hasaleem
11-01-2013, 07:12 PM
الفنّ اللغوي الحروفي
جوهر الفنون التّشكيليّة القديمة والحديثة والمعاصرة
بقلم: حسين أحمد سليم
الفنّ اللُغوي, أو ما يصحّ تسميته بالفنّ الحروفي, أو الفنّ اللُغوي الاحروفي, هو فنّ تشكيليّ عربي قديم وعريق في هذا الشّرق, عراقة وقدم فنّ الزّخرفة... وُلد هذا الفنّ الحروفي, مع حركة فعل إجتراح حروف المنظومة الهجائيّة الضّاديّة, من قبل مخترعيها ومبتكريها الأوائل: أبجد, هوّز, حطّي, كلمن, سعفص, قرشت, ثخذ, ضظغلا... بحيث تبلور هذا الفنّ فيما بعد, مع كلّ شكل من أشكال الحروف الأبجديّة, وكانت تنويعات لافتة ورائعة في عمليّات تشكيل وكتابة هذه الحروف على أسس ومباديء ضابطة, نسخ وثلث ورقع وديواني وتعليق وكوفي وتاجي وهندسي... هذا الفنّ العربي الشّرقي الذي له دلالاته الخاصّة وله نكهته الخاصّة, أيضا له لغته الخاصّة وصوته الخاصّ وتشكيله الخاصّ... والحوار الفنّي الحروفي التّشكيلي, يكون من خلال التّفاعل مع عناصر كلّ حرف من منظومة هذه الحروف الضّاديّة مباشرة, ومحاولة فهم هذا الفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي من خلال لغته ومن خلال صوته ومن خلال روحيّته...
الفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي, هو ذلك الفنّ العربي الشّرقي العريق والقديم, الذي نريد له أن يكون سمة هذا الشّرق وهويّة هذا الشّرق وماهيّة هذا الشّرق... ولسنا في تسليط الضّوء على هذا الفنّ اللُغوي الحروفي العربي الشّرقي التّشكيلي العريق والقديم, نطمح لولوج فلك فنّ تشكيلي جديد من كوّة حقب الأمس الشّرقي العربي, أو من زاوية الماضي البعيد للفنون الشّرقيّة العربيّة, ولسنا بصدد ريادة فضاءات فنّ لُغوي حروفي تشكيلي جديد بنفس المفهوم الذي نحمله في وجداننا بالنّظر إلى معالم الفنّ الماضي... فاللغة التي ورثناها وتعلّمناها عن السّلف, وإتّقنّا حروفيّاتها وحفظنا أشكالها وتموسقنا بأصواتها, قد لا تسمح لنا في عمليّة فعل الحوار الفنّي التّشكيلي, إلا من حلال أشكالها ومبادئها وقواعدها المعروفة... ولكن يُمكننا القيام بحركة فعل الجرأة وإقتحام ما لا يُسمح بإقتحامه, وإبتكار أشكال جديدة مستحدثة في محاكاة عصريّة, تعكس حالات التّطوّر والتّحديث الشّكلي لمنظومة أبجديّة الحروف الضّاديّة, وبالتّالي صناعة اللوحة الفنّيّة الحروفيّة التّشكيليّة العصريّة...
إذا فهمنا أنّ الفنّ الحروفي الشّرقي, هو الكينونة الفنّيّة التّشكيليّة, التي تتراءى لنا في فلكيّات الفنّ التّشكيلي الحديث والمعاصر العام, نستطيع أن نعي مدى الحافذ الذي يُحرّضنا في أعماقنا, وسعة الرّغبة في حركة فعل الخلق والإبتكار والإبداع, تجاوزا للقلق الذي نعاني منه والتّململ الذي يقضّ دواخلنا, ونحن نغطّ عند شواطيء الإنتظار الفنّي المديد, نجترّ قلقنا الفنّي وهمومنا التّشكيليّة, تخطفنا الومضات لما يتراءى لنا في البعد المرتجى من أحلام فنّيّة وآمال تشكيليّة... فالمستقبل في حركة لا تقف تمتدّ على مساحة رقعة الرّؤية الفنّيّة التّشكيليّة, يتّسع حينا في تشكيل فنّي حروفي, ويضيق أحيانا في إبتكار حروفي محدود... وفي كلا الحالتين من الإتّساع والإنكماش في لعبة التّشكيل الفنّي الحروفي, نتلمّس أنّ فعل الإبداع يجمد أحيانا في لوحة حروفيّة أو منحوتة حروفيّة أيضا, بحيث تتماهى لأعيننا إيماءات عناصر الخطوط وموسقات الألوان ودندنات الأشكال, كما القصائد المجنّحة الآتية على صهوات الخلق والإبداع, تنبض بكلّ عناصر الأحاسيس والمشاعر, تحمل لنا كلّ الدّفق المتفجّر من الينابيع العربيّة الشّرقيّة, التي يكتنز بها تاريخنا الحافل بمعالم لا حصر لها من بقايا ذلك الومض الفنّي الحروفي التّشكيلي...
