبكة في البحر


24 قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. 25وَفِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ ٱلْحِنْطَةِ وَمَضَى. 26فَلَمَّا طَلَعَ ٱلنَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً، حِينَئِذٍ ظَهَرَ ٱلزَّوَانُ أَيْضاً. 27فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ ٱلْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. 28فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هٰذَا. فَقَالَ لَهُ ٱلْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ 29فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا ٱلْحِنْطَةَ مَعَ ٱلزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. 30دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى ٱلْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ ٱلْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: ٱجْمَعُوا أَوَّلاً ٱلزَّوَانَ وَٱحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا ٱلْحِنْطَةَ فَٱجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي.
47أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ، وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. 48فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ، وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا ٱلْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا ٱلأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً. 49هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ ٱلْعَالَمِ: يَخْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ ٱلأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ ٱلأَبْرَارِ، 50وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ (متى 13: 24-30 و47-50).

ذكر المسيح أن ملكوت الله حياةٌ جديدة وتعليم جديد (مثَلا الرقعة والزقاق)، يدعو له معلّمون يُخرجون من كنوزهم جدداً وعتقاء (مثَل الكاتب المتعلم)، وأن هناك طرقاً مختلفة للدعوة له (مثَل الأولاد الذين يلعبون في السوق)، وأن هناك أنواعاً مختلفة من الاستجابة له (مثَل الزارع)، فالبعض يرفضه، والبعض يقبله مؤقَّتاً، والبعض الثالث يريد أن يحتفظ به إلى جوار أشياء أخرى مناقضة له. ولكن هناك أرضٌ جيدة تقبله وتعطي أثماراً مفرحة.
وفي مثَلي الزوان وسط الحنطة والسمك الرديء وسط السمك الصالح يوضح لنا المسيح أن من طبيعة ملكوت الله أن عدو الملكوت يحاول الإساءة إلى الزرع الصالح بأن يزرع وسطه نباتاً ساماً. لقد خلق الله كل شيء صالحاً، من حنطة مغذية وسمك جيد، ووصف ما خلقه بأنه «حسنٌ جداً» (تكوين 1: 31). ولكن عدو الله زرع الزوان وسط الحنطة، وأوجد السمك الرديء وسط الجيد.
ويلاحظ أبسط الناس أن في عالمنا مملكتين، مملكة الرب ومملكة الشرير، والمملكتان تتصارعان دائماً، وستُحسَم النتيجة في اليوم الأخير، وقت الحصاد، أو يوم تُسحب الشبكة إلى الشاطئ، فيتمتع الصالح في ملكوت الله، ويُعاقب الرديء في نار جهنم.
وقد فسَّر المسيح لتلاميذه مثَل الزوان وسط الحنطة، فقال إن الذي يزرع الزرع الجيد هو ابن الإنسان، والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هم بنو الشرير، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والحصاد هو اليوم الآخِر، وإن الحصادين هم الملائكة. وفي اليوم الأخير يُرسل ابن الإنسان ملائكته ليجمعوا من ملكوته كل فاعلي الإثم ويطرحونهم في النار، بينما يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم.
وختم المسيح شرحه للمثل بقوله: «من له أذنان للسمع فليسمع».
ونتعلم من هذين المثَلين أننا لا يجب أن نندهش من وجود الصالح مع الرديء في البيت والكنيسة والمجتمع، ففي عالمنا يختلط الزوان بالحنطة. ويصعب علينا في بادئ الأمر أن نميِّزهما، لأنهما متشابهان في الشكل. لكن في وقت الحصاد يتَّضح الفرق ويختلف المصير، وما أعظمه بين سنابل القمح المغذية التي تُجمَع للمخازن والثمار السامة التي تُحزَم لتُحرَق. وفي شباك الصياد بالبحر يختلط السمك الجيد والرديء، ولا يمكن فصلهما في الماء، إنما يُفصلان على الشاطئ، في نهاية رحلة الصيد.
أولاً - وجود الجيد والرديء

منذ وُجد الإنسان وجدنا ولدي آدم: قايين الزوان وهابيل الحنطة (تكوين 4: 4-8)، وفي نسل إسحاق ابن خليل الله إبراهيم وجدنا يعقوب الحنطة وعيسو الزوان (تكوين 25: 23)، ويهوذا الاسخريوطي الزوان بين تلاميذ المسيح الحنطة (متى 26: 14-25).. وهكذا كان الحال في فلك نوح، فقد سكنته الحيوانات الطاهرة طقسياً (التي يمكن تقديمها كذبائح لله)، كما وُجدت الحيوانات النجسة طقسياً (التي لا تُقدَّم كذبائح) (تكوين 7: 2).. وقال يوحنا المعمدان إن الله في اليوم الأخير «يَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ» (متى 3: 12). وحدَّثنا المسيح أنه في نهاية العالم سيقيم الخراف عن اليمين والجداء عن اليسار، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وأولئك إلى العذاب الأبدي (متى 25: 32). وحدَّث الرسول بولس تلميذه تيموثاوس عن أننا نجد في البيت الواحد آنية كرامة وآنية هوان، وكلاهما من عمل يدي الفخاري الواحد (2تيموثاوس 2: 20).
بل إننا نجد في داخل نفوسنا زواناً وحنطة، وسمكاً رديئاً وسمكاً جيداً. ولا غرابة، لأن الطبيعة القديمة موجودة فينا إلى جوار الطبيعة الجديدة الموهوبة لنا من الله، وهاتان الطبيعتان تتصارعان دائماً، حتى يفعل الإنسان أحياناً ما لا يريده (رومية 7: 14-25 وغلاطية 5: 16، 17).
1 - مصدر الزرع الجيد:
يعلّمنا المسيح في هذين المثلين أن العالم (كحقل أو كشبكة) مِلك الرب الصالح، الذي يشرق بنور كلمته على البشر جميعاً، «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). والله يبذر في عالمه بذوراً صالحة نهاراً، تلد الأبرار الذين يدعوهم «أبناء الملكوت» وقد جاء المسيح ليعطيهم حياة فضلى (يوحنا 10: 10) فيصبحون حنطة في حقله، وأسماكاً جيدة في شبكته، ينتمون إليه، ويرثون بركاته، لأنه أنعم عليهم بالتبني، كما قيل: «أَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 1: 12)، فيهنئون بعضُهم بعضاً قائلين: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» (1يوحنا 3: 1).
«أبناء الملكوت» إذاً هم الذين قبلوا البذور في أرض قلوبهم الجيدة، ففهموها وتأملوها، وأثمروا ثمراً صالحاً، فصاروا «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23). وهم الذين يقولون: «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10). إنهم رجال الله الغيورون على خدمته.
2 - مصدر الزرع الرديء:
سمح الله بقيام حزب معارضة في عالمنا يرأسه إبليس، الذي يبذر بذوره سراً في الليل، لأنه عاجز عن المجيء في وضح النهار، فهو كذابٌ وأبو الكذاب (يوحنا 8: 44). إنه يأتي والناس نيام أو غافلون ليلقي زوانه الشبيه بالحنطة، والذي يصعب تمييزه إلا في يوم الحصاد.
ولإبليس جنود يعاونونه في ترويج أكاذيبه، قال الوحي عنهم: «هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ ٱلْمَسِيحِ. وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ ٱلشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! فَلَيْسَ عَظِيماً إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضاً يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ. ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ» (2كورنثوس 11: 13-15).
ونلاحظ أنه كلما زاد نشاط ملكوت الله زاد نشاط إبليس الذي يهزأ بالحق ويزيِّفه «وَلٰكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدّاً» (رومية 5: 20). فتكون النصرة النهائية للنعمة.
ثانياً - ماذا يُفعل بالزرع الرديء؟

