المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي


fouadzadieke
23-08-2005, 03:02 PM
طبائع الاستبداد

لعبد الرحمن الكواكبي





لا خفاء أن السياسة علم واسع جداً ينقسم إلى فنون كثيرة ومباحث شتى وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه .

ونظرا إلى مبنى علم السياسة على تعريفه بانه هو " ادارة الشئون المشتركة بمقتضى الحكمة " يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها " الاستبداد " أى التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى .

وأنى أرى أن المتكلم في هذا البحث عليه أن يلاحظ تعريف وتفصيل " ما هو الاستبداد ؟ ما سببه ؟ ما اعراضه ؟ ما تشخيصه ؟ ما سيره ؟ ما انذاره ؟ ما دواؤه ؟ " وكل موضوع من ذلك يتحمل تفصيلاً كثيراً وبعضه يتحمل سفرا كبيرا .

وهذه المباحث من حيث مجموعها تنطوى على مسائل كثيرة أسرد منها بعض الأمهات وهى : ما طبيعة الاستبداد - لماذا يكون المستبد شديد الخوف - لماذا يستولى الجبن على رعية المستبد - ما تأثير الاستبداد على الدين ؟ على العلم - على المجد - على المال - على الأخلاق - على الترقى - على التربية - من أهم أعوان المستبد - هل يتحمل الاستبداد - كيف يمكن التخلص من الاستبداد - بماذا ينبغى استبداد الاستبدال - ما هى طبائع الاستبداد .

ثم انى قبل الخوض في هذه المسائل ألخص النتائج التى تستقر عندها أفكار المتكلمين فيها وهى نتائج متحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين .

فيقول المادى . الداء القوة والدواء المقاومة : ويقول السياسي : الداء استبعاد البرية والدواء استرداد الحرية .

ويقول الحكيم : الداء القدرة على الاعتساف والدواء الاقتدار على الاستنصاف . ويقول الحقوقى : الداء تغلب السلطة على الشريعة والدواء تغليب الشريعة على السلطة . ويقول الربانى : الداء مشاركة الله في الجبروت والدواء توحيد الله حقا .

هذه أقوال أهل النظر وأما أهل العزائم - فيقول الأبي الداء مد الرقاب للسلاسل والدواء الشموخ عن الذل . ويقول الشهم : الداء التعالى على الناس باطلا والدواء تذليل المتكبرين . ويقول المتين : الداء وجود الرؤساء بلا زمام والدواء ربطهم بالقيود الثقال . ويقول المفادى : الداء حب الحياة والدواء حب الموت .

ما هو الاستبداد ؟

الاستبداد لغة هو اقتصار المرء على رأى نفسه فيما ينبغى الاستشارة فيه .

يراد بالاستبداد عند اطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها هى أقوى العوامل التى جعلت الانسان أشقى ذوى الحياة وأما تحكم رؤساء بعض الأديان وبعض العائلات وبعض الأصناف فيوصف بالاستبداد مجازا أو مع الاضافة .

وفى اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خرف تبعه .

وقد تطرق مزيدات على هذا المعنى فيستعلمون في مقام كلمة ( الاستبداد ) كلمات استعباد . واعتساف . وتسلط . وتحكم . وفى مقابلتها شرع مصون . وحقوق محترمة . وحس مشترك . وحياة طيبة .

ويستعملون في مقام صفة ( مستبد ) كلمات حاكم بأمره ، وحاكم مطلق ، وظالم وجبار ، وفى مقابلة حكومة مستبدة كلمات عادلة . ومئولة . ومقيدة . ودستورية .

ويستعملون في مقام صفة ( مستبد عليهم ) كلمات أسرى وأذلاء . ومستصغرين . ومستنبتين (1) وفى مقابلتها محتسبون . وأباة . واحرار . وأحياء .

هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات وأما تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان التى تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين .

ومنشأ الاستبداد أما هو من كون الحكومة غير مكلفة بتطبيق تصرفاتها على شريعة أو على أمثلة أو على ارادة الأمة وهذه حالة الحكومات المطلقة . وأما من كونها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها أبطال قوة القيد بما تهوى وهذه حالة اكثر الحكومات التى تسمى نفسها بالمقيدة .

(1) الاستنبات أو التنبت من اصطلاحات سواس الأفرانج يريدون به الحياة الشبيهة بحياة النبات .