فنّانون عرب محدّثون ومعاصرون كُثر من هذا الشّرق, نادوا بالعودة إلى الأصالة العربيّة الشّرقيّة والعمل بها فعليّا, من خلال حركة التّحديث الفنّي والمعاصرة, داعون للعودة إلى العمل بالتّراث الأصيل والموروثات الثّريّة, طامحين لبناء فنّ حروفي تشكيلي متنوّع, يستطيعون من خلاله الوقوف في وجه التّغريب الفنّي, ومجابهة الغزو الفكري الأجنبي الذي يجتاحنا في تشكيليّاتنا الفنّيّة, وبالتّالي العمل الجادّ على تحرير ما علق بوجداننا من تبعيّة فنّيّة مطلقة للغرب... وكان للأحداث المتعاقبة على أرضنا الدّفع الأقوى, في عمليّة إعادة تفعيل الفنّ الحروفي العربي القديم, وتجذير الحروف العربيّة في اللوحة الفنّيّة أو في المنحوتة الصّخريّة أو المعدنيّة أو الخشبيّة... وهي خيارات إعتمدها الكثير من الفنّانين العرب, إنحيازا جريئا في تحديث التّجريد الشّرقي, من خلال فعل إستلهام الموروثات التّراثيّة الشّرقيّة, من خلال إحياء الكتابات الحروفيّة والتّشكيلات الزّخرفيّة والهندسيّة والأرابسكيّة, جنبا إلى جنب مع تفعيل الفنّ الأيقوني الشّرقي... بإيحاءات متنوّعة من روحيّة الحضارات القديمة التي سادت في هذا الشّرق ثمّ بادت, الفرعونيّة والسّومريّة والبابليّة والأشوريّة والفينيقيّة... وهكذا بدأت رحلة الخطّ العربي تبرز في نتاج الفنّانين التّشكيليين العرب, في حركة فنّيّة تشكيليّة لإستعادة الأصول والتّراث والأقلام القديمة, ولكن في رؤى وأشكال مستحدثة, فيما ذهب بعض الفنّانين العرب إلى فعل الإنعتاق والتّحرّر من المباديء والقيود والقواعد الأساسيّة, في عمليّة تجاوزيّة لديناميّة الحروف, وإعتماد هذه الحروف في شكلها المجرّد من أيّ كلمة أو معنى...
حافظ الفنّانون الحروفيّون التّشكيليّون العرب, وإحتفظوا في نتاجهم الفنّي التّشكيلي على منظومة أبجديّة حروفيّات اللغة العربيّة, معتمدين حروف أبجديّة الهجائيّة الضّاديّة أساساً للتّعبير في وضوح تامّ يحمل صور أشكالها ومعانيها, فيما غدت منظومة أبجديّة الحروفيّات العربيّة في أشكالها وحروفها وألفاظها وكلماتها ونصوصها, وباتت حقلا واسعا ومفتوحا على مصراعيه لحركات فعل التّجريب والبحث والتّنقيب والخلق والإبداع والإبتكار والتّحديث والتّطوير... بحيث نتج في المحصّلة التّصنيفيّة للإتّجاهات الحروفيّة العربيّة الفنّيّة التّشكيليّة, العديد من الحالات التي باتت بارزة في نتاج الفنّانين التّشكيليين الحروفيين العرب... فمنهم من جعل من منظومة هذه الحروف, نقطة محوريّة إلى الإنطلاق ونقطة أخرى في حركة الوصول, في عمليّة فعل البناء الفنّي التّشكيلي, ومنهم من جعل من النّصوص العربيّة, مادّة ثريّة للبحث الفنّي والتّشكيلي في المجالين اللغوي والبصري, ومنهم من إتّخذ من أشكال وعناصر الحروف العربيّة والكتابة العربيّة, صهوة إشتغال بصري لها من دون تعويل على المعنى أو الإنتباه له, ومنهم من إتّخذ من عناصر منظومة الحروف العربيّة, عنصرا جماليّا وحسب بين جملة من العناصر التّشكيليّة الأخرى في عمليّة بناء اللوحة التّجريديّة تحديدا, ومجموعة إتّخذت من العناصر اللغويّة العربيّة عاملا هندسيّا صرفا أقامت عليه رؤيتها الفنّيّة التّشكيليّة...
الفنّ اللُغوي الحروفي العربي الشّرقي, له أهمّيته الفنّيّة الجماليّة في بناء اللوحة الفنّيّة التّجريديّة, التي تستلهم من حركة الكتابة القديمة أو الحديثة, صورة شعريّة متناغمة للشّرق القديم والعريق... وهو ما تنبّه له بعض الفنّانين التّشكيليين العرب واللبنانيين, وإلتفتوا إلى جماليّة التّكوينات التّراثيّة الشّرقيّة الموروثة والمحفوظة في بعض المتاحف المحلّيّة والعالميّة, ووجدوا في هذه التّكوينات العناصر الخصبة المحفّزة على فعل التّأمّل والإستلهام من جهة, وتحقيق ما يتفاعل والكينونة البشريّة عند الفنّان التّشكيلي, من تلقائيّة وغريزيّة وعفويّة مباشرة... بحيث تدفعه إلى التّفاعل الفنّي مع الإتّجاهات التّجريديّة التي تستلهم في إيقاعاتها الفنّيّة المتنوّعة, تستلهم المناخ اللوني لمعالم ومشهديّات الشّرق, إضافة للإشارات الهندسيّة التي تسكن رحيّة الكتابات والمخطوطات القديمة... وعليه يصحّ المنادة في الفلك الفنّي التّشكيلي بجرأة وحضور قوي, بالفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي, كفنّ قديم جديد ومستحدث, لأنّ اللوحة اللُغويّة الحروفيّة تشبه القصيدة المتكاملة وزنا ومعنى, تعمل أثيريّا على قرع الأبواب المغلقة بهدوء وسكينة وفتحها دون ضجّة تُسمع, فالأبواب الإبداعيّة والإبتكاريّة نفسها, هي الأجنحة المعدّة لتحليق الفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي, وبالتّالي ترقّي الفنّان الحروفي التّشكيلي...
إنّ الحقيقة الكامنة في كنه عناصر الحروفيّات العربيّة ما هي إلا جوهرا خفيّا, يختبيء وراء الصّور الظّاهريّة لأشكال الحروف وعناصرها, والفنّان الحروفي التّشكيلي البارع يستطيع تنظيم لوحته الفنّيّة الحروفيّة, بتصحيح ما يجب تصحيحه وفقا للقاعدة السّليمة... وهنا يكمن سرّ الجمال في كينونة العمل الفنّي الحروفي, النّابع من عناصر أبجديّة البناء الفنّي, الذي يعتمد على قدرات وخيال الفنّان الحروفي التّشكيلي في لغة الشّكل من جهة وموسقة اللون من جهة أخرى, ممّا ينتج عنه تراكيب فنّيّة تشكيليّة تتماهى بالجمال, مبنيّة على قواعد ومباديء منظومة الأبجديّة الحروفيّة الضّاديّة, التي تمتاز بالرّصانة والجدّيّة في حركة فعل الأداء الفنّي...
التّجارب التي قام بها بعض الفنّانين العرب على اللوحة العربيّة الحروفيّة, أتت بدلالات على جانب كبير من الخصوصيّة, من حيث التركيز على العمل على فضاءات اللوحة وموادّها وخاماتها ومضتمينها... فيما الإشتغال على على المساحة التّصويريّة, صرف هواجس الفنّانين العرب نحو المواد والخامات والتّقنيّات الجديدة من عجائن ولدائن وطلاوة وموادّ نافرة إحتلّت الصّدارة في التّجريد الجديد, المبتكر من مواد البناء والعناصر الهجينة والملامس المتنوّعة... وقد برز العديد من الفنّانين التّشكيليين العرب في هذا المجال... فيما أخذ الفنّ اللغوي الحروفي منحى جديدا, مصحوبا بحقول من الإشارات والتّبصيمات في عمليّة فعل تعقّب آثار الخطّ وسحر العلامة أو الإشارة... هذا وقد منح بعض الفنّانين التّشكيليين الحروفيين اللوحة الحروفيّة أعلى نفحاتها التّأمّليّة الإستشرافيّة, بحيث جعلوا من الحروف لغة مقروءة, بتحقيق التّحوير والدّمج بحروف أخرى... وهناك تجارب لافتة من جيل الفنّانين التّشكيليين تقوم على فعل إستلهام مظاهر الحروفيّأت والرّقش في الفنون الإسلاميّة في تموضعات الفضاء المتعدد الأبعاد...
الفنّ اللُغوي الحروفي بمختلف مظاهره هو المعبّر عن ذائقة شريحة كبيرة من المجتمعات العربيّة... فيما هذا الفنّ يحقّق صعوده في التّجارب الإيرانيّة المعاصرة, والتي دمجت بين الطّقوس والشّعائر الدّينيّة والفلكلور... هذا وقد وصل الفنّ اللُغوي الحروفي إلى حالة من الإستهلاك الخالي من المعاني, وهو ما يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه أمام العلاقة المزدوجة بين المقدّس والزّخرف البصري... بينما نرى أنّ المرحلة الحالية عنوانها الحركة البصريّة الجديدة المعاصرة, النّابعة من خلال الإجتهادات والتّأويلات المرتكزة على الصّورة الرّقميّة, المنتجة من خلال البرمجيات الرّقمية المبتكرة إضافة للتّقنيات الجديدة في فنّ التّصوير الفوتوغرافي وتأثيرات الكتابة الحروفيّة عليها, ممّا يقحم الفنّ اللُغوي الحروفي في سياقات منهجيّة مدرسة ومذهب الفنّ الشّعبي الإستهلاكي...
هذا ويُشكّل النّصّ الحروفي بشكل نموذجي مقدّمات أو خلفيات للبورتريهات الملتقطة بعدسة الكاميرا الفوتوغرافيّة... ويظهر هذا النّوع في الوشم الذي يغطّي وجوه بعض النّساء أو ظاهر كفوفها في حركات تعبيريّة عمّا يجيش في مكنون تلكم النّساء اللواتي يعشن في مجتمعات متنوّعة... بحيث تأتي الكتابات الحروفيّة بمنزلة الوشم والطّلاسم والأحجبة في إشارة واضحة إلى سمة ونكهة وهويّة المرأة اللتي تحملها... في حركة فعل العصيان أو الثّورة على الواقع المعاش الذي يعكس حالات الكبت وقمع الحرّيات... عملا بالعادات والتّقاليد والأعراف المتّبعة في تلك المجتمعات التي تنتمي إليها...
إلى هذا فإنّ الكتابة الحروفيّة المعاصرة أصبحت وسيلة للعبور إلى فنّ الشّارع وفنّ الملصقات وكتابات الجدران والحوائط والفنّ المفاهيمي... فالكتابات الإعلانيّة والشّعارات والعناوين الرّنّانة أضحت جزءا من الإيقونوغرافيّة الجديدة في الكثير من أعمال الفنّانين التّشكيليين الحروفيين... سيّما فنّ الدّمج بين لغة الجسد الإنساني والإثارة والكلمات التي تختصر البعد الذي يرمي إليه الفنّان الحروفي التّشكيلي... هذا وقد بز على السّاحة الكثير من الأعمال الفنّيّة الحروفيّة التي تمزج بين المشهد أو الصّورة أو الجسد أو الأطراف والنّصوص القرآنيّة أو الإنجيليّة والتي تتماهى بها الكثير من الجدران والحوائط في الكثير من المجتمعات العربيّة واللبنانيّة...
إلى هذا يجدر بنا أن نلفت الإنتباه إلى أنّ الثّورة الرّقميّة التي برزت في مرحلة التّسعينات, فتحت حركة الرّسم على الحواسيب عصرا جديدا أما اللوحات الحروفيّة والأرابسكيّة, بحيث بات للفنّان التّشكيلي وخاصّة الحروفي إنتقاء ما يحلو له من أشكال وألوان الحروف الأبجديّة للتّعبير عمّا يجول في خاطره ووجدانه, ليخرج من أشكال هذه التّنويعات الحروفيّة ما لا حصر له من تكبير وتصغير وإنبعاج ودمج وتجزئة وتكرار وتقابلات وتدابرات, إضافة لحركة فعل التّلوين ممّا يثري اللوحة الحروفيّة اللُغويّة... وهذا ما جعل الحاسب الرّقمي أداة فاعلة من أدوات الإجادة العصريّة في تشكيل اللوحة الحروفيّة الجديدة محاكاة لموجات الحداثة وما بعدها من العصرنة...