انزعج عبيد صاحب الحقل من وجود الزوان، فسألوه: «أليس زرعاً جيداً زرعته في حقلك، فمن أين له زوان؟» ثم سألوه: «أتريد أن نذهب ونجمعه؟». لقد خافوا أن يعطل الزوان نمو الحنطة، كما يخاف المؤمنون من وجود الأشرار في دوائر الأبرار، لعلمهم أن العدو متجبر قاسٍ، ولمعرفتهم بخطورته لأنه في الداخل لا في الخارج فيسهل عليه أن يهزَّ ثقة المؤمنين في قوة الله. ولكن صاحب الحقل لم ينزعج، لأنه كان يملك زمام الموقف، وكان رائعاً في ردِّه وهو يقول: «دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد». ووقتها يُجمع الزوان ليُحرق، أما الحنطة فتُجمَع في المخزن.
فلماذا نصح صاحب الحقل بعدم قلع الزوان فوراً؟
1 - خوفاً من حُكم ظالم متعجِّل:
أحكام البشر على غيرهم سطحية، لأنهم لا يستطيعون أن يغوصوا إلى عُمق الأمور. واحد فقط يعرف الدواخل هو الله «ٱلْفَاحِصُ ٱلْكُلَى وَٱلْقُلُوبَِ» (رؤيا 2: 23) والذي يعرف كل شيء، لأن كل الأمور مكشوفة أمامه، وهو «يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ» وهو ليس «مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 2: 24، 25). أما البشر فيقول المسيح لهم: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ ٱلظَّاهِرِ بَلِ ٱحْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً» (يوحنا 7: 24)، ويقول لهم الوحي: «مَنْ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلٰكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ» (رومية 14: 4).. وفي أحكامنا المتعجِّلة قد نعتبر المؤمن الضعيف زواناً فنقلعه، مع أن يد الله تكون لا تزال تعمل فيه وتصوغه لتجعل منه إناءً للكرامة، مقدساً، نافعاً للرب، مستعداً لكل عمل صالح (2تيموثاوس 2: 21). ولكننا عندما لا نراه مكتملاً نظنُّه إناءً للهوان، فنكسره أو نلقي به بعيداً. فلو كنا في زمن بطرس وسمعناه ينكر المسيح أمام جارية لقُلنا إنه إناءٌ للهوان. ولكن المسيح رآه إناءً للكرامة، وسأله ثلاث مرات: «يا سمعان بن يونا، أتحبني؟» فأعلن بطرس حبَّه للمسيح (يوحنا 21: 15-18)، كما أعلن المسيح حبَّه الغافر لسمعان، ومنحه تكليفاً وتشريفاً لما قال له: «ارعَ غنمي».. وبعد هذا بأيام قليلة ألقى بطرس عظته في يوم الخمسين فخلص نتيجة سماعها نحو ثلاثة آلاف نفس (أعمال 2: 41).
2 - رغبةً في تعليم الحنطة دروساً:
عدم قلع الزوان من وسط الحنطة يعلّم الحنطة دروساً روحية متنوعة في الصبر وطول الأناة، لأن وجود الخطاة وسط المؤمنين يعطي المؤمنين فرصةً للصلاة لأجل الخطاة وإعلان الفضائل المسيحية لهم بحياتهم بينهم، ويعمل على ربحهم للمسيح. وهذا التدريب يجعل المؤمنين أقوى إيماناً، بل إنه يجعلهم لآلئ لامعة، فاللآلئ تتكوَّن من دخول حبة رمل صغيرة في قوقعة حيوان رخوي، فيتألم الحيوان ويفرز مواد تكون سبباً في تكوين اللؤلؤة. وهكذا يسمح الرب بوجود الزوان وسط الحنطة ليعين الحنطة على صُنع اللآلئ!
3 - رغبة في إصلاح أمر الزوان:
عدم قلع الزوان من وسط الحنطة يعطي الزوان فرصةً للتوبة. يقول الوحي للزوان: «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ؟» (رومية 2: 4). إن الرب «لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (2بطرس 3: 9). فلنترك الزوان والحنطة ينميان كلاهما معاً، والرب قادر أن يحوِّل الزوان إلى حنطة بعمل نعمته. لقد تفاضلت نعمة الله على شاول الطرسوسي، فقال: «أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلٰكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ. وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدّاً مَعَ ٱلإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (1تيموثاوس 1: 13، 14).
ثالثاً - مصير الحنطة ومصير الزوان

«لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ ٱلأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ ٱلأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ» (مزمور 1: 6). «وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ ٱلأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْعَارِ لِلازْدِرَاءِ ٱلأَبَدِيِّ. وَٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال 12: 2 و3). ففي النهاية يكافئ الرب أبناء ملكوته فيضيئون كالشمس في ملكوته، ويعاقب من يرفضون مُلكه عليهم بالهلاك الأبدي.
1 - مصير الحنطة:
يقول سليمان الحكيم: «أَمَّا سَبِيلُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِقٍ، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى ٱلنَّهَارِ ٱلْكَامِلِ» (أمثال 4: 18) ويقول الرسول بولس: «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي 3: 4). تنال الحنطة الكرامة، وتُجمع إلى المخزن، ويقول المسيح إنهم «يضيئون كالشمس» في البهاء والطهارة والفرح والإنارة على الآخرين (متى 13: 43).
2 - مصير الزوان:
خلق الله الإنسان على صورته كشبَهه ليعبده ويتمتع به وبخلاصه، وليحيا حياة الأُنس معه هنا على الأرض، وفي سماواته إلى الأبد، وهو لا يشاء أن يهلك أحد. ولكن الذين يرفضون خلاصه يجنون على أنفسهم، إذ يُجمعون ليُحرقوا في النار الأبدية، وهي نار القصاص لا التطهير، المُعدَّة لا للبشر بل لإبليس وجنوده، «وَإِبْلِيسُ ٱلَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ وَٱلْكِبْرِيتِ، حَيْثُ ٱلْوَحْشُ وَٱلنَّبِيُّ ٱلْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤيا 20: 10). لقد أعطى الرب الزوان فرصة التوبة، ولكنهم لم يغتنموها، بل رفضوها، فحقَّ عليهم العقاب من «ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ» (متى 3: 12). «هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متى 13: 42). «ٱلْحَائِدُونَ عَنِّي فِي ٱلتُّرَابِ يُكْتَبُونَ لأَنَّهُمْ تَرَكُوا ٱلرَّبَّ يَنْبُوعَ ٱلْمِيَاهِ ٱلْحَيَّةِ» (إرميا 17: 13).
يطيل الرب أناته على الخطاة ليتوبوا، لكن يجيء وقت يُغلق فيه باب التوبة. «لِذٰلِكَ كَمَا يَقُولُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُس: ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ» (مزمور 95: 7، 8 وعبرانيين 3: 7, 8). «هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كورنثوس 6: 2). والإنسان الحكيم هو الذي يفهم أنّ الآن هو وقت الرجوع إلى الله.
لقد جهَّز الله في ملكوته مكاناً للجميع، ويوجد لك مكان أيضاً. كان يوسف حنطة وكان إخوته زواناً. وبعد أن باعوه عبداً وتقدمت بهم الأيام نُخست قلوبهم وهم يرون أباهم يعقوب وقد أصابه العمى حزناً على يوسف، ثم ذُهلوا وهم يرون يوسف يحتل مكانته العظيمة كرئيس لوزراء مصر، وقد تحقَّقت أحلامه، فتغيَّروا من زوان إلى حنطة، بعد أن تابوا وبكوا وندموا عن شرِّهم (تكوين 44: 14-17) فصاروا أسباط إسرائيل الاثني عشر.
فإذا لم تكن متأكداً إن كنت من أبناء الملكوت أو من أبناء الشرير، اطلب الآن من الرب أن يغيِّر حياتك تغييراً كاملاً، ولينقلك من الظلمة إلى النور ومن ملكوت الشيطان إلى ملكوت ابن محبته. وبدل أن تكون من بني الشرير تصبح من أبناء الملكوت، فتتمتع بالحاضر وبالمستقبل أيضاً. ولتكن صلاتك: «ٱخْتَبِرْنِي يَا اَللّٰهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مزمور 139: 23، 24).
سؤالان
  1. اذكر ثلاثة أسباب جعلت صاحب الحقل يرفض قلع الزوان قبل موسم الحصاد.
  2. اكتب ثلاث آيات من الكتاب المقدس تصف سعادة المؤمنين المتبررين بدم المسيح.
(ج) نمو الملكوت مثل البذور التي تنمو سراً