وأشكال الحكومة المستبدة كثيرة ليس هذا البحث محل تفصيلها . ويكفى هنا الاشارة إلى ان صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذى تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب ، وكذلك تشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الراى لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعا وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد .

ويشمل ايضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ لأن ذلك ايضا لا يرفع الاستبداد ولا يخففه مالم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التى تعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب .

وخلاصة ما تقدم أن الحكومة من اى نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التى لا تسامح فيها كما جرى في صدر الإسلام فيما نقم على عثمان بن عفان رضى الله عنه وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس .

ومن الأمور المقرر أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو اغفالها الا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفى خدمتها شيء من القوانين الهائلتين المهولتين جهالة الأمة والجنود المنظمة .

ولا يعهد في تاريخ حكومة من الحكومات المدنية استمرار حكومة مسئولة اكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف .

وما شذ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في انكلترا والسبب يقظة الانكليز الذين لا يسكرهم انتصار، ولا يخملهم انكسار .

وهذه حضرة الملكة فيكتوريا لو تسنى لها الاستبداد الآن لغنمته ولو لأجل عشرة أيام من بقية عمرها . ولكن هيهات أن تظفر بغرة من قومها تستلم فيها زمام الجيش .

أما الحكومة البدوية التى تتألف رعيتها كلها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية يسهل عليهم الرحيل والتفرق متى مست حكومتهم حريتهم وسامتهم ضيما ولم يقووا على الاستنصاف فهذه الحكومات قلما اندفعت إلى الاستبداد .

وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب فانهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن الا فترات قليلة .



وقد تكلم الحكماء لا سيما المتأخرون في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تصور في الأذهار شقاء الانسان كأنها تقول له هذا عدوك فانظر ماذا تصنع . ومن هذه الجمل قولهم :

" المستبد يتحكم في شئون الناس بارادته لا بارادتهم ويحاكمهم بهواء لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدى فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعى لمطالبته " .

" المستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتلها والحق أبو البشر والحرية أمهم والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا والعلماء هم اخوتهم الراشدون ان ايقظوهم هبوا وان دعوهم لبوا " .

" المستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزا فلو رأى الظالم على الجنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم كما قيل الاستعداد للحرب يمنع الحرب " .

" المستبد إنسان مستعد بالفطرة للخير فعلى الرعية أن تكون مستعدة لأن تعرف ما هو الخير وما هو الشر .

مستعدة لأن تقول لا أريد الشر . مستعدة لأن تتبع القول بالعمل على أن مجرد الاستعداد للفعل يكفى شر الاستبداد .

المستبد إنسان والانسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب .

فالمستبد يود ان تكون رعيته كالغنم درا وطاعة وكالكلاب تذللا وتملقا . وعلى الرعية أن تكون كالخيل أن خدمت وأن ضربت شرست بل عليها أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة للمستبد أم هى جاءت به ليخدمها فاستخدمها . والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه فان شمخ هزت به الزمام وان صال ربطته وفى هذا المقدار كساية لمعرفة ما هو الاستبداد بالاجمال والمباحث الآتية كافلة بالتفصيل .


ويقولون ان المستبدين من السياسين يبنون استبدادهم على أساس من هذا القبيل ايضا لأنهم يسترهبون الناس بالتعالى الشخصى والتشامخ الحسى ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم كانهم خلقوا من جملة الأنعام نصيبهم من الحياة ما يقتضيه حفظ النوع فقط .

ويرون ان هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين الدينى والسياسى جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركين في العمل كانهما يدان متعاونتان . وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنهما القلم والقرطاس اذا استعملا في تسجيل الشقاء على الناس .

ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجز بعوام البشر وهم السواد الأعظم إلى التباس الاله المعبود والجبار عليهم واختلاطهما في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق التعظيم والرفعة عن السؤال والماخذة على الأفعال . بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقا في مراقبة المستبد .

وبعبارة أخرى لم يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات وهم ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره وبين " لا يسئل عما يفعل " و " غير مسئول " وبين " المنعم وولى النعم " وبين " جل شأنه " و " جليل الشأن " بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله .

وهذه الحالة هى التى سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين الالوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية حتى يقال انه ما من مستبد سياسي الا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذى علاقة مع الله .

ولاأقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله .

ويعللون ان قيام المستبدين من أمثال " أبناء داوود وقسطنطين " في تأييد نشر الدين بين رعاياهم وانتصار مثل " فليب الثانى " الأسبانى و " هانرى الثامن " الانكليزى للدين حتى بتشكيل مجالس انكليزسيون وكالحاكم الفاطمى والسلاطين الأعاجم المنتصرين لغلاة الصوفية والبانين التكايا لم يكن ذلك كله الا بقصد الاستعانة بالدين أو بأهل الدين على ظلم المساكين .

ويحكمون بأن بين الاستبداديين السياسي والدينى مقارنة لن تنفك متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر اليه أو متى زال رفيقه وان ضعف اى صلح احدهما صلح الثانى .

وشواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان وكلها تبرهن على أن الدين أقوى تأثيرا من السياسة ويمثلون بالسكسون فان البروتستانتية أثرت في الاصلاح السياسى أكثر من تأثير الحرية السياسية عند الكاثوليك .

والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون ان السياسة والدين يمشيان متكاتفين أن اصلاح الدين أسهل منالا وأقوى وأقرب طريقا للاصلاح السياسى .

ويرون ان اول من سهل هذا المسلك حكماء اليونان حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بأحيائهم عقدة الاشتراك في الالوهية أخذوها عن الأشوريين ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة باله والحرب باله والبحار باله والأمطار باله إلى غير ذلك من التوزيع وجعلوا لاله الالهه حق النظارة عليهم وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم .

وبعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان بما ألبست من سحر البيان سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد وبأن تكون ادارة الأرض كادارة السماء فأنصاع ملوكهم لذلك مكرهين . وهذه الوسيلة العظمى التى مكنت اليونان أخيرا من اقامة جمهوريات أثينا وأسبارطة .

وكذلك فعل الرومان وهذا الاصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الادارة في الحكومات الملكية والجمهورية على انواعها إلى هذا العهد.

الاستبداد والعلم

ما اشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصى الخائن القوى على أيتام أغنياء . يتصرف في اموالهم وانفسهم كما يهوى ماداموا قاصرين فكما أنه ليس من صالح الوصى ان يبلغ الأيتام رشدهم كذلك ليس من غير المستبد أن تتنور الرعية بالعلم .

لا يخفى على المستبد أن لا استبعاد ولا اعتساف مالم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه وعماء . فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل .

والعلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافا مبصرا ولادا للحرارة والقوة وجعل العلم مثله وضاحا للخير فضاحا للشر يولد في النفوس حرارة وفى الرؤوس شهلمة .

المستبد لا يخشى علوم اللغة المقومة للسان اذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الالوية أو سحر بيان يفل الجيوش لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان أومونتسكيو وشيللار .

وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم فاذا نبغ فيهم البعض ونالوا شهرة بين العوام لايعدم وسيلة لاستخدام في تأييد أمره بنحو سد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد .

نعم ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم المسبقة الشموس المحرقة الرؤوس .

ويقال بالاجمال ان المستبد لا يخاف من العلوم كلها بل من التى توسع العقول وتعرف الانسان ما هو الانسان وما هى حقوقه وهل هو مغبون وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ . المستبد عاشق للخيانة والعلماء عواذلة . المستبد سارق ومخادع والعلماء منبهون محذرون وللمستبد اعمال وصوالح لا يفسدها عليه الا العلماء .

المستبد كما يبغض العلم لنتائجه لذاته لأن للعلم سلطان أقوى من كل سلطان فلابد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينيه على من هو أرقى منه علما . ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم اذكى فاذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار المتصاغر المتملق ، وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله " فاز المتملقون " بل هذه طبيعة في كل المتكبرون وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكينا خاملا لا يرجى لخير ولا لشر .

وينتج مما تقدم ان بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطردا مستمر يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في اطفاء نوره والطرفان يتجاذبان العوام ومن هم العوام ؟ هم أولئك الذين اذا جهلوا خافوا واذا خافوا استسلموا، وهو الذين متى عملوا قالوا ومتى قالوا فعلوا .

العوام هم قوت المستبد وقوته بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول . يأسرهم فيهللون لشوكته ويغصب أموالهم فيحمدونه على ابقاء الحياة ويهينهم فيثنون على رفعته ويغرى بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته واذا اسرف بأموالهم يقولون عنه أنه كريم واذا قتل ولم يمثل يعتبرونه رحيما ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب وان نقم عليهم منهم الاباه قاتلوهم كأنهم بغاة .

والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشيء عن الجهل فاذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع اى انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب ورئيس عادل يخشى الانتقام وأب رحيم يتلذذ بالتحابب .

وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية . حياة رخاء ونماء ، حياة عز وسعادة ، ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد لأنه كان على الدوام محاطا بالعداء ملحوظا بالبغضاء غير آمن على حياته طرفة عين .

ولا شك أن خوف المستبد من نقمة رعيته اكثر من خوفهم بأسه لأن خوفه ينشأ عن علم وخوفهم ناشيء عن جهل ، وخوفه من انتقام بحق وخوفهم عن توهم التخاذل ، وخوفه على فقد حياته وسلطانه وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام .

وكلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته وحتى من هواجسه وخيالاته ، وكثيرا ما تختم حياة المستبدين الضعيفى القلوب منهم بالجنون .

ومن قواعد المؤرخين المدققين ان احهم اذا اراد الموازنة بين مستبدين كثيرين وتيمور مثلا يكفى أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذر والتحفظ واذا اراد المtاضلة بين عادلين كانوا شروان وصلاح الدين يوازن مرتبتى أمنهما في قوميهما .

لما كانت الديانات القديمة مؤسسة على مبدأ الخير والشر كالنور والظلام والشمس وزجل والعقل والشيطان رأت بعض الأمم الغابرة أن أضر شيء على الانسان هو الجهل وأضر آثار الجهل هو الخوف فعملت هيكلا مخصصا للخوف يعبد اتقاء لشره



احد المحررين السياسيين انى ارى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه ، فالملك الجبار هو المعبود وأعوانه هم الكهنة ومكتبته هى المذبح المقدس والأقلم هى السكاكين وعبارات التعظيم هى الصلوات والناس هم الآسرى الذين يقدمون قرابين .

ويقول أهل النظر في أحوال البشر ان خير ما يستدل به على صفة السياسة في الأمم شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسم التشريفات .

يقولون انه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستبداد أو الحرية باستنطاق لغتها هل هى كثيرة ألفاظ التعظيم غنية في عبارات الخضوع كالفارسية مثلا أم فقيرة في هذا الباب كالعربية .

والخلاصة ان الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل ادارة مستبدة تسعى جهدها في اطفاء نو العلم وحصر الرعية في حالك الجهل ، وكذلك بعض العلماء الذين ينبتون في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس ، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره وهذا سبب ان كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام واكثر العلماء والاعلام والادباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء .

قال المدققون ان اخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم ان يعرف الناس حقيقة ان الحرية افضل من الحياة وان يعرفوا النفس وعزها والشرف وعظمته والحقوق وكيف تحفظ والظلم وكيف يرفع والانسانية وما هى وظائفها والرحمة وما هى لذاتها .

أما المستبدون الشرقيون وخوفهم من العلم فافئدتهم هواء يرتجف من صولة العلم وكان أجسامهم من بارود والعلم نار .

نعم يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة " لا إله الا الله " ولماذا كانت افضل الذكر ولماذا بنى عليها الإسلام .

بنى الإسلام بل وكافة الاديان على أنه لا إله إلا الله ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سواه اى سوى الصانع الأعظم ومعنى العبادة التذلل والخضوع فيكون معنى لا اله الا الله " لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله " فهل والحالة هذه يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك ويعلموا بمقتضاه كلا ثم كلا .

حتى ان هذا العلم لا يناسب صغار المستبدين كخدمة الأديان الأقوياء أو الأغنياء والآباء الجهلاء والزواج الحمقاء ورؤساء كل الجمعيات الضعيفة ، ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط الا وتكسرت فيها قيود الأسر ولكن قتل الانسان ما أكفره بنعم مولاهوما أظلمه لنفسه وجنسه .

الاستبداد والمجد

من الحكم البليغة للمتأخرين قولهم " الاستبداد أصل لكل فساد " ومبنى ذلك ان البحث المدقق في احوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للأستبداد أثر سيئا في كل واد .

وقد سبق ان الاستبداد يضغط على العقل فيفسده ، وانى الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد .

المجد هو احراز المرء مقام حب واحترام في القلوب وهو مطلب طبيعى شريف لكل إنسان لا يترفع عنه نبى أو زاهد ولا ينحط عنه دنى أو خامل . للمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند المتفانين في الله وتعادل لذة العلم عند الحكماء وتربو على لذة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء وتزيد على لذة مفاجأة الاثراء عند الفقراء ولذا يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة .

ولذا طالما اشكل على الباحثين اى حرصين أقوى ؟ حرص الحياة ام حرص المجد ؟ والحقيقة التى عول عليها المتاخرون وميزوا بها تخليط ابن خلدون هى ان المجد مفضل على الحياة عند الأحرار ، وحب الحياة ممتازة على المجد عند الاسراء ،وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت عليهم الصلاة والسلام معذورون في القائهم بانفسهم في المهالك لأنهم لما كانوا أحرار ابرارا يميزون طبعا الموت كراما على حياة ذل ورياء مثل حياة ابن خلدون الذى خطأ امجاد البشر في أقدامهم على الخطأ ناسيا تقريره ان سباع الطير والوحوش تابى في اقفاص الأسر بل وجدت فيها طبيعة اختيار الانتحار تخلصا من قيود الذل .

المجد لا ينال الا بنوع من البذل في سبيل الجماعة وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدين ،وبتعبير الغربيين في سبيل الانسانية أو سبيل الوطنية والمولى تعالى المستحق التعظيم لذاته ما طالب عبيده بتمجيده الا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم .

وهذا البذل أما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم وهو اضعف المجد أو بذل العلم النافع المفيد للجمعية ويسمى مجد الفضيلة أو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصر الحق وحفظ النظام ويسمى مجد النبالة ، وهذا أعلى المجد وهو المراد عند الاطلاق ، وهو المجد الذى تتوق اليه النفوس الكبيرة وتحن اليه اعناق النبلاء ، وكم له من عشاق لذت لهم في حبه الشهادة وأكثرهم يكون من مواليد بيوت الشرف التالد الذى يتصل أولهبعهد الحرية والعدل أو يكون من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين انقطاعا طويلا ومن امثلة المجد قولهم خلق الله للمجد رجالا يستعذبون الموت في سبيله .

وهذا " نيرون " سأل " آغريين " الشاعر وهو تحت النطع من أشقى الناس ؟ فأجابه معرضا به من اذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالا له في الخيال ، وكان " ترابان " العادل اذا قلد سيفا لقائد يقول له هذا سيف الأمة ارجو أن لا اتعدى القانون فلا يكون له نصيب في عنقى وخرج قيس من مجلس الوليد مغضبا يقول اتريد أن تكون جبارا والله ان نعال الصعاليك لأطول من سيفك ، وقيل لأحد الأباه ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك فقال ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين ، وقال آخر على أن أفى بوظيفتى وما على ضمان القضاء ، وقيل لأحد النبلاء لماذا لا تبنى لك دارا فقال ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبو .

وهذه ذات النطاقين " أسماء بنت أبى بكر " رضى الله عنها ، وهى امرأة عجوز تودع ابنها الوحيد بقولها ان كنت على الحق فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت .

والحاصل ان المجد هو المجد محبب للنفوس لا تفتأ تسعى وراءه وترقى وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الامكان .

ويقابل المجد من حيث مبناه التمجد وما هو التمجد ؟ وماذا يكون التمجد ؟ التمجد لفظ هائل المعنى ولهذا أرانى أتعثر بالكلام واتلعثم في الخطاب لاسيما من حيث اخشى مساس احساس بعض المطالعين ان لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة أجدادهم الأولين فاناشدهم الوجدان والحق المهان ان يتجردوا دقيقتين من النفس وهواها ثم هم مثلى ومثل سائر الجانين على الانسانية لا يعدمون تأويلا ، واننى اعلل النفس بقبولهم تهوينى هذا فأنطلق وأقول :

التمجد خاص بالادارات المستبدة وهو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق وبارون والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل وبتعريف آخر التمجد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف الانسانية .

وبتوصيف أجلى هو أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد أويعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجد أنه المستبيح للعدوان أو يتحلى بسيور مزركشة تنبىء بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال ، وبعبارة أوضح وأخصر هو أن يصير الانسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم