الأب القس ميخائيل يعقوب
27-02-2007, 01:29 AM
جميعنا استمع ما أُثير مؤخراً عن رواية دافنشي وتفسير الصورة التي رسمها ذلك الفنان التاريخي الكبير والذي لاشك أنه كان تفسيراً يهودياً . ذلك التفسير الذي كان يتمحور حول فكرة أن المسيح كان قد تزوج من مريم المجدلية ( حاشاً ) .
وأنا شخصياً قرأت ردوداً كثيرة على هذا التفسير لكن في الحقيقة لم أُسرّ كثيراً بتلك الردود لأن المؤمن يحتاج إلى ردٍ يرضي تفكيره العقلي ويشفي غليله . ولذا أنا شخصياً أعتبر أن أي رد على أي مسألة تمسّ الإيمان المسيحي هو الرد الذي يتناول الفكرة الأساسية وما يخدمها وليس وسيلة التخريب وكأن هذه الوسيلة هي غاية بحد ذاتها .
إن أسلم طريقة للرد على هذا الادعاء هو التطرق إلى مسألة البتولية في ديننا المسيحي . فماذا عن البتولية في الفكر المسيحي ؟
تعريف البتولية :
1- بالتعريف المجرّد . البتولية هي النقاوة والصفاء الذي لا تطاله شابئة غريبة .
2- بالتعريف الديني . البتولية هي النقاوة التي لا يطالها فساد ذهنياً وجسدياً .
- البتولية الذهنية : هي الصفاء الذي يظل يتحلى به ذهن المؤمن . كيف ذلك ؟
إن المطلوب إلهياً هو أن يكون ذهن الإنسان صفحة لا يكتب فيها إلا ما ترتضيه مشيئة الله ، ولذا فإن حدث وكُتِبَ فيها ما لا ترتضيه مشيئته الإلهية فهذا يعني أنه خسر صفاءه الذهني ولم يعد ذهناً بتولاً ، ونجد مثالاً في الإصحاح الثاني من سفر التكوين أن الله منذ البدء حينما خلق الإنسان خلقه في حالة بتولية ذهنية ، ولذا فحينما أعطى آدم الوصية فإنه تبارك اسمه خاطب الذهنية البتول التي فيه إذ قال : من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، وهذه الوصية بحد ذاتها كانت تتضمن في طياتها إشارة إلى أن ما يجب أن يكون في ذهن الإنسان هو ما يتوافق مع مشيئة الله الصالحة . ولذا فحينما وقع الإنسان لم يعد الله يكلم تلك الذهنية البتول فيه لأنها لم تظلّ بتولاً بل تكلم مع الذهنية التي فسدت ، وحينما ردَّ الإنسان على مخاطبة الله له صار يردّ من تلك الذهنية التي لم تظل بتولاً فنجده يتهرب من سؤال الله والجواب عليه لأنه اكتشف أنه لم يعد يملك ذهناً بتولاً لله .
كما أننا يجب أن نضيف ملاحظة هامة وهي أن الله خلق الإنسان في حالة بتولية ذهنية دون أن يخلقه في حالة بتولية جسدية بدليل أنه تعالى خلق آدم وأوجد له حواء وقال لهما أثمروا واكثروا واملأوا الأرض .
وفي العهد الجديد لنا أمثلة كثيرة على بتولية الذهن منها أن بطرس الرسول حينما كان ذهنه صافياً استحق أن ينال إعلانا من السماء عن أن المسيح هو ابن الله مما جعل يسوع يثني على إيمانه ويسميه بالصخرة إذا قال له : طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحما ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات . وأنا أقول لك أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ................. ( مت 16: 13-20 ) . ولكن حينما دخلت شوائب الحياة الاجتماعية إلى ذهن بطرس التي لم تكن تتوافق مع مشيئة الله فإنه استحق أن يسمع تعنيفاً شديداً من رب المجد إذ قال له : اذهب عنّي يا شيطان فأنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس ( مت 16: 21-23 )
وذات الشيء تكرر مع بطرس أيضاً حينما أراد أن يمشي على الماء فكان له ما أراد ثم ما لبث أن بدأ يغرق فقال له رب المجد : لماذا شككت يا قليل الإيمان ( مت14: 31 ) أي لماذا أفسدت ذهنك بالخوف بعد أن كان ذهناً بتولاً لي .