26وَقَالَ: هٰكَذَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي ٱلْبِذَارَ عَلَى ٱلأَرْضِ، 27وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28لأَنَّ ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَّوَلاً نَبَاتاً، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ. 29وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ (مرقس 4: 26-29)

يُلقي الزارع بذوره في الأرض، لكنه لا يقدر أن يجعلها تنبت. إنه يقدر أن يحيط حقله بسياج، ويحرسه من دَوْس الحيوان، لكنه لا يقدر أبداً أن يفعل شيئاً للبذور التي بذرها، لأن الله وحده هو الذي ينميها. وبمضيّ الأيام يكبر النبات وتظهر سنابله، وينضج قمحه، إذ تشرق عليه الشمس، وترويه الأمطار، وتقاومه العواصف فيثبت أمامها وتتعمَّق جذوره. وعندما يجيء وقت الحصاد يرسل الزارع المنجل ليحصد محصوله ويجمعه في مخزنه.. وهذا يعني أن علينا أن نعمل باجتهاد تاركين النتائج لله الذي وحده سبحانه ينمّي الكلمة في القلب بقوة خفيَّة هي قوة الروح القدس، الذي يكون في بدء عمله سرّياً في القلب لكنه فعَّال، سرعان ما يظهر تأثيره في سيرة المؤمن وسلوكه، فينمو في النعمة ويثمر ثمراً صالحاً. وكلما تقدَّمت الأيام بالمؤمن ينضج ويدرك ما أدركه المسيح لأجله بفعل دفء شمس البر، وإرواء الماء الحي، وإنضاج تجارب الحياة (فيلبي 3: 12).
وعندما تنتهي حياة المؤمن على الأرض، ويحين وقت دخوله إلى راحته الأبدية في السماء، يرسل الرب ملائكته ليحملوه إلى بيته الأبدي، فقد قال المسيح: «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 14: 2، 3). والمؤمن الذي قَبِل بذور الكلمة ونمت فيه ونضجت يتطلع إلى يوم الحصاد، لأنه يوم انتهاء آلامه الأرضية، ويوم بداية الفرح الحقيقي في السماء، ويقول مع الرسول بولس: «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23)
روى البشير مرقس هذا المثل، الذي يصف حياته هو شخصياً في أطوار نموها المختلفة، من نبات إلى سنبل إلى قمح ملآن في السنبل، فقد كان أحد أتباع المسيح، لكن عندما أقبل الجنود للقبض على سيده في بستان جثسيماني، هرب حرصاً على سلامته، تاركاً عباءته (مرقس 14: 50، 51). ولكن إيمانه الضعيف الخائف نما وتقوَّى بعد هذا، فسافر بصُحبة الرسولين بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى (أعمال 12: 25). ولكن بسبب شدة المتاعب وضغوط الاضطهاد، قرر في منتصف الرحلة أن يعود إلى بيته المريح في أورشليم (أعمال 13: 13) ولكن إيمانه الذي لم يقوَ على احتمال المتاعب نما وزاد، فأخذه برنابا في رحلة تبشيرية جديدة (أعمال 15: 36-39). وشعر الرسول بولس بهذا النمو الكبير في إيمان مرقس، فكتب لتلميذه تيموثاوس يقول: «خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ» (2تيموثاوس 4: 11). ثم كتب مرقس الإنجيل الذي يحمل اسمه، وجاء يكرز في مصر.. لقد بدأ مرقس اتِّباعه للمسيح وكأنه نبات متبدئ، ثم سافر رحلته الأولى مع بولس وبرنابا وهو مثل السنبل، ولكنه في النهاية صار مثل القمح الملآن في السنبل.
ونتعلم من مثَل البذور التي تنمو سراً أربعة دروس:
أولاً - الله والإنسان يعملان معاً

يقبل المؤمنون الكلمة المقدسة التي يزرعها الرب في قلوبهم فيصبحون خليقة جديدة في المسيح، وتُكتَب أسماؤهم في سفر الحياة، ويصيرون ورثة ملكوت الله، فيهتفون: «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1بطرس 1: 3، 4). ولكنهم لا يكتفون بفائدتهم الشخصية، بل يعملون على إفادة غيرهم وخلاصهم.. وكما يعمل الفلاح باجتهاد عالماً أن الله سينمي الزرع في موعده، وهو لا يعلم كيف يحدث هذا، يعمل المؤمنون باجتهاد، عالمين أن الله سيعطيهم غلة عظيمة، تُشبعهم وتُشبع غيرهم.
ويدعو الله المؤمنين للعمل معه، فقد وجَّه في محبته للبشر نداءً إلهياً يقول: «مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إشعياء 6: 8). وهو ينتظر أن يسمع الإجابة: «هئنذا أرسلني». ومع أنه قادر أن يعمل وحده، إلا أنه يريد أن يكرمنا بأن نذهب من أجله وأن نعمل معه، بالصلاة، ودرس الكلمة، والطاعة، والشهادة. وكل من قبل الكلمة يبذرها، والله ينميها، كما قال الرسول بولس: «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ ٱلْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ ٱلسَّاقِي، بَلِ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي يُنْمِي. وَٱلْغَارِسُ وَٱلسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ، وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ. فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ ٱللّٰهِ، وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 3: 6-9). والمؤمن العامل مع الله يُقال عنه ما قيل عن المرأة التي سكبت الطيب على رأس المسيح: «عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا» (مرقس 14: 8)، لأنه ينتهز كل فرصة ليزرع كلمة الله في قلوب المحيطين به ويرويها، لأنهم لن يسمعوا بلا كارز (رومية 10: 14).
ومع أن «الأرض من ذاتها تأتي بالثمر» لأن حياة البشر والنبات هي من عند الله، إلا أن الزارع يعمل وهو يحس بضآلة عمله المتواضع، وبعظمة عمل قوة الله التي تجعل الأرض تثمر، لأن الزارع ألقى البذور ولكن الله يرسل المطر وأشعة الشمس والهواء.
والزارع المؤمن «ينام ويقوم ليلاً ونهاراً» فيكون نومه ليلاً لا نوم المهمل أو الكسلان، بل نوم العامل الذي يستريح لأنه واثق، لا يخاف من فشل البذور، وينطبق عليه الوصف «يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْماً» (مزمور 127: 2).. وهو الذي يقوم نهاراً لأنه يرى النمو المتزايد، ثم يفرح بالحصاد، فإن «ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلابْتِهَاج.ِ ٱلذَّاهِبُ ذِهَاباً بِٱلْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ ٱلزَّرْعِ، مَجِيئاً يَجِيءُ بِٱلتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ» (مزمور 126: 5، 6) الزارع باليأس عندما يتأخَّر ظهور النبات، ولكن الله يشجعه بالقول: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَقْتٌ. لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ ٱلْمَغْرُوسِ وَقْتٌ» (جامعة 3: 1، 2).
كان ألبرت شوايتزر أستاذ فلسفة يدرِّس في كلية لاهوت بألمانيا (1875-1965)، وذات يوم رتَّبت له زوجته أوراق مكتبه المبعثرة، فاختلطت أوراقه ببعضها. ولما أخذ يُعيد ترتيبها وجد بين أوراقها مجلة عنوانها «جمعية باريس المُرسَليَّة»، فتساءل: ما الذي جاء بها إلى هنا؟.. ولكنه قرأ فيها مقالة عن الحاجة إلى مرسَلين لأفريقيا الاستوائية، وأحسَّ أن هذه المقالة رسالة شخصية له من الله. كان يحمل خمس درجات دكتوراه في اللاهوت والفلسفة والأدب والموسيقى والطب، فسافر بهذا كله إلى «الجابون» ليخدم الله، وكتب يقول «وجدَتْ حياتي تحقيقها في هذه الخدمة».. لقد كان الزارع هنا كاتباً كتب مقالةً حرَّكت قلب العالِم الكبير. ولم يكن كاتب المقال يعلم كيف سيثمر ما كتبه، لكن كتابته أثمرت قمحاً ملآن في السنبل في حياة الدكتور ألبرت شوايتزر، وحياة الذين خدمهم!
وذات مرة كان شابٌّ جامعي يسير على غير هُدى في السابعة صباحاً في شوارع جزيرة مانهاتن (نيويورك) حائراً، يفكر في ما هي فائدة الأديان، عندما مرَّ بكنيسة مفتوحة، فدخلها. واندهش وهو يرى أحد أساتذته المشهورين منحنياً يصلي، فقال الشاب في نفسه: لا بد أن هذا الأستاذ العظيم وجد في إيمانه المسيحي فائدة ومعنى. وقرر أن يتبع المسيح. لقد زرع الأستاذ المصلي بذوراً نمَت، وهو لا يعلم كيف. تُرى لو أن الأستاذ الجامعي تكاسل عن الذهاب للكنيسة ذلك الصباح، هل كان الشاب الحائر يجد إجابة صحيحة لسؤاله؟
إنها ساعةٌ عظيمة لندرك عظمة مسؤوليتنا في العمل مع الله الذي ينمي، حتى لو كنا لا نعرف كيف يحدث النمو. وهو يناديك: «يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي» فجاوِبْهُ: «ها أنا يا سيد» (متى 21: 28، 30). واعمل عمل الله ما دام نهار، فسيأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل (يوحنا 9: 4).
ثانياً - الله يعمل في صمت

يعلّمنا هذا المثل أن ملكوت الله يعمل سراً وفي صمت، لكن النتائج الباهرة لا بد أن تظهر، لأن ملكوت الله ليس عقيدة ولا عاطفة ولا شعائر، بل هو بذور تدخل القلب وتنمو فيه، وتتجذَّر في أعماق نفس الإنسان وتغيِّره. إن المسيحية هي حياة المسيح فينا، فنقول: «أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (غلاطية 2: 20).
طلب أحدهم من صديق له أن يشرح له الولادة الثانية، فأجابه: «اختبِر الولادة الثانية، وستعرف ما هي». ويقول المسيح: «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا 3: 8). وعندما سأل الفريسيون المسيح: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَهُمْ: «لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ» (لوقا 17: 20، 21). فملكوت الله داخل المؤمن، وداخل كل إنسان يقبل كلمة الله، لأن البذور تنمو سراً وفي هدوء.
في البذور حياة كامنة، لا نراها ولا نفهم سر عملها. وحتى لو كانت الأرض التي تستقبلها رديئة، فإن «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12). وهذا ما رأيناه في تلاميذ المسيح البسطاء الذين فتنوا المسكونة، لأن قوة الروح القدس عملت بهم، فحرَّكوا قلوب سامعيهم ليروا أنهم خطاة، وأن الله رحيم، وأن الخلاص جاء في المسيح الفادي، فقَبِل سامعوهم رسالة إنجيل محبة الله، وإذا قوة الله تعمل في سرائر مستمعيهم، عملاً تَظهَر ثماره العظيمة بوضوح. وهذا يجعلنا نركز على عمل قوة الله، بغَضّ النظر عن قوتنا الشخصية وعن نوعية التربة وقلوب البشر، إن كانت ستقبل البذور أو سترفضها.
ثالثاً - الله يعمل بتأنٍّ

كان كثير من اليهود يستعجلون مجيء ملكوت الله، فاستخدموا العنف ليجعلوا الناس يطيعون الله، ولكن ملكوت الله لا يأتي بالسيف «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!» (متى 26: 52). ويستطيع الله أن يهزم الشر في العالم بقوته، ولكنه لا يشاء أن يمارس الضغط على البشر، لأنه خلقهم ذوي إرادة حرة وعرَّفهم سبُل الحياة. ثم أن الضغط في ذاته شر. ومن المؤسف أننا نجد في عالمنا مَن يمارسون العنف لنشر كلمة الله، لأنهم يظنون أنهم بهذا يسارعون بمجيء ملكوت الله على الأرض!.. وإذا كنا نواجه إبليس العدو الذي لا يهدأ ولا يرحم، فإننا نؤمن أن المسيح هزمه على الصليب. إذاً «شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ» (2كورنثوس 2: 14). وهذا يدفعنا لأن نسلّم أنفسنا للمسيح المنتصر فننتصر.
قبل أن يمتلئ تلاميذ المسيح بالروح القدس انتظروا نتائج سريعة، وفقدوا صبرهم لما أبطأت. وذات يوم أرادوا أن يتوِّجوا المسيح ملكاً بعدما أشبع خمسة آلاف من خمس خبزات وسمكتين «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، ٱنْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى ٱلْجَبَلِ وَحْدَهُ» (يوحنا 6: 15). لقد ظنوا «أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي ٱلْحَالِ» (لوقا 19: 11). لكن ملكوت الله سيجيء في اليوم الذي عيَّنه الله، لا في الوقت الذي نطلبه أو نريده نحن، فقد قال المسيح: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال 1: 7).
صرف الكارز العظيم وليم كاري أربعين سنة في الهند قبل أن يرى متجدداً واحداً. وفي أثناء هذه المدة لم ييأس، لأنه كان يعلم أن البذور تنمو سراً، فقام بإلقائها، وأعطاه الله النجاح، بعد أن وجد التشجيع في كلمات الوحي: «نَشْتَهِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُظْهِرُ هٰذَا ٱلٱجْتِهَادَ عَيْنَهُ لِيَقِينِ ٱلرَّجَاءِ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ، لِكَيْ لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ وَٱلأَنَاةِ يَرِثُونَ ٱلْمَوَاعِيدَ» (عبرانيين 6: 11، 12).
وكثيراً ما نسمع الناس يوجّهون للكنيسة انتقادات بسبب ضعف ثمارها. ومن الأمانة أننا نعترف بضعفاتنا، ولكننا لا ننسى أيضاً نواحي القوة، فلكل شيء موعد، وللثمر قوانين. فلا تستعجِل النتائج، وعدّل نفسك مع التوقيت والفكر الإلهيين، وانتظر الرب. لا تفتِّح الوردة قبل الأوان فإن هذا يدمِّرها، ولا تحفر الأرض لترى إن كانت جذور الزرع الذي زرعته ينمو، فإن هذا يقتله. لكن بالصبر والإيمان ثِق في نوال المواعيد، ولا تقلق إن لم تنْمُ البذور في الآخرين بالسرعة التي تريدها. احذر من أن تضغط على أولادك أو على أصدقائك لتستعجل نموّهم، بل بالمحبة أَدفئ قلوبهم فتراهم ينمون ويثمرون.. ولا تقلق إن لم تنْمُ أنت في النعمة بالسرعة التي تتوق إليها، فإنك كالقمح الذي شرح لنا المسيح نموَّه في هذا المثل، لا ترى نموَّه بعينيك، لكنه يحدث. فإن كنت تهتم بتصرفاتك، وتجدِّد تكريسك لله، فإن طبيعتك الروحية تنمو من ذاتها. ولا تنسَ أن النبات الذي يعمِّر هو الذي ينمو ببطء. وكما أن الله صبور معك كن أنت صبوراً مع نفسك ومع غيرك. لا تُنقِص عمل النعمة فيك بالقلق على عمل النعمة. «إِنْ تَوَانَتْ فَٱنْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَاناً وَلاَ تَتَأَخَّرُ» (حبقوق 2: 3).
رابعاً - الله يبدأ عمله ويكمله

يبدأ ملكوت الله بالعمل الإلهي في القلوب، ويقول الوحي: «ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 6). ويقول المسيح إنّ النمو يكون نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل. وهذا يعني أن الله لا يتوقَّف عن العمل حتى يكمل نصره على الشر، خطوة خطوة. وعندما يتم عمل الله يقول: «أَرْسِلُوا ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصِيدَ قَدْ نَضَجَ» (يوئيل 3: 13). «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متى 24: 29-31).
والحصاد هو كمال عمل الله بنهاية العالم عندما يسمع المؤمنون قول ربهم: «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21). «فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً» (غلاطية 6: 7). «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (2كورنثوس 5: 10).
لقد بدأ الحصاد المجيد للنفوس يوم الخمسين، ولا يزال مستمراً طيلة العشرين قرناً التي مضت، وسيستمر في الازدياد لأن الله يعمل في عالمنا بقوة روحه القدوس معلناً للجميع الأخبار المفرحة عن موت المسيح وقيامته. فلا يجب أن يعيش أي مؤمن لذاته، لأن المسيح «مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كورنثوس 5: 15). «لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية 14: 7، 8).
ولكننا نجد للأسف بعض مَن يقضون حياتهم في خدمة نفوسهم فقط، ناسين التحذير: «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 12: 25). وكلما سمحْتَ للرب أن يبدأ عمله فيك ويتممه، ستخلِّص نفسك والذين يسمعونك أيضاً، وستنتهي حياتك بالفرح والتهليل.
وقد يصيب اليأس المؤمنين أحياناً وهم يرون الشر منتشراً في العالم، لكنهم يجب أن يتشجعوا لأن هزيمة إبليس قد بدأت بسحق رأس الحية، وقد أُكمِل الانتصار في الصليب والقيامة المجيدة، لأن المسيح «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي 2: 15). وسيكمل الرب النصر لملكوته في النهاية. نعم «سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ، يَوْمُ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي فِيهِ تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» (2بطرس 3: 10). ولذلك «جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ ٱلإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ ٱلرَّبِّ» (مراثي إرميا 3: 26). عالمين أن «ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ» (فيلبي 2: 13).
إن القائد المنتصر معنا، وهو الذي يجهِّز القلوب لتقبل الرسالة، فهو يبكت على الخطايا، ويغيِّر القلوب. وسيمنحك الشجاعة والحكمة والفرح عندما تقود النفوس للمسيح، وترى نموهم: نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل.
سؤالان
  1. كيف ترى اختبار القديس مرقس في مثل البذور التي تنمو سراً؟
  2. استعجل تلاميذ المسيح في أول معرفتهم بالمسيح مجيء ملكوت الله، فماذا تعلَّموا هم، وماذا نتعلم نحن من مثل البذور التي تنمو سراً؟
(د) قوة الملكوت مثلا حبة الخردل والخميرة


31قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، 32وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ. وَلٰكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ ٱلْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا». 33قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ (متى 13: 31-33).

(ورد هذان المثلان أيضاً في مرقس 4: 30-32 ولوقا 13: 18-21 )
في إحدى سفرات المسيح مع تلاميذه اتَّجهوا نحو مدينة للسامريين، فرفضهم أهلها. وغضب لذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، فقد كانت خدمة المسيح في بدايتها، وخافا من فشلها، ظنّاً منهما أنه لو أن كل بلدٍ ذهبوا إليه رفضهم لفشلت الرسالة قبل أن تكتمل. ودفعهما خوفهما هذا لأن يطلبا نزول النار على المدينة السامرية، فقالا للمسيح: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟»فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ» (لوقا 9: 54-56) وأطلق عليهما لقب «ابني الرعد» (مرقس 3: 17).
ويُطمئِن مثلا حبة الخردل والخميرة، الصغيرتين في حجميهما والكبيرتين في تأثيرهما، كل تلاميذ المسيح عبر العصور بأن ملكوت الله قوي قادر على الانتشار بفضل القوة الداخلية الكامنة فيه، مع أنه يبدو في بدئه صغيراً. وهو في غير حاجة إلى معونة عنيفة من خارجه لينتشر، لأن هذه البداية الصغيرة لن تتوقَّف عن النمو، وهي لا تحتاج إلى سيف أو نار، لأنها مصحوبة بقوة الروح القدس وعمله.
ويعطي مثلا حبة الخردل والخميرة شرحاً جديداً لطبيعة ملكوت الله، فقد رأينا في مثَل «الزارع» أن المسيح وتلاميذه يُلقون بذور كلمة الله في كل مكان، سواء أتت بثمر أم لم تأتِ. وفي مثَل «الزوان وسط الحنطة» رأينا وجود المنافقين وسط المؤمنين الصادقين، ولكن اليوم الأخير سيحسم النتيجة. وفي مثَل «الزرع الذي ينمو سراً» أولاً نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل، رأينا قوة كلمة الله وفعاليتها بعمل الروح القدس، دون أن «نعرف كيف». أما في مثَلي حبة الخردل والخميرة فنرى حتميَّة امتداد ملكوت الله واتِّساعه، بالرغم من بدايته التي تبدو متواضعة.
أولاً - بداية الملكوت سماوية

مصدر ملكوت الله ليس من هذا العالم، فهو مثل حبة خردل أخذها إنسان من خارج التربة وألقاها فيها. وهو مثل خميرة أخذتها امرأة من خارج الدقيق وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق.. فالملكوت قوةٌ أُدخِلت إلى العالم من خارجه، جاءته من فوق وليس من اختراع الناس. فلم يكن الخلاص من الخطية نتاج تفكير إنساني، ولا من عملٍ قام به البشر، إنما هو عمل قوة نعمة الله المحيية، وعطاء اليد الإلهية المُحِبَّة التي تنازلت من السماء إلى البشر لتحيي وتجدِّد وتقدِّس.
عندما أخطأ أبوانا الأولان اختبئا من الله، وحاولا ستر عريهما بورق الشجر. فجاء الله يفتش عليهما، ثم سترهما بأقمصة من جلد حيوان، فأوضح لهما ولنا مبدأ الفداء والتكفير بالذبح العظيم، الذي يرمز إلى المسيح «حَمَل الله». لقد أخذ الله زمام المبادرة، كما يقول الوحي: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيح... أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2كورنثوس 5: 18، 19). و «لَمَا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4، 5).
ثانياً - بداية الملكوت صغيرة

يبدأ ملكوت الله صغيراً مثل حبة خردل، أو مثل خميرة. وكان اليهود يضربون المثل بصِغر حجم حبَّة الخردل. ولكن هذه الحبة السوداء الصغيرة متى زُرعت ونمَت صارت شجرة تتآوى فيها الطيور لتلتقط بذورها. وكانت بذور الخردل تُستعمل كدواء، وتُعصر للحصول على زيت الخردل.. أما الخميرة فهي صغيرة بالمقارنة بحجم الدقيق الذي ستُخبَّأ فيه.
وقد حدثنا الوحي عن أشياء كثيرة صغيرة لكنها ذات نتائج باهرة، منها ملء كف الدقيق وقليل من الزيت التي لم تفرغ ولم تنقص، فأعالت النبي إيليا، وأرملةً، وابنها (1ملوك 17: 10-16)، ومنها كأس ماء بارد قال المسيح عنه: «مَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متى 10: 42). ومنها فلسا الأرملة التي قال الوحي عنها إن المسيح: «تَطَلَّعَ فَرَأَى ٱلأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي ٱلْخِزَانَةِ، وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. فَقَالَ: بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، لأَنَّ هٰؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ ٱلْمَعِيشَةِ ٱلَّتِي لَهَا» (لوقا 21: 1-4)، ومنها خمس خبزات وسمكتان كانت مع ولد أعطاها للمسيح، فباركها وأشبع بها خمسة آلاف نفس (يوحنا 6: 9-12).
ولقد بدأ إنجيل يسوع المسيح ابن الله (مرقس 1: 1) بميلاد المسيح «كلمة الله» طفلاً مولوداً في مذود، من أم عذراء فقيرة، سافرت رحلة طويلة مع خطيبها لتلده. وبسبب الاضطهاد تركوا مسقط رأسه ولجأوا إلى مصر، ومنها إلى قرية «الناصرة» تحقيقاً لنبوات التوراة. ولمدة اثنتي عشرة سنة لا نسمع عنه شيئاً، حتى نراه في الهيكل يتكلم بعبارات الحكمة (لوقا 2: 46-50). ثم اختفى عن العيون حتى عمر الثلاثين عندما بدأ خدمة علنية امتدَّت لثلاث سنوات وثلث السنة، انتهت بصلبه. لكن ملكوت الله كان ينبغي أن ينمو ويزيد، فقد قام المسيح من الموت، وظل يظهر لتلاميذه أربعين يوماً، ثم صعد إلى السماء، ومنها ننتظر عودته إلى أرضنا ديّاناً للأحياء والأموات. وقتها ستجثو له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن المسيح هو رب (فيلبي 2: 10 و11). إنه كحبة الخردل، مات ودُفن، ولكنه قام منتصراً، وحقَّق قوله: «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 12: 24)
وفي بداية خدمته اختار المسيح صحابته من بسطاء الناس الذين وصفهم الرسول بولس بالقول: «ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ أَدْنِيَاءَ ٱلْعَالَمِ وَٱلْمُزْدَرَى وَغَيْرَ ٱلْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ ٱلْمَوْجُودَ» (1كورنثوس 1: 28)، فقد دعا الصيادَيْن يوحنا وأندراوس لاتِّباعه (يوحنا 1: 39)، فدعا أندراوس أخاه بطرس الصياد (يوحنا 1: 42). ثم دعا المسيح فيلبس ليتبعه (يوحنا 1: 43)، فدعا فيلبس صديقه نثنائيل ليتعرَّف على المسيح (يوحنا 1: 47). ثم اختار المسيح تلاميذه الاثني عشر من الفقراء المتواضعين (مرقس 3: 13-19). ولكنهم، بعد أن أرسل المسيح لهم عطية الروح القدس، صاروا ملحاً للأرض ونوراً العالم، وفتنوا المسكونة (أعمال 17: 6) وبدأوا كنيسة امتدَّت إلى كل الأرجاء، وتآوت «طيور السماء» في ظلها. وكل من يسلِّم نفسه لله ويمتلئ بالروح القدس يخلق الله منه بطلاً، كما خلق من داود راعي الغنم بطلاً هزم جليات الجبار، ثم ملَّكه على بني إسرائيل، وجعل لقبه «سراج إسرائيل» (1صموئيل 16: 5-13 وأصحاح 17 و2صموئيل 21: 17).
ومع أن التلاميذ البسطاء نشروا في العالم رسالة محبة الله، إلا أنهم لاقوا الاضطهاد والمتاعب والطرد، فقيل عنهم: «وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ ٱلْجَمِيعُ... فَٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِٱلْكَلِمَةِ... أَمَّا ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ ٱلضِّيقِ... فَٱجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ» (أعمال 8: 1، 4 و11: 19)، فنشروا رسالة المسيح التي أنارت المسكونة.
وإلى جانب التأثير الكرازي يحدِّثنا التاريخ عن التأثير الحضاري لهؤلاء البسطاء، منه أن الراهب تليماخوس الذي كان يتعبَّد في الصحراء سمع عن مباريات المبارزة بالسيوف في روما، فشعر بدعوة الله له أن يوقف نزيف الدم هذا. وفي أثناء مبارزة كان يشاهدها ثمانون ألفاً، نزل تليماخوس بثيابه الرهبانية بين المتبارزَيْن ليوقف القتل، فقتله أحدهما. وتأثر الجمهور من قتل الراهب، ومن يومها أُوقفت مبارزات القتل بالسيوف. لقد كانت البداية متواضعة ومكلفة، لكن تأثيرها كان عظيماً ومستمراً.
ثالثاً - بداية الملكوت هادئة

حبة الخردل حبة صغيرة يخفيها رجل في الأرض، والخميرة ضئيلة الحجم تخبئها امرأة في العجين، فلا نعود نسمع صوت الحبَّة ولا صوت الخميرة، حتى نظن أنهما انتهتا في الأرض، وفي العجين. لكن الحبة والخميرة تخترقان التربة والعجين وتنتشران فيهما، وتتفاعلان معهما، وتؤثِّران فيهما تدريجياً وفي صمت وهدوء، وتعطيان نتائج كبيرة أكبر من حجميهما. فالبداية صغيرة وخافتة لا صوت لها، شأنها شأن السيد المسيح صاحب الملكوت، فهو «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي ٱلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ» (متى 12: 19 تحقيقاً لنبوة عنه في إشعياء 2: 42). ولا غرابة فالنصيحة العظيمة تقول: «كُفُّوا (اهدأوا) وَٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ ٱلأُمَمِ. أَتَعَالَى فِي ٱلأَرْضِ» (مزمور 46: 10)، وما أجمل قول النبي صفنيا: «إن الله يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ» (صفنيا 3: 17). فهي محبة قوية فعّالة بدون ضوضاء، لأنها مثل النور الذي يضيء المكان دون أن نسمع له صوتاً، ومثل الملح الذي ينتشر في صمت كامل فيعطي الطعام طعمه المقبول ويحفظه من الفساد. فحبة الخردل وهي تنمو في الأرض، والخميرة وهي تخمر العجين، تعملان بهدوء وبغير ضوضاء.
وقد عمل ملكوت الله في عالمنا بهدوء الواثق، لا بضوضاء الخائف. وكل من ينضمّون إلى هذا الملكوت يسمعون نصيحة موسى لبني إسرائيل: «ٱلرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ» (خروج 14: 14)
رابعاً - بداية الملكوت فعّالة

يبدأ ملكوت الله بداية صغيرة، ولكنه ينمو تدريجياً في هدوء، ولا شك أن النصرة النهائية هي لرب الملكوت ولكل من هم له.. وقد تصيبنا البدايات الصغيرة باليأس، فنحاول أن نسندها بالقوة البدنية، لكن ملكوت الله لا يحتاج إلى مثل هذا العون، لأن القوة الكامنة فيه لا تحتاج إلى معونة خارجية، وهي تُنتج نتائج عظيمة وكبيرة. ومهما كان أتباعه قليلين فإنهم أقلية فعالة، وقد قال لهم: «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ» (لوقا 12: 32).
نعم، هناك قوة مغيِّرة كامنة في حبة الخردل وفي الخميرة، وضعها الله داخلهما. فحبة الخردل صغيرة جداً، ولكنها تنمو ليصل ارتفاعها من مترين إلى أربعة أمتار في سنة واحدة. والخميرة صغيرة، لكنها تخمِّر ثلاثة أكيال دقيق (هي الإيفة) يُصنع منها خبز يكفي مئة شخص لوجبة واحدة، فيُقال عنها: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ؟» (1كورنثوس 5: 6)، لأنها تجعل العجين مشابهاً لها، وتصيِّره كله من نفس النوع.
يبدأ ملكوت الله في قلب الإنسان الذي يسمع قول المسيح: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). وعندما يطيعه ويطلب منه أن يدخل قلبه يولد ولادة جديدة، فيبدأ طفلاً في الإيمان، ثم ينمو فيه ويشتهي اللبن العقلي العديم الغش (1بطرس 2: 2)، ثم ينمو أكثر فيأكل الطعام الروحي القوي الذي يناسب البالغين (عبرانيين 5: 14). وكل من يسلّم حياته للرب يمتلئ قلبه بالفرح، ويبدأ الروح القدس يعلّمه دروس كلمة الله العميقة، ويشرح له أبعادها، فيستوعبها ويبدأ فهم ما حدث له، ويشتاق أن يشارك غيره في ما اختبره، ويجاوب الذين يسألونه عن سبب الرجاء الذي فيه (1بطرس 3: 15).
وقد يقرع المسيح باب قلب الإنسان بآية أو عظة أو قصة تغيير حياة شخص، أو نتيجة مواجهة مشكلة يصعب عليه حلّها، فيقول للرب: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 6)، وعندما يستجيب لعمل الرب في قلبه يُستأثر كل فكر فيه لطاعة المسيح (2كورنثوس 10: 5)، ويصبح شعاره: «خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مزمور 119: 11)، وأخيراً يقول: «قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ» (2تيموثاوس 4: 7).
ما أسعد من يختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع منه (لوقا 10: 42)، ويقبل عمل الله في قلبه.
سؤالان
  1. اشرح باختصار طبيعة ملكوت الله كما تراها في مثلي حبة الخردل والخميرة.
  2. كيف ترى تحقيق مثلي حبة الخردل والخميرة في حياة المسيح على أرضنا؟
(هـ) عظمة قيمة الملكوت مثلا الكنز المخفى واللؤلؤة الثمينة


44أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَنْزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَى ذٰلِكَ ٱلْحَقْلَ. 45أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً، 46فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا (متى 13: 44-46)

يوضِّح مثلا الكنز واللؤلؤة طبيعة ملكوت الله في أنه ثمين ومفرح، مثل حقل يحوي كنزاً، ولؤلؤة رائعة يخطف بريقها الأبصار. وكل من يجد هذا الكنز وهذه اللؤلؤة لا يملك إلا أن يترك كل ما معه، ويتنازل عن كل ما يملكه في سبيل الحصول عليهما. وفي المثلين نرى أن الذي اشترى الحقل واللؤلؤة هو الخاطئ، وأن الحقل هو العالم، وأن الكنز واللؤلؤة هما المسيح، وأن الثمن المدفوع في الشراء هو ترك الإنسان لحياته القديمة بالتوبة، واتِّباع المسيح بكل القلب.
ومن هذين المثلين نتعلم أن البعض يجدون ملكوت الله بدون أن يبحثوا عنه، كما وجد الفلاح الكنز في الحقل، بينما يجده البعض الآخر بعد بحث وتفتيش، كما وجد التاجر اللؤلؤة. ولكن سواء كان العثور عليه بغير بحث، أو بعد بحث كبير، فإن الفضل في العثور عليه يرجع إلى الرب الصالح الذي يفتش عن الواحد الضال حتى يجده (لوقا 15: 4)، «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أفسس 2: 8 و9). وفي كل حال يستحق ملكوت الله أن نضحي بكل شيء لنحصل عليه.
وقد يرمز الكنز واللؤلؤة إلى المسيح المخلِّص نفسه «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (كولوسي 2: 3)، أو قد يشيران إلى عطاياه: وهي الحياة الأبدية، وغفران الخطايا، وسماء المجد التي تلمع كحجر يشب بلوري (رؤيا 21: 11). فعندما تكون لنا علاقة شخصية بالمسيح تُكتب أسماؤنا في سفر الحياة، وننال غفران خطايانا، ونصبح ورثة السماء، ونسمع القول: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متى 25: 34)
ويعلِّمنا المثلان أن الملكوت أمر شخصي، يجب أن يبيع الإنسان كل ما عنده ليحصل عليه، فيصير الملكوت له «كَمَخْبَأٍ مِنَ ٱلرِّيحِ وَسِتَارَةٍ مِنَ ٱلسَّيْلِ، كَسَوَاقِي مَاءٍ فِي مَكَانٍ يَابِسٍ، كَظِلِّ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَرْضٍ مُعْيِيَةٍ» (إشعياء 32: 2). ونحن لا ننتمي إلى الملكوت لأننا ننتمي إلى كنيسة معيَّنة، ولا لأننا وُلدنا في عائلة مؤمنة، لكن لأن الواحد منّا اتَّخذ قراراً شخصياً بتسليم حياته للمسيح، فيختبر الرب لنفسه. صحيحٌ أن تربيتنا الأولى في بيتٍ مؤمن تساعدنا أن نجد المسيح بسبب قدوة أبوينا وصلواتهما لأجلنا وتعليمهما الديني لنا، لكن العثور على الكنز مسؤولية فردية.
وليس المقصود بالمثلين أننا نشتري ملكوت الله، فهو لا يُشتَرى بمال، لذلك يهبه الله لنا مجاناً، فإن هبة الله هي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا (رومية 6: 23).
وليس المقصود بمثل كنز الحقل أن نخفي ثروة يملكها غيرنا لنأخذها نحن، فقد أوضح العلاّمة «إدارشايم» أن القانون اليهودي كان يقول إن من يجد عملات في وسط قمح اشتراه، تكون العملات له، وإن من وجد كنزاً في حقل يكون الكنز له، إن هو اشترى الحقل. ولكن المقصود بالمثلين هو قيمة الملكوت العظيمة وتكلفته الكبيرة، فهو ثمين جداً، يستحق أن نضحي بكل شيء لنحصل عليه. وهو كنز ثمين لأن فيه رضى الله، وفيه الحياة الأبدية، وهو الميراث الذي لا يفني ولا يتدنس ولا يضمحل (1بطرس 1: 4)، والذي وحده يملأ احتياج كل إنسان.. ولذلك يضحي الإنسان بكل شيء في سبيل امتلاكه، كما حسب موسى عار المسيح غنى أفضل من خزائن مصر (عبرانيين 11: 26)، وكما ترك الرسول بولس كل شيء ليحصل على الكنز واللؤلؤة، وقال: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ» (فيلبي 3: 7-9). وقال القديس أغسطينوس في اعترافاته: «الذي كنتُ أخاف من مفارقته صار تسليمُه موضوعَ فرحي، لأنك يا رب، يا صاحبَ الحلاوة المطلَقة الحقيقية طردتَه من داخلي، وحللتَ بنفسك مكانه، يا أحلى مِن كل لذَّة!».
وكل من يتأكَّد من بركات المسيح يترك خطاياه، ولا يعنيه حُكم الناس عليه، ويضع كل خير دنيوي في المرتبة الثانية، وينكر نفسه ليتبع المسيح.. بل إنه يترك أغلى ما عنده حتى لا يتعطل عن الحصول على بركات الإنجيل، فيترك محبُّ المال بُخله، ويهجر الكسلان خموله، ويتخلى الشهواني عن شهواته، لأنه يفهم قول المسيح: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 10: 37-39).
وسنتأمل في مثل الكنز المخفى الذي يرمز للذين يلتقي المسيح بهم دون أن يطلبوه، فهؤلاء يطلبهم المسيح. ثم نتأمل مثل اللؤلؤة الثمينة الذي يرمز للذين يلتقون بالمسيح بعد أن يكونوا قد طلبوه وفتَّشوا عليه.
أولاً - الذين يطلبهم المسيح