جوهر الفنون التّشكيليّة القديمة والحديثة والمعاصرة
بقلم: حسين أحمد سليم
الفنّ اللُغوي, أو ما يصحّ تسميته بالفنّ الحروفي, أو الفنّ اللُغوي الاحروفي, هو فنّ تشكيليّ عربي قديم وعريق في هذا الشّرق, عراقة وقدم فنّ الزّخرفة... وُلد هذا الفنّ الحروفي, مع حركة فعل إجتراح حروف المنظومة الهجائيّة الضّاديّة, من قبل مخترعيها ومبتكريها الأوائل: أبجد, هوّز, حطّي, كلمن, سعفص, قرشت, ثخذ, ضظغلا... بحيث تبلور هذا الفنّ فيما بعد, مع كلّ شكل من أشكال الحروف الأبجديّة, وكانت تنويعات لافتة ورائعة في عمليّات تشكيل وكتابة هذه الحروف على أسس ومباديء ضابطة, نسخ وثلث ورقع وديواني وتعليق وكوفي وتاجي وهندسي... هذا الفنّ العربي الشّرقي الذي له دلالاته الخاصّة وله نكهته الخاصّة, أيضا له لغته الخاصّة وصوته الخاصّ وتشكيله الخاصّ... والحوار الفنّي الحروفي التّشكيلي, يكون من خلال التّفاعل مع عناصر كلّ حرف من منظومة هذه الحروف الضّاديّة مباشرة, ومحاولة فهم هذا الفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي من خلال لغته ومن خلال صوته ومن خلال روحيّته...
الفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي, هو ذلك الفنّ العربي الشّرقي العريق والقديم, الذي نريد له أن يكون سمة هذا الشّرق وهويّة هذا الشّرق وماهيّة هذا الشّرق... ولسنا في تسليط الضّوء على هذا الفنّ اللُغوي الحروفي العربي الشّرقي التّشكيلي العريق والقديم, نطمح لولوج فلك فنّ تشكيلي جديد من كوّة حقب الأمس الشّرقي العربي, أو من زاوية الماضي البعيد للفنون الشّرقيّة العربيّة, ولسنا بصدد ريادة فضاءات فنّ لُغوي حروفي تشكيلي جديد بنفس المفهوم الذي نحمله في وجداننا بالنّظر إلى معالم الفنّ الماضي... فاللغة التي ورثناها وتعلّمناها عن السّلف, وإتّقنّا حروفيّاتها وحفظنا أشكالها وتموسقنا بأصواتها, قد لا تسمح لنا في عمليّة فعل الحوار الفنّي التّشكيلي, إلا من حلال أشكالها ومبادئها وقواعدها المعروفة... ولكن يُمكننا القيام بحركة فعل الجرأة وإقتحام ما لا يُسمح بإقتحامه, وإبتكار أشكال جديدة مستحدثة في محاكاة عصريّة, تعكس حالات التّطوّر والتّحديث الشّكلي لمنظومة أبجديّة الحروف الضّاديّة, وبالتّالي صناعة اللوحة الفنّيّة الحروفيّة التّشكيليّة العصريّة...
إذا فهمنا أنّ الفنّ الحروفي الشّرقي, هو الكينونة الفنّيّة التّشكيليّة, التي تتراءى لنا في فلكيّات الفنّ التّشكيلي الحديث والمعاصر العام, نستطيع أن نعي مدى الحافذ الذي يُحرّضنا في أعماقنا, وسعة الرّغبة في حركة فعل الخلق والإبتكار والإبداع, تجاوزا للقلق الذي نعاني منه والتّململ الذي يقضّ دواخلنا, ونحن نغطّ عند شواطيء الإنتظار الفنّي المديد, نجترّ قلقنا الفنّي وهمومنا التّشكيليّة, تخطفنا الومضات لما يتراءى لنا في البعد المرتجى من أحلام فنّيّة وآمال تشكيليّة... فالمستقبل في حركة لا تقف تمتدّ على مساحة رقعة الرّؤية الفنّيّة التّشكيليّة, يتّسع حينا في تشكيل فنّي حروفي, ويضيق أحيانا في إبتكار حروفي محدود... وفي كلا الحالتين من الإتّساع والإنكماش في لعبة التّشكيل الفنّي الحروفي, نتلمّس أنّ فعل الإبداع يجمد أحيانا في لوحة حروفيّة أو منحوتة حروفيّة أيضا, بحيث تتماهى لأعيننا إيماءات عناصر الخطوط وموسقات الألوان ودندنات الأشكال, كما القصائد المجنّحة الآتية على صهوات الخلق والإبداع, تنبض بكلّ عناصر الأحاسيس والمشاعر, تحمل لنا كلّ الدّفق المتفجّر من الينابيع العربيّة الشّرقيّة, التي يكتنز بها تاريخنا الحافل بمعالم لا حصر لها من بقايا ذلك الومض الفنّي الحروفي التّشكيلي...
فنّانون عرب محدّثون ومعاصرون كُثر من هذا الشّرق, نادوا بالعودة إلى الأصالة العربيّة الشّرقيّة والعمل بها فعليّا, من خلال حركة التّحديث الفنّي والمعاصرة, داعون للعودة إلى العمل بالتّراث الأصيل والموروثات الثّريّة, طامحين لبناء فنّ حروفي تشكيلي متنوّع, يستطيعون من خلاله الوقوف في وجه التّغريب الفنّي, ومجابهة الغزو الفكري الأجنبي الذي يجتاحنا في تشكيليّاتنا الفنّيّة, وبالتّالي العمل الجادّ على تحرير ما علق بوجداننا من تبعيّة فنّيّة مطلقة للغرب... وكان للأحداث المتعاقبة على أرضنا الدّفع الأقوى, في عمليّة إعادة تفعيل الفنّ الحروفي العربي القديم, وتجذير الحروف العربيّة في اللوحة الفنّيّة أو في المنحوتة الصّخريّة أو المعدنيّة أو الخشبيّة... وهي خيارات إعتمدها الكثير من الفنّانين العرب, إنحيازا جريئا في تحديث التّجريد الشّرقي, من خلال فعل إستلهام الموروثات التّراثيّة الشّرقيّة, من خلال إحياء الكتابات الحروفيّة والتّشكيلات الزّخرفيّة والهندسيّة والأرابسكيّة, جنبا إلى جنب مع تفعيل الفنّ الأيقوني الشّرقي... بإيحاءات متنوّعة من روحيّة الحضارات القديمة التي سادت في هذا الشّرق ثمّ بادت, الفرعونيّة والسّومريّة والبابليّة والأشوريّة والفينيقيّة... وهكذا بدأت رحلة الخطّ العربي تبرز في نتاج الفنّانين التّشكيليين العرب, في حركة فنّيّة تشكيليّة لإستعادة الأصول والتّراث والأقلام القديمة, ولكن في رؤى وأشكال مستحدثة, فيما ذهب بعض الفنّانين العرب إلى فعل الإنعتاق والتّحرّر من المباديء والقيود والقواعد الأساسيّة, في عمليّة تجاوزيّة لديناميّة الحروف, وإعتماد هذه الحروف في شكلها المجرّد من أيّ كلمة أو معنى...
حافظ الفنّانون الحروفيّون التّشكيليّون العرب, وإحتفظوا في نتاجهم الفنّي التّشكيلي على منظومة أبجديّة حروفيّات اللغة العربيّة, معتمدين حروف أبجديّة الهجائيّة الضّاديّة أساساً للتّعبير في وضوح تامّ يحمل صور أشكالها ومعانيها, فيما غدت منظومة أبجديّة الحروفيّات العربيّة في أشكالها وحروفها وألفاظها وكلماتها ونصوصها, وباتت حقلا واسعا ومفتوحا على مصراعيه لحركات فعل التّجريب والبحث والتّنقيب والخلق والإبداع والإبتكار والتّحديث والتّطوير... بحيث نتج في المحصّلة التّصنيفيّة للإتّجاهات الحروفيّة العربيّة الفنّيّة التّشكيليّة, العديد من الحالات التي باتت بارزة في نتاج الفنّانين التّشكيليين الحروفيين العرب... فمنهم من جعل من منظومة هذه الحروف, نقطة محوريّة إلى الإنطلاق ونقطة أخرى في حركة الوصول, في عمليّة فعل البناء الفنّي التّشكيلي, ومنهم من جعل من النّصوص العربيّة, مادّة ثريّة للبحث الفنّي والتّشكيلي في المجالين اللغوي والبصري, ومنهم من إتّخذ من أشكال وعناصر الحروف العربيّة والكتابة العربيّة, صهوة إشتغال بصري لها من دون تعويل على المعنى أو الإنتباه له, ومنهم من إتّخذ من عناصر منظومة الحروف العربيّة, عنصرا جماليّا وحسب بين جملة من العناصر التّشكيليّة الأخرى في عمليّة بناء اللوحة التّجريديّة تحديدا, ومجموعة إتّخذت من العناصر اللغويّة العربيّة عاملا هندسيّا صرفا أقامت عليه رؤيتها الفنّيّة التّشكيليّة...
الفنّ اللُغوي الحروفي العربي الشّرقي, له أهمّيته الفنّيّة الجماليّة في بناء اللوحة الفنّيّة التّجريديّة, التي تستلهم من حركة الكتابة القديمة أو الحديثة, صورة شعريّة متناغمة للشّرق القديم والعريق... وهو ما تنبّه له بعض الفنّانين التّشكيليين العرب واللبنانيين, وإلتفتوا إلى جماليّة التّكوينات التّراثيّة الشّرقيّة الموروثة والمحفوظة في بعض المتاحف المحلّيّة والعالميّة, ووجدوا في هذه التّكوينات العناصر الخصبة المحفّزة على فعل التّأمّل والإستلهام من جهة, وتحقيق ما يتفاعل والكينونة البشريّة عند الفنّان التّشكيلي, من تلقائيّة وغريزيّة وعفويّة مباشرة... بحيث تدفعه إلى التّفاعل الفنّي مع الإتّجاهات التّجريديّة التي تستلهم في إيقاعاتها الفنّيّة المتنوّعة, تستلهم المناخ اللوني لمعالم ومشهديّات الشّرق, إضافة للإشارات الهندسيّة التي تسكن رحيّة الكتابات والمخطوطات القديمة... وعليه يصحّ المنادة في الفلك الفنّي التّشكيلي بجرأة وحضور قوي, بالفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي, كفنّ قديم جديد ومستحدث, لأنّ اللوحة اللُغويّة الحروفيّة تشبه القصيدة المتكاملة وزنا ومعنى, تعمل أثيريّا على قرع الأبواب المغلقة بهدوء وسكينة وفتحها دون ضجّة تُسمع, فالأبواب الإبداعيّة والإبتكاريّة نفسها, هي الأجنحة المعدّة لتحليق الفنّ اللُغوي الحروفي التّشكيلي, وبالتّالي ترقّي الفنّان الحروفي التّشكيلي...
إنّ الحقيقة الكامنة في كنه عناصر الحروفيّات العربيّة ما هي إلا جوهرا خفيّا, يختبيء وراء الصّور الظّاهريّة لأشكال الحروف وعناصرها, والفنّان الحروفي التّشكيلي البارع يستطيع تنظيم لوحته الفنّيّة الحروفيّة, بتصحيح ما يجب تصحيحه وفقا للقاعدة السّليمة... وهنا يكمن سرّ الجمال في كينونة العمل الفنّي الحروفي, النّابع من عناصر أبجديّة البناء الفنّي, الذي يعتمد على قدرات وخيال الفنّان الحروفي التّشكيلي في لغة الشّكل من جهة وموسقة اللون من جهة أخرى, ممّا ينتج عنه تراكيب فنّيّة تشكيليّة تتماهى بالجمال, مبنيّة على قواعد ومباديء منظومة الأبجديّة الحروفيّة الضّاديّة, التي تمتاز بالرّصانة والجدّيّة في حركة فعل الأداء الفنّي...
التّجارب التي قام بها بعض الفنّانين العرب على اللوحة العربيّة الحروفيّة, أتت بدلالات على جانب كبير من الخصوصيّة, من حيث التركيز على العمل على فضاءات اللوحة وموادّها وخاماتها ومضتمينها... فيما الإشتغال على على المساحة التّصويريّة, صرف هواجس الفنّانين العرب نحو المواد والخامات والتّقنيّات الجديدة من عجائن ولدائن وطلاوة وموادّ نافرة إحتلّت الصّدارة في التّجريد الجديد, المبتكر من مواد البناء والعناصر الهجينة والملامس المتنوّعة... وقد برز العديد من الفنّانين التّشكيليين العرب في هذا المجال... فيما أخذ الفنّ اللغوي الحروفي منحى جديدا, مصحوبا بحقول من الإشارات والتّبصيمات في عمليّة فعل تعقّب آثار الخطّ وسحر العلامة أو الإشارة... هذا وقد منح بعض الفنّانين التّشكيليين الحروفيين اللوحة الحروفيّة أعلى نفحاتها التّأمّليّة الإستشرافيّة, بحيث جعلوا من الحروف لغة مقروءة, بتحقيق التّحوير والدّمج بحروف أخرى... وهناك تجارب لافتة من جيل الفنّانين التّشكيليين تقوم على فعل إستلهام مظاهر الحروفيّأت والرّقش في الفنون الإسلاميّة في تموضعات الفضاء المتعدد الأبعاد...
الفنّ اللُغوي الحروفي بمختلف مظاهره هو المعبّر عن ذائقة شريحة كبيرة من المجتمعات العربيّة... فيما هذا الفنّ يحقّق صعوده في التّجارب الإيرانيّة المعاصرة, والتي دمجت بين الطّقوس والشّعائر الدّينيّة والفلكلور... هذا وقد وصل الفنّ اللُغوي الحروفي إلى حالة من الإستهلاك الخالي من المعاني, وهو ما يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه أمام العلاقة المزدوجة بين المقدّس والزّخرف البصري... بينما نرى أنّ المرحلة الحالية عنوانها الحركة البصريّة الجديدة المعاصرة, النّابعة من خلال الإجتهادات والتّأويلات المرتكزة على الصّورة الرّقميّة, المنتجة من خلال البرمجيات الرّقمية المبتكرة إضافة للتّقنيات الجديدة في فنّ التّصوير الفوتوغرافي وتأثيرات الكتابة الحروفيّة عليها, ممّا يقحم الفنّ اللُغوي الحروفي في سياقات منهجيّة مدرسة ومذهب الفنّ الشّعبي الإستهلاكي...
هذا ويُشكّل النّصّ الحروفي بشكل نموذجي مقدّمات أو خلفيات للبورتريهات الملتقطة بعدسة الكاميرا الفوتوغرافيّة... ويظهر هذا النّوع في الوشم الذي يغطّي وجوه بعض النّساء أو ظاهر كفوفها في حركات تعبيريّة عمّا يجيش في مكنون تلكم النّساء اللواتي يعشن في مجتمعات متنوّعة... بحيث تأتي الكتابات الحروفيّة بمنزلة الوشم والطّلاسم والأحجبة في إشارة واضحة إلى سمة ونكهة وهويّة المرأة اللتي تحملها... في حركة فعل العصيان أو الثّورة على الواقع المعاش الذي يعكس حالات الكبت وقمع الحرّيات... عملا بالعادات والتّقاليد والأعراف المتّبعة في تلك المجتمعات التي تنتمي إليها...
إلى هذا فإنّ الكتابة الحروفيّة المعاصرة أصبحت وسيلة للعبور إلى فنّ الشّارع وفنّ الملصقات وكتابات الجدران والحوائط والفنّ المفاهيمي... فالكتابات الإعلانيّة والشّعارات والعناوين الرّنّانة أضحت جزءا من الإيقونوغرافيّة الجديدة في الكثير من أعمال الفنّانين التّشكيليين الحروفيين... سيّما فنّ الدّمج بين لغة الجسد الإنساني والإثارة والكلمات التي تختصر البعد الذي يرمي إليه الفنّان الحروفي التّشكيلي... هذا وقد بز على السّاحة الكثير من الأعمال الفنّيّة الحروفيّة التي تمزج بين المشهد أو الصّورة أو الجسد أو الأطراف والنّصوص القرآنيّة أو الإنجيليّة والتي تتماهى بها الكثير من الجدران والحوائط في الكثير من المجتمعات العربيّة واللبنانيّة...
إلى هذا يجدر بنا أن نلفت الإنتباه إلى أنّ الثّورة الرّقميّة التي برزت في مرحلة التّسعينات, فتحت حركة الرّسم على الحواسيب عصرا جديدا أما اللوحات الحروفيّة والأرابسكيّة, بحيث بات للفنّان التّشكيلي وخاصّة الحروفي إنتقاء ما يحلو له من أشكال وألوان الحروف الأبجديّة للتّعبير عمّا يجول في خاطره ووجدانه, ليخرج من أشكال هذه التّنويعات الحروفيّة ما لا حصر له من تكبير وتصغير وإنبعاج ودمج وتجزئة وتكرار وتقابلات وتدابرات, إضافة لحركة فعل التّلوين ممّا يثري اللوحة الحروفيّة اللُغويّة... وهذا ما جعل الحاسب الرّقمي أداة فاعلة من أدوات الإجادة العصريّة في تشكيل اللوحة الحروفيّة الجديدة محاكاة لموجات الحداثة وما بعدها من العصرنة...