- البتوليةالجسدية : هي الحفاظ علي الجسد من شهواته الحيوانية وبخاصة الجنسية وإن صورة البتولية الجسدية هي عدم الزواج أو القيام بأي فعل من شأنه أن يجعل البتول متزوجاً أو كأنه قد تزوج .
إن الله تبارك اسمه لأنه إله حنون لم يشأ أن يظل الإنسان مأسوراً بقيود الشيطان والخطية والموت لذا فإنه رسم أن يعود هذا الإنسان ثانية إلى هيئة المجد الإلهي . لكن العودة كان يلزمها توافر بتولية جديدة كاملة وهي ( بتولية الذهن وبتولية الجسد ) وهذا ما تمّ فإن كلمة الله المنزه عن الخطية ( وهذه صورة البتولية الذهنية ) تجسد ولم يتّخذ له امرأة ( وهذه هي صورة البتولية الجسدية ) . أي أنه له المجد بتأنسه جمع بين صورتي البتولية الكاملة ( الذهنية والجسدية ) .
وبما أنه له المجد هو الله جاء يدعو ويكرز بملكوت الله لذا كان يلزم لبتوليته الذهنية والجسدية أن يولد من عذراء بتول تجمع البتوليتين بصورة دائمة غير منقطعة .
لماذا صورتي البتولية ( الذهنية والجسدية ) ؟
لأنه من سيدخل إلى ملكوته الإلهي الأبدي سيكون من الناحية الذهنية بتولاً إلى الأبد وهذا ما يتضح من سفر الرؤيا الذي يشير إلى هذه الفكرة حينما يصف ملكوت الله بأنه لا خوف فيه ولا حزن ولا تعب ولا ........... ولا يدخله دنس ولا رجس ولا كاذب ولا .................. ( رؤ21 ) . وأما من الناحية الجسدية فقد قال له المجد : لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائة الله في السماء ( مت22: 30 ) .
أي أن ملكوت الله هو ملكوت بتول بتوليته كاملة بصورتيها وذلك لأنه ملكوت دائم إلى أبد الآبدين وهذا ما يجعلنا أن ننتبه إلى إستنتاج هام ألا وهو أن ما هو فاسد ليس دائمٌ بل هو وقتي لا يؤدي إلى الحياة أي ما ليس بتول ليس دائمٌ بل لابد له أن يموت وهذا ما أكده المسيح وبخاصة ما يتعلق بالزواج حينما قال : الذين حسبوا أهلاً للحصول على الدهر والقيامة من بين الأموات لا يزوجون ولا يتزوجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ( لو20: 35- 36 ) .
كما لا يفوتنا أن نذكر أن ربنا يسوع المسيح أكدّ بالحرف والمعنى أن الأساس الذي يقوم عليه ملكوت الله هو البتولية حينما قال : يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم ، ويوجد خصيان خصاهم الناس ، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات ، من استطاع أن يقبل فليقبل ( مت19: 12 ) وإذ أن الكنيسة هي المرحلة الأولى لملكوت الله لذا فإن هذه الكنيسة أساسها أيضاً هو البتولية ومن أجل ذلك وجدت المسيحية على ثلاث أسس من البتولية وهي ( المسيح ، العذراء ، الكنيسة )
نعم لقد كان اجتماع بتولية المسيح الكاملة مع البتولية الكاملة لأمه العذراء أروع صورة للبتولية شهدها التاريخ وكانت نقطة انطلاق للكنيسة البتول . وهكذا فإن هذه البتولية الثلاثية الأقطاب ( المسيح . العذراء . الكنيسة ) شكلت وحدة متكاملة لصورة ملكوت الله البتول ، بمعنى أنه إن سقط أحد أقطاب هذه البتولية فإن كامل صورة ملكوت الله سوف تسقط ولا يعود الملكوت ملكوتاً ، وإذا لم يعد الملكوت ملكوتاً فإن المسيح لم يأت بعد ، وإذا كان المسيح لم يأت بعد فإن إيماننا باطلٌ ورجاؤنا باطلٌ أيضاً . لكن الحقيقة هي أن المسيح قد جاء وإيماننا بذلك راسخ بدليل أنه لا تزال تحدث في كنائسنا المعجزات الإلهية التي أن الغاية الرئيسة منها هي إثبات صحة المعتقد والإيمان .
وهنا نأتي إلى الوسيلة : فالوسيلة تستخدم لأجل غاية ، وإن غاية هؤلاء هي تشويه صورة المسيح ووسيلتهم في ذلك هي هذه الفكرة التي أطلقوها عن المسيح بأنه تزوج من المجدلية ( حاشا ) لأنهم إن استطاعوا أن يقنعوا البشر بذلك يكونون قد نجحوا في إسقاط أحد أقطاب ملكوت الله الثلاثة وهو ( بتولية المسيح ) وكما ذكرنا إن سقط أحدها سقط ملكوت الله ولم يعد ملكوتاُ وبالتالي فالمسيحية ليست مسيحية وكأن المسيح لم يأت بعد .
دعوة : لنثبت في إيماننا المسيحي ومعتقد فكرنا المسيحي ولا ننخدع فإن الرسول بولس يقول : بالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء ( رو16: 18 ) .
انتباه : نحن قلنا إن الأساس الذي يقوم عليه ملكوت الله هو البتولية الثلاثية الأقطاب ( المسيح ، العذراء ، الكنيسة )
وإن بتولية المسيح كاملة بصورتيها الذهنية والجسدية أي أنه لم يتزوج .
وإن يتولية العذراء كاملة أيضاً بصورتيها الذهنية والجسدية أي أنها لم تتزوج .
وأما الكنيسة فإذ هي ليست فرداً واحداً لذا فإن بتوليتها تعني ما عناه ربنا يسوع المسيح حينما قال لبطرس أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي ، أي لا شائبة تصل وتنقص أو تخلخل أو تلغي إيمان الكنيسة فكما تتسلمه من المسيح سيظل هكذا إلى الأبد إن التزم الناس بهذا أو لم يلتزموا . ولا تعني بتولية الكنيسة امتناع أبناءها عن الزواج كلا فإن بتوليتها هي بتولية إيمانية فكرية ، وذلك لأنه لو أحجم أبناؤها عن الزواج لماتت بموتهم جميعاً لعدم إنجاب البنين الناجم عن عدم الزواج .
أخيراً لابد أن نجيب على سؤال قد يطرح ذاته ليقول : إذا كانت للبتولية هذه الأهمية المطلقة والرئيسة في العقيدة المسيحية وملكوت الله . فلماذاً ليست وصية مثلها مثل غيرها من الوصايا ؟
الجواب :
1- لو أن البتولية نزلت كوصية لما كانت هناك كنيسة لأن في تطبيقها امتناعاً لأبناء الكنيسة عن الزواج وبالتالي توقف إنجاب البنين وماتت الكنيسة .
2- إن البتولية هي أسمى من الوصية وهي دعوة من الله بحسب ما يقول الرسول بولس
: لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا ( كان بولس بتولاً لم يتزوج ) لكن ! كل واحد له موهبته الخاصة من الله ، الواحد هكذا والآخر هكذا ( 1كو7: 7) .
وهنا تظهر مسألة وهي حينما قلنا أن البتولية هي أحد الأسس الذي يقوم عليها ملكوت الله فإن القصد هو أن كنيسة المسيح التي هي المرحلة الأولى لملكوت الله يجب أن تدار بالبتولية ، أي أن رؤساءها على الأقل يجب أن يكونوا بتولين وأما عامة الرعية فليس مفروضاً عليهم رسم البتولية ولنا في المسيح والرسل الاثني عشر مثالاً ، فقد كان له المجد بتولاً وبعضاً من الاثني عشر وأما البعض الآخر فكان متزوجاً .
نظرة عامة إلى مسألة البتولية في الكتاب المقدس
أولاً في العهد القديم :
1- كان للبتولية السابقة للزواج في العهد القديم تقديراً عالياً وقداسة إلى درجة أن الكاهن أو رئيس الكهنة لم يكن مسموحاً لهما أن يتزوجاً إلى من فتاة بتول عذراء . وهذا ما نجده في سفر اللاويين حيث يقول الرب الإله : والكاهن الأعظم بين اخوته الذي صبّ على رأسه المسحة .... لايكشف ....... لا يأتي ..... لا يخرج ....... لأن أكليل مسحة إلهه هي عليه .... هذا يأخذ امرأة عذراء . أما الأرملة أو المطلقة والمدنسة والزانية فمن هؤلاء لا يأخذ ............. ( لا21: 10 - 14 ) .
وفي حزقيال يقول الرب الإله عن الكهنة عامة : لا يأخذون أرملة ولا مطلقة زوجة بل يتخذون عذراى من نسل ............... ( حزقيال 44 : 22 ) .
2- هناك إشارة إلهية خفية إلى أن الزواج والخصوبة الناتجة عنه لا شأن لها في تحقيق وعد الله الخاص بمجيء المسيح الذي ضربه لابراهيم . وربّ سائل يقول لماذا : لأن المسيح كان معلوماً أنه سيكون بتولاً ودعوته دعوة بتول وملكوته ملكوت بتول . ولنا أمثلة نذكر بعضاً منها .
- ابراهيم وزوجته سارة لم ينجبا أولاداً مع أن الوعد أعطي أولاً لابراهيم ( بنسللك تتبارك جميع قبائل الأرض ) وحينما وصلاً إلى سن تنعدم فيه الشهوة الجنسية ويلغى الاتصال الجنسي تدخل الله فحبلت سارة بابنها اسحق . أي أن اسحق لم يكن ثمرة طبيعية لزواج سارة من ابراهيم . وهكذا قل عن زكريا وزوجته اليصابات وولادتهما ليوحنا المعمدان في شيخوختهما ...
3- رمّز أشعياء النبي بالزواج بين شاب وفتاة عذراء إلى العرس بين الله وشعبه ( أشعياء62: 5 ) .
ثانياً : العهد الجديد .
1- إن اتحاد المسيح بالكنيسة هو اتحاد بتولي . فكما يجب على الفتاة أن تصون بتوليتها وعذراويتها بكل قداسة وطهارة لتقدمهما هدية لعريسها في يوم زفافها ، هكذا الكنيسة تحافظ على بتوليتها إيماناً وفكراً وعبادة ، لتزفّ إلى عرس المسيح الأبدي وهذا مما أشار إليه الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس ( أف5: 22-33 ) وكذلك في ( 2كو11: 2 )
2- تبدأ بتولية الكنيسة عند نقطة الاتصال بين العهدين في مريم العذراء البتول . وذلك لأن مريم العذراء انطبقت عليها تماماً صفة وتسمية العذراء بصورتيها الذهنية والجسدية . هذه البداية هي التي أشار إليها لوقا في الإصحاح الأول من انجيله بالقول : أرسل جبرائيل إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم .
كما أشار إلى اتحاد بتوليتها مع بتولية الله الكلمة بقوله :
- مباركة أنت في النساء .
- ستحبلين وتلدين ابنا وتدعين اسمه يسوع . هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى .
- وحينما استغربت كيف أنها ستحبل وهي ليست متزوجة ولا تنوي الزواج قال لها الملاك : الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك ابن الله يدعى .
وهكذا في بتولية أمنا العذراء كمل ذلك الإعداد الطويل المدى للبتولية خلال العهد القديم وفيها ظهر بوضوح المعنى الحقيقي للبتولية وهو انفتاح عالم جديد في مجرى التاريخ هذا العالم الجديد هو ملكوت الله بمرحلتيه الزمنية ( الكنيسة ) والأبدية .
3- أكدّت المسيحية حقيقة أن البتولية هي صورة العلاقة بين المسيح والكنيسة .
- من جهة هي دعوة شخصية من الله وعطية من الروح القدس ( راجع 1كو7: 7 ) .
- البتولية هي نعمة فائقة وهذا ما أكده ربنا يسوع المسيح في ردّه على التلاميذ الذين قالوا إن كان هذا هو حال الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوجا فأجاب : ليس الجميع يقبلون هذا الكلام ( أي عدم التزوّج ) بل الذين أعطي لهم ( مت19: 11 )
- يفضل الرسول بولس البتولية على التزوج لأن البتولية هي تكريس الذات لله إذ قال : غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب وأما المتزوج فيهتم للعالم كيف يرضي امرأته ( 1كو7: 32 ) .
- إن عبارة المسيح : يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله تعطي البتولية بعدها الحقيقي الذي هو بعد الملكوت ( مت19: 12 ) لأن صورة الزواج مرتبطة بالعالم الحاضر الذي سيزول وأما صورة البتولية فهي مرتبطة بالعرس الإلهي الأبدي في ملكوت السماء ولنا في ذلك تأكيد هو مثل العذارى الخمس الحكيمات اللواتي دخلن مع العريس وأغلق الباب إلى الأبد ( مت25: 1-13 ) .
أرجوا أن يكون ربنا يسوع المسيح قد وفقني في عرض هذا الموضوع وليس كاملاً إلا الله . نعمته تشمل جميع أبناء الكنيسة بشفاعة أمنا العذراء والقديس مار أسيا الحكيم إنه السميع المجيب آمين .
وأنا شخصياً قرأت ردوداً كثيرة على هذا التفسير لكن في الحقيقة لم أُسرّ كثيراً بتلك الردود لأن المؤمن يحتاج إلى ردٍ يرضي تفكيره العقلي ويشفي غليله . ولذا أنا شخصياً أعتبر أن أي رد على أي مسألة تمسّ الإيمان المسيحي هو الرد الذي يتناول الفكرة الأساسية وما يخدمها وليس وسيلة التخريب وكأن هذه الوسيلة هي غاية بحد ذاتها .
إن أسلم طريقة للرد على هذا الادعاء هو التطرق إلى مسألة البتولية في ديننا المسيحي . فماذا عن البتولية في الفكر المسيحي ؟
تعريف البتولية :
1- بالتعريف المجرّد . البتولية هي النقاوة والصفاء الذي لا تطاله شابئة غريبة .
2- بالتعريف الديني . البتولية هي النقاوة التي لا يطالها فساد ذهنياً وجسدياً .
- البتولية الذهنية : هي الصفاء الذي يظل يتحلى به ذهن المؤمن . كيف ذلك ؟
إن المطلوب إلهياً هو أن يكون ذهن الإنسان صفحة لا يكتب فيها إلا ما ترتضيه مشيئة الله ، ولذا فإن حدث وكُتِبَ فيها ما لا ترتضيه مشيئته الإلهية فهذا يعني أنه خسر صفاءه الذهني ولم يعد ذهناً بتولاً ، ونجد مثالاً في الإصحاح الثاني من سفر التكوين أن الله منذ البدء حينما خلق الإنسان خلقه في حالة بتولية ذهنية ، ولذا فحينما أعطى آدم الوصية فإنه تبارك اسمه خاطب الذهنية البتول التي فيه إذ قال : من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، وهذه الوصية بحد ذاتها كانت تتضمن في طياتها إشارة إلى أن ما يجب أن يكون في ذهن الإنسان هو ما يتوافق مع مشيئة الله الصالحة . ولذا فحينما وقع الإنسان لم يعد الله يكلم تلك الذهنية البتول فيه لأنها لم تظلّ بتولاً بل تكلم مع الذهنية التي فسدت ، وحينما ردَّ الإنسان على مخاطبة الله له صار يردّ من تلك الذهنية التي لم تظل بتولاً فنجده يتهرب من سؤال الله والجواب عليه لأنه اكتشف أنه لم يعد يملك ذهناً بتولاً لله .
كما أننا يجب أن نضيف ملاحظة هامة وهي أن الله خلق الإنسان في حالة بتولية ذهنية دون أن يخلقه في حالة بتولية جسدية بدليل أنه تعالى خلق آدم وأوجد له حواء وقال لهما أثمروا واكثروا واملأوا الأرض .
وفي العهد الجديد لنا أمثلة كثيرة على بتولية الذهن منها أن بطرس الرسول حينما كان ذهنه صافياً استحق أن ينال إعلانا من السماء عن أن المسيح هو ابن الله مما جعل يسوع يثني على إيمانه ويسميه بالصخرة إذا قال له : طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحما ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات . وأنا أقول لك أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ................. ( مت 16: 13-20 ) . ولكن حينما دخلت شوائب الحياة الاجتماعية إلى ذهن بطرس التي لم تكن تتوافق مع مشيئة الله فإنه استحق أن يسمع تعنيفاً شديداً من رب المجد إذ قال له : اذهب عنّي يا شيطان فأنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس ( مت 16: 21-23 )
وذات الشيء تكرر مع بطرس أيضاً حينما أراد أن يمشي على الماء فكان له ما أراد ثم ما لبث أن بدأ يغرق فقال له رب المجد : لماذا شككت يا قليل الإيمان ( مت14: 31 ) أي لماذا أفسدت ذهنك بالخوف بعد أن كان ذهناً بتولاً لي .
- البتوليةالجسدية : هي الحفاظ علي الجسد من شهواته الحيوانية وبخاصة الجنسية وإن صورة البتولية الجسدية هي عدم الزواج أو القيام بأي فعل من شأنه أن يجعل البتول متزوجاً أو كأنه قد تزوج .
إن الله تبارك اسمه لأنه إله حنون لم يشأ أن يظل الإنسان مأسوراً بقيود الشيطان والخطية والموت لذا فإنه رسم أن يعود هذا الإنسان ثانية إلى هيئة المجد الإلهي . لكن العودة كان يلزمها توافر بتولية جديدة كاملة وهي ( بتولية الذهن وبتولية الجسد ) وهذا ما تمّ فإن كلمة الله المنزه عن الخطية ( وهذه صورة البتولية الذهنية ) تجسد ولم يتّخذ له امرأة ( وهذه هي صورة البتولية الجسدية ) . أي أنه له المجد بتأنسه جمع بين صورتي البتولية الكاملة ( الذهنية والجسدية ) .
وبما أنه له المجد هو الله جاء يدعو ويكرز بملكوت الله لذا كان يلزم لبتوليته الذهنية والجسدية أن يولد من عذراء بتول تجمع البتوليتين بصورة دائمة غير منقطعة .
لماذا صورتي البتولية ( الذهنية والجسدية ) ؟
لأنه من سيدخل إلى ملكوته الإلهي الأبدي سيكون من الناحية الذهنية بتولاً إلى الأبد وهذا ما يتضح من سفر الرؤيا الذي يشير إلى هذه الفكرة حينما يصف ملكوت الله بأنه لا خوف فيه ولا حزن ولا تعب ولا ........... ولا يدخله دنس ولا رجس ولا كاذب ولا .................. ( رؤ21 ) . وأما من الناحية الجسدية فقد قال له المجد : لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائة الله في السماء ( مت22: 30 ) .
أي أن ملكوت الله هو ملكوت بتول بتوليته كاملة بصورتيها وذلك لأنه ملكوت دائم إلى أبد الآبدين وهذا ما يجعلنا أن ننتبه إلى إستنتاج هام ألا وهو أن ما هو فاسد ليس دائمٌ بل هو وقتي لا يؤدي إلى الحياة أي ما ليس بتول ليس دائمٌ بل لابد له أن يموت وهذا ما أكده المسيح وبخاصة ما يتعلق بالزواج حينما قال : الذين حسبوا أهلاً للحصول على الدهر والقيامة من بين الأموات لا يزوجون ولا يتزوجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ( لو20: 35- 36 ) .
كما لا يفوتنا أن نذكر أن ربنا يسوع المسيح أكدّ بالحرف والمعنى أن الأساس الذي يقوم عليه ملكوت الله هو البتولية حينما قال : يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم ، ويوجد خصيان خصاهم الناس ، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات ، من استطاع أن يقبل فليقبل ( مت19: 12 ) وإذ أن الكنيسة هي المرحلة الأولى لملكوت الله لذا فإن هذه الكنيسة أساسها أيضاً هو البتولية ومن أجل ذلك وجدت المسيحية على ثلاث أسس من البتولية وهي ( المسيح ، العذراء ، الكنيسة )
نعم لقد كان اجتماع بتولية المسيح الكاملة مع البتولية الكاملة لأمه العذراء أروع صورة للبتولية شهدها التاريخ وكانت نقطة انطلاق للكنيسة البتول . وهكذا فإن هذه البتولية الثلاثية الأقطاب ( المسيح . العذراء . الكنيسة ) شكلت وحدة متكاملة لصورة ملكوت الله البتول ، بمعنى أنه إن سقط أحد أقطاب هذه البتولية فإن كامل صورة ملكوت الله سوف تسقط ولا يعود الملكوت ملكوتاً ، وإذا لم يعد الملكوت ملكوتاً فإن المسيح لم يأت بعد ، وإذا كان المسيح لم يأت بعد فإن إيماننا باطلٌ ورجاؤنا باطلٌ أيضاً . لكن الحقيقة هي أن المسيح قد جاء وإيماننا بذلك راسخ بدليل أنه لا تزال تحدث في كنائسنا المعجزات الإلهية التي أن الغاية الرئيسة منها هي إثبات صحة المعتقد والإيمان .
وهنا نأتي إلى الوسيلة : فالوسيلة تستخدم لأجل غاية ، وإن غاية هؤلاء هي تشويه صورة المسيح ووسيلتهم في ذلك هي هذه الفكرة التي أطلقوها عن المسيح بأنه تزوج من المجدلية ( حاشا ) لأنهم إن استطاعوا أن يقنعوا البشر بذلك يكونون قد نجحوا في إسقاط أحد أقطاب ملكوت الله الثلاثة وهو ( بتولية المسيح ) وكما ذكرنا إن سقط أحدها سقط ملكوت الله ولم يعد ملكوتاُ وبالتالي فالمسيحية ليست مسيحية وكأن المسيح لم يأت بعد .
دعوة : لنثبت في إيماننا المسيحي ومعتقد فكرنا المسيحي ولا ننخدع فإن الرسول بولس يقول : بالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء ( رو16: 18 ) .
انتباه : نحن قلنا إن الأساس الذي يقوم عليه ملكوت الله هو البتولية الثلاثية الأقطاب ( المسيح ، العذراء ، الكنيسة )
وإن بتولية المسيح كاملة بصورتيها الذهنية والجسدية أي أنه لم يتزوج .
وإن يتولية العذراء كاملة أيضاً بصورتيها الذهنية والجسدية أي أنها لم تتزوج .
وأما الكنيسة فإذ هي ليست فرداً واحداً لذا فإن بتوليتها تعني ما عناه ربنا يسوع المسيح حينما قال لبطرس أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي ، أي لا شائبة تصل وتنقص أو تخلخل أو تلغي إيمان الكنيسة فكما تتسلمه من المسيح سيظل هكذا إلى الأبد إن التزم الناس بهذا أو لم يلتزموا . ولا تعني بتولية الكنيسة امتناع أبناءها عن الزواج كلا فإن بتوليتها هي بتولية إيمانية فكرية ، وذلك لأنه لو أحجم أبناؤها عن الزواج لماتت بموتهم جميعاً لعدم إنجاب البنين الناجم عن عدم الزواج .
أخيراً لابد أن نجيب على سؤال قد يطرح ذاته ليقول : إذا كانت للبتولية هذه الأهمية المطلقة والرئيسة في العقيدة المسيحية وملكوت الله . فلماذاً ليست وصية مثلها مثل غيرها من الوصايا ؟
الجواب :
1- لو أن البتولية نزلت كوصية لما كانت هناك كنيسة لأن في تطبيقها امتناعاً لأبناء الكنيسة عن الزواج وبالتالي توقف إنجاب البنين وماتت الكنيسة .
2- إن البتولية هي أسمى من الوصية وهي دعوة من الله بحسب ما يقول الرسول بولس
: لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا ( كان بولس بتولاً لم يتزوج ) لكن ! كل واحد له موهبته الخاصة من الله ، الواحد هكذا والآخر هكذا ( 1كو7: 7) .
وهنا تظهر مسألة وهي حينما قلنا أن البتولية هي أحد الأسس الذي يقوم عليها ملكوت الله فإن القصد هو أن كنيسة المسيح التي هي المرحلة الأولى لملكوت الله يجب أن تدار بالبتولية ، أي أن رؤساءها على الأقل يجب أن يكونوا بتولين وأما عامة الرعية فليس مفروضاً عليهم رسم البتولية ولنا في المسيح والرسل الاثني عشر مثالاً ، فقد كان له المجد بتولاً وبعضاً من الاثني عشر وأما البعض الآخر فكان متزوجاً .
نظرة عامة إلى مسألة البتولية في الكتاب المقدس
أولاً في العهد القديم :
1- كان للبتولية السابقة للزواج في العهد القديم تقديراً عالياً وقداسة إلى درجة أن الكاهن أو رئيس الكهنة لم يكن مسموحاً لهما أن يتزوجاً إلى من فتاة بتول عذراء . وهذا ما نجده في سفر اللاويين حيث يقول الرب الإله : والكاهن الأعظم بين اخوته الذي صبّ على رأسه المسحة .... لايكشف ....... لا يأتي ..... لا يخرج ....... لأن أكليل مسحة إلهه هي عليه .... هذا يأخذ امرأة عذراء . أما الأرملة أو المطلقة والمدنسة والزانية فمن هؤلاء لا يأخذ ............. ( لا21: 10 - 14 ) .
وفي حزقيال يقول الرب الإله عن الكهنة عامة : لا يأخذون أرملة ولا مطلقة زوجة بل يتخذون عذراى من نسل ............... ( حزقيال 44 : 22 ) .
2- هناك إشارة إلهية خفية إلى أن الزواج والخصوبة الناتجة عنه لا شأن لها في تحقيق وعد الله الخاص بمجيء المسيح الذي ضربه لابراهيم . وربّ سائل يقول لماذا : لأن المسيح كان معلوماً أنه سيكون بتولاً ودعوته دعوة بتول وملكوته ملكوت بتول . ولنا أمثلة نذكر بعضاً منها .
- ابراهيم وزوجته سارة لم ينجبا أولاداً مع أن الوعد أعطي أولاً لابراهيم ( بنسللك تتبارك جميع قبائل الأرض ) وحينما وصلاً إلى سن تنعدم فيه الشهوة الجنسية ويلغى الاتصال الجنسي تدخل الله فحبلت سارة بابنها اسحق . أي أن اسحق لم يكن ثمرة طبيعية لزواج سارة من ابراهيم . وهكذا قل عن زكريا وزوجته اليصابات وولادتهما ليوحنا المعمدان في شيخوختهما ...
3- رمّز أشعياء النبي بالزواج بين شاب وفتاة عذراء إلى العرس بين الله وشعبه ( أشعياء62: 5 ) .
ثانياً : العهد الجديد .
1- إن اتحاد المسيح بالكنيسة هو اتحاد بتولي . فكما يجب على الفتاة أن تصون بتوليتها وعذراويتها بكل قداسة وطهارة لتقدمهما هدية لعريسها في يوم زفافها ، هكذا الكنيسة تحافظ على بتوليتها إيماناً وفكراً وعبادة ، لتزفّ إلى عرس المسيح الأبدي وهذا مما أشار إليه الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس ( أف5: 22-33 ) وكذلك في ( 2كو11: 2 )
2- تبدأ بتولية الكنيسة عند نقطة الاتصال بين العهدين في مريم العذراء البتول . وذلك لأن مريم العذراء انطبقت عليها تماماً صفة وتسمية العذراء بصورتيها الذهنية والجسدية . هذه البداية هي التي أشار إليها لوقا في الإصحاح الأول من انجيله بالقول : أرسل جبرائيل إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم .
كما أشار إلى اتحاد بتوليتها مع بتولية الله الكلمة بقوله :
- مباركة أنت في النساء .
- ستحبلين وتلدين ابنا وتدعين اسمه يسوع . هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى .
- وحينما استغربت كيف أنها ستحبل وهي ليست متزوجة ولا تنوي الزواج قال لها الملاك : الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك ابن الله يدعى .
وهكذا في بتولية أمنا العذراء كمل ذلك الإعداد الطويل المدى للبتولية خلال العهد القديم وفيها ظهر بوضوح المعنى الحقيقي للبتولية وهو انفتاح عالم جديد في مجرى التاريخ هذا العالم الجديد هو ملكوت الله بمرحلتيه الزمنية ( الكنيسة ) والأبدية .
3- أكدّت المسيحية حقيقة أن البتولية هي صورة العلاقة بين المسيح والكنيسة .
- من جهة هي دعوة شخصية من الله وعطية من الروح القدس ( راجع 1كو7: 7 ) .
- البتولية هي نعمة فائقة وهذا ما أكده ربنا يسوع المسيح في ردّه على التلاميذ الذين قالوا إن كان هذا هو حال الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوجا فأجاب : ليس الجميع يقبلون هذا الكلام ( أي عدم التزوّج ) بل الذين أعطي لهم ( مت19: 11 )
- يفضل الرسول بولس البتولية على التزوج لأن البتولية هي تكريس الذات لله إذ قال : غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب وأما المتزوج فيهتم للعالم كيف يرضي امرأته ( 1كو7: 32 ) .
- إن عبارة المسيح : يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله تعطي البتولية بعدها الحقيقي الذي هو بعد الملكوت ( مت19: 12 ) لأن صورة الزواج مرتبطة بالعالم الحاضر الذي سيزول وأما صورة البتولية فهي مرتبطة بالعرس الإلهي الأبدي في ملكوت السماء ولنا في ذلك تأكيد هو مثل العذارى الخمس الحكيمات اللواتي دخلن مع العريس وأغلق الباب إلى الأبد ( مت25: 1-13 ) .
أرجوا أن يكون ربنا يسوع المسيح قد وفقني في عرض هذا الموضوع وليس كاملاً إلا الله . نعمته تشمل جميع أبناء الكنيسة بشفاعة أمنا العذراء والقديس مار أسيا الحكيم إنه السميع المجيب آمين .