يصوِّر لنا مثَل الكنز المخفى في حقل حالة الإنسان الذي يجد المسيح بما يصفه البعض أنه «محض الصدفة» ولو أن الحقيقة هي أن الله يكشف هذا الكنز للإنسان دون طلب من ذلك الإنسان.
وفي زمن رواية المثَل لم تكن هناك بنوك، وكان الغزاة واللصوص يهاجمون البيوت والقرى والمدن وينهبون كل شيء، فكان الناس يحتفظون بكنوزهم في أوانٍ فخارية يدفنونها في الحقول، ليستردُّوها بعد جلاء الغزاة. وكان بعض أصحاب الكنوز يموتون تاركين كنوزهم وراءهم فتظل مدفونة إلى أن يعثر أحدهم عليها بالصدفة. ويقول مثَل الكنز المخفى في حقل إن فلاحاً كان يعمل في حقل عندما اصطدم فأسه بآنية فخارية تحوي كنزاً، فأخفى ما وجده، ومضى وباع كل ما يملكه واشترى الحقل ليكون الكنز له.
وفي عالمنا حقول كثيرة فيها كنوز، منها الأسرة، والعلم، والفن، والمال، والصداقة، والأدب، والرياضة، والسياسة، والمركز الاجتماعي.. لكنها كلها كنوز مؤقتة وفانية، ولا تُشبع إلا حاجات الجسد الفاني. لكن الحاجة الحقيقية الأبدية التي تُشبع النفس والروح هي إلى الكنز الواحد الذي هو المسيح، الذي يستحق أن نترك كل شيء في سبيل اتِّباعه، فنكون مثل مريم التي تركت كل شيء وجلست عند قدمي المسيح تسمع كلامه، بينما أختها مرثا (التي كانت أيضاً تحب المسيح) مهتمَّة بأمور أخرى كثيرة إلى جانب اهتمامها بالمسيح! وعندما اشتكت مرثا من أختها مريم، قال المسيح: «مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لوقا 10: 41، 42). ويقول المرنم: «نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ... ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. ٱتَّقُوا ٱلرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. ٱلأَشْبَالُ ٱحْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو ٱلرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ ٱلْخَيْرِ» (مزمور 34: 5 و8-10)، فيحتلُّ الله المكانة الأولى في عواطفنا وإرادتنا وعقلنا، ويجيء كل شيء في حياتنا بعده.
ومن المؤسف أن كثيرين في هذا العالم عندما يسمعون عن هذا الكنز السماوي لا يفهمون قيمته، لأنهم يظنون أنفسهم أغنياء وحكماء وأبراراً، أو لأنهم لامبالين، أو ساخرين. ويقول الوحي: «ٱلإِنْسَانُ ٱلطَّبِيعِيُّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً» (1كورنثوس 2: 14)، ولأن «إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِين» (2كورنثوس 4: 4)
ولكن كم نشكر الله الذي يفتح عيوننا لنرى كنزه. وما أجمل قول «ذو النون» الصوفي المصري: «عرفت ربي بربي. ولولا ربي ما عرفت ربي». ويقول المسيح: «لَيْسَ أَنْتُمُ ٱخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا 15: 16). وعندما نحصل على الكنز الإلهي تُسدَّد كل ديون ماضينا، وتتوفَّر لنا حياة سعيدة هانئة بدون هموم ولا احتياجات، ويكون الكنز بركة لمستقبلنا ومستقبل
__________________
ܐܠܠܗܐ ܚܘܒܐܗܘ
ܡܘܢ ܢܐܬܪ ܒܪܢܘܫܐ ܐܢ ܥܠܡܐ ܢܩܢܐ ܘܢܦܫܗ ܢܝܚܣܪ
- الله محبة -

((ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر نفسه ))

// الرب يسوع حامي بلاد الرافدين //
// طور عابدين بلد الاجداد الميامين //
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-10-2008, 11:21 AM
الأب عيسى غريب الأب عيسى غريب غير متواجد حالياً
Super-User
 
تاريخ التسجيل: Dec 2005
المشاركات: 233
افتراضي المانيا / فولندروف .رسالة إعجاب

الأخ والصديق والعزيز أبو سومر، كل يوم وكل مقاله ، وكل ساعة تتقرب إلى القلب لما تحمل في قلبك الطيب الذي يتحدث عن نفسه بهذه الأمثال الرائعة والتي أغنيتها بتعلقك عنها . فالمثل هو للمستقبل لكي يتذكر الإنسان ويفهم معناه في ما بعد . والأهم من كل ذلك أوضحته في كتابتك بأن التلاميذ كانوا بسطاء وصيادين سمك، صحيح ، ولكن ما التغير الجوهري الذي حصل لهم . فنقرا في سفر أعمال الرسل الأصحاح 2: 14 ) عندما رفع صوته وقال يا أيها الساكنون في أورشليم أن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون : لأنها الساعة الثالثه من النهار : تلك الروح غيرتهم وروح الرب حلت عليهم . بينما هو أول الرسل أنكر المسيح وخاصة أثناء اضرام النار في وسط الدار عندما قالت لهم الجارية .هذا كان معهم . فقال آخرون أنت منهم . فقال لست أعرفه يا إمراءة . لوقا22: 54 ) والشهود الحقيقيون على التغيير . في الأولى النار ثبتت كلام بطرس أنه نكر المسيح . والثاني بطرس في الساعة الثالثة في وضح النار . كما أنت يا رب عظيم فيك يتغير كل شئ . وبقوتك يستطيع كل أنسان أن يتغيير ويحصل ما يصبوا عليه في هذا العالم وفي العالم الآخر .
تشكر أخينا وحبيبنا ابو سومر، صاحب المبادرات الطيبه . وكل ما يكتب يدل على صاحبه . من قيم واخلاق وإيمان ومحبه . لك كل الحب يا أبو سومر . الأخ والصديق والخادم الأب عيسى غريب . المانيا / فولندروف ..
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-10-2008, 09:53 PM
SamiraZadieke SamiraZadieke غير متواجد حالياً
Super Moderator
 
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 8,828
افتراضي

روعة يا أخ أبو سومر
تسلم ايديك وفقك الرب ...
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-10-2008, 04:46 PM
الصورة الرمزية ابو سومر
ابو سومر ابو سومر غير متواجد حالياً
Titanium Member
 
تاريخ التسجيل: Oct 2007
المشاركات: 910
افتراضي

الاخ والاب الروحي جزيل الوقار ابون ميقرو بارخمور
اشكرك يا ابتي على كلماتك التي اثلجت صدري والتي هي كلمات مقدسة من فم يفوح منه رائحة المسيح الزكية
وثق يا غالي انت اب واخ وصديق وانا افتخر بشخصيتك الكريمة والطاهرة
الرب يسوع يمد لك دائما يد المعونة لتكون سند لبيت الله الذي انت تخدم به
وانتم ابونا رتبتكم اكبر من الملائكة هناك قول سرياني جميل يقول
/ كهنو راب مين مالاخو /
وما تحلونه بالارض يكون مربوطا بالسماء هكذا قال ربنا والهنا وحبيب العالم يسوع المسيح
وانتم تمثلون السيد المسيح على الارض
لك كل الشكر الجزيل والاحترام الموقر لك يا غالي
وموران يشوع مشيحو مناطرلوخ ابون ميقرو

اختي الغالية القديرة سميرة
كل الشكر الجزيل لك ياغاليه ولمرورك الجميل
الرب يسوع يمد بعمرك وتكون محبة يسوع بينكم وبين اولادكم يارب
لك احترامي وتقديري
تحياتي القلبية لكم
سلام المسيح الغالي
__________________
ܐܠܠܗܐ ܚܘܒܐܗܘ
ܡܘܢ ܢܐܬܪ ܒܪܢܘܫܐ ܐܢ ܥܠܡܐ ܢܩܢܐ ܘܢܦܫܗ ܢܝܚܣܪ
- الله محبة -

((ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر نفسه ))

// الرب يسوع حامي بلاد الرافدين //
// طور عابدين بلد الاجداد الميامين //
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:51 PM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke