المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طور عبدين


fouadzadieke
22-07-2005, 10:05 PM
طورعبدين

كنتُ في 25 كانون الثاني من عام 1983 قد قمتُ بتدوين "مادة طورعبدين" كما وردتْ في (دائرة المعارف الإسلامية) وحيثُ أن إمكانية الحصول على دائرة المعارف هذه كان عسيراً لارتفاع سعرها بما لم يكنْ يتناسب مع راتب محدود لمعلّم ونظراً لولعي الشديد في جمع المعلومات والمطالعة والإفادة قمتُ بهذا الجهد وها أنا وبعد مرور حوالي إثنين وعشرين عاماً على هذا النقل الحرفي لما جاء في دائرة المعارف هذه عن (طورعبدين) أحببتُ اليوم أنْ أنشر كتابتها ليتسنى للأخوة الذين لم يتمكنوا من قراءة هذه المادة فيم مضى أن تسنح لهم الفرصة اليوم بقراءتها فهي مادة غنية ومفيدة وهي وردتْ في المجلد الخامس عشر من دائرة المعارف الإسلامية مما يقع ضمن الحرفين (ًص -ع) وهو وارد في الصفحة 334 لغاية 353 :
"طور عبدين اسم هضبة جبلية في شمالي أرض الجزيرة، تمتد إجمالا من ماردين في الغرب إلى جزيرة ابن عمر ويقال لها ( جزيره) وحسب في الشرق، ونهر دجلة هو حدّها الشّرقي وحدّها الشّمالي، من جزيرة ابن عمر مصعداً حتى التقاء هذا النهر بنهر باتمان صو من الشمال.
وإذا مددنا خطاً من ملتقى النهرين إلى ماردين لكان هذا الخط إجمالا هو الحدّ الغربي للمنطقة التي تعرف بطور عبدين، كما أن جبل كوروس داغ الذي يقوم في الجزء الشمالي للحدّ الغربي يعدّ أيضاً تابعاً بأكمله لطور عبدين، أو قلْ إنّه جزءٌ أماميّ منها. أما في الجنوب فإنّ حدّها واضح المعالم كلّ الوضوح، فهناك تنحدرُ صخورُ الهضبة انحداراً وعراً على هيئة وهدة في كثيرٍ من الأحيان، هابطة إلى سهل الجزيرة حتى لتبدو للناظر من السّهل كأنها سورٌ متين البنيان. والطريق الذي كان مطروقاً من أقدم الأزمنة والذي يسير من ماردين إلى جزيرة ابن عمر مارّاً بنصيبين، يمتدّ على مسافة قصيرة من الحافة الجنوبيّة لطور عبدين. وتدخل في سلسلة هذه الجبال عادة الجبال التي تقوم في وسطها بلدة ماردين ومن ثمّ تنسب هذه الجبال إليها أحياناً ويمتدّ غربي ماردين جزءٌ من هذه الجبال يعرف بجبل العفص الذي يقع على خط طول يصل إلى1540 درجة شرقي غرينتش ويفصله عن الحافة الجبلية الهائلة البازلتيّة المعروفة بجبل كرجه داغ وهدة واضحة المعالم.
ويبلغ متوسط ارتفاع طورعبدين في جزئها الأوسط ما بين 3000 -3500 قدم فوق سطح البحر، ويبلغ ارتفاع قمم بذاتها في الناحية مابين مديات وحصن كيفا على نهر دجلة. وفي جبال ماردين 4300 قدم، على أنّ طور عبدين ليس فيها أية جبال مشهودة، وهي تبدو في كلّ بقعة منها أشبه بسهل متماوج تقطعه وديان عميقة وعريضة أكبرها وادي خَلْتان الذي يصبّ في دجلة عند فنك شمالي جزيرة ابن عمر.
وطور عبدين مكوّنة كلّها تقريباً من الحجر الجيري تتخللها في كثير من الأحيان مهادٌ من التربة الخصيبة، على أننا نجد في بعض مواضعها كتلا متناثرةً من حجر البازلت متّخذة شكل الزّوايا، ونصادف مثل هذه الكتل البازلتية في الشرق خاصّة، تجاه جزيرة ابن عمر حيث يرتفع جبل إيليم داغ امتداداً للحائط الجنوبي الجيري لطور عبدين كما نصادفها غربي ماردين حيث تنصبّ الحمم من جبل كرجه داغ وتردّ كثير من كهوف طور عبدين إلى طبيعة تكوين هذه الصّخور وتستخدم الكهوف في كثير من الأحيان مساكن كشأنها في الأزمنة القديمة وهي موجودة بكثرة، مثال ذلك ما نجده في إقليم مديات الذي ذكر في عهد متقدّم يرجع إلى النقوش الآشوريّة، وما نجده خاصة في حصن كيفا الذي يعدّ قصبة الكهوف التي يسكنها الإنسان بصفة منتظمة.
والممهود في الجزءين الشرقي والغربي من طور عبدين أنهما خاليان بصفة خاصة من الأشجار، على أنّ شريطاً من الغابات يمتدّ من الشمال إلى الجنوب في وسطهما شرقي مديات حيث نجد تلالا صغيرة تغشاها أشجارٌ ضئيلة من البلوط القمئ والشجيرات والماء عزيزٌ إلى حدّ خطير في جزء كبير من طور عبدين لندرة الغابات وتشرّب تربتها الجيرية ذات المسام لمعظم الأمطار التي تسقط عليها، وتسقى الماشية لجمع الماء في صهاريج ترجع في كثير من الأحيان إلى أزمان قديمة جدّاً، كما يجمع في برك كبيرة... أما الجنوب فالماء موجود فيه بكثرة عظيمة نجده في العيون العديدة والجداول الصغيرة التي يخطئها الحصر وهي تجري تجاه الجنوب متخلّلة التلال حيث تفيض غالباً في رمال سهل بلاد الجزيرة غير بعيد من سفوح الجبال والجداول التي تجري من الجانب الجنوبي لطور عبدين تصبّ في نهر جغجغ الذي ينشعب فرعين فوق نصيبين ويروي المنحدرات الجنوبيّة لجبل كرجه داغ وجبال ماردين نهر الخابور الذي يتلقّى مياه نهر جغجغ عند الحسكة على خط عرض 36 و 25 شمالا.
وفي طور عبدين كثيرٌ من البقاع القاحلة وأرضها تفتقرُ إلى أسباب الريّ المواتية ومع ذلك فإنّ فيها كثيراً من الأراضي الممتدة تجود فيها الحبوب وتطيب المراعي وخاصة في الأغوار التي يترسّب فيها الصلصال الخصيب الأسمر الضارب إلى الحمرة، وعلى سفوح التلال الصغيرة التي يؤثر الأهالي زراعتها بالكروم ونحن نجد في الأديرة عناية بهذه الكروم، وقد مهّدتْ الشرفات ونقلت إليها التربة الثريّة لزراعة الأعناب والفواكه وتزداد براعةُ الأهالي في ريّ حقولهم، فهم يزرعون إلى جانب الحبوب وخاصة الشعير وكذلك الأعناب: القطن والفاكهة على اختلاف أنواعها وخاصة المشمش الفائق الجودة وفي الأجزاء المغطاة بالغابات من طور عبدين يجمع المنّ والعفص وهما يوجدان بكميّات وافرة. وغربي ماردين حيد هو جبل العفص الذي ذكرناه آنفاً، وقد سمّي بهذا الإسم لكثرة العفص فيه.
وكانتْ طور عبدين معروفة من قبل عند الآشوريين إذ سمّوها جبال كاشْيَري ونحن نجدها تحمل هذا الاسم منذ عهد يرجع إلى نقوش الملك الآشوري المتقدّم أدد نراري الأول حوالي 1300 - 1270 ق.م وسلمنصّر الأول حوالي 1270 - 1240 قز/ ولم يزل هذا الاسم يذكر في وثائق الملوك الآشوريين المتأخرين وتنطبق كاشْيَري طور عبدين انطباقاً لا بأس به على ماسيوس وهي مصطلح نجده مستعملا عند الكتّاب اليونانيّين المتأخرين آريان و بطليموس. أما الرّأي الذي ذهب إليه لهمان هويتْ فيكاد يتعذّر عليّ أنْ أقبله، ذلك أنّه يقول إنّ كاشْيَري و ماسيوس يمثّلان تصوّراً جغرافيّاً أوسع من طور عبدين ويدلان على الجزء الشرقي أو الجنوبي كله لجبال طوروس التي عرفها الأقدمون، أيْ أنّها تشملُ جبل كرجه داغ و جبال هزرو داغاري القائمة في شمال ميافارقين.
ونحن نجد في النقوش المسماريّةاسمين آخرين إلى جانب كاشْيَري والظاهر أنّ هذين الاسمين يدلان على جزءين وحسب من أجزاء طور عبدين هما: نيربو والرّاجح أنّ يطلق على وسط هذه الهضبة و إزلة (إزلا) وليس بخاف أنّه اسم خاصّ يطلق على الشقّة الجنوبيّة من طور عبدين وخاصّة ناحية ماردين (والراجح أنها تشمل تلال ماردين) وتذكر خمر إزلة في النصّوص البابليّة - الآشوريّة والراجح أيضاً أنّ الوثائق الأكمينيّة تشير إلى إزلة.
أما بخصوص الاسم الآرامي طور عبدين (ومعناه جبل العابدين أي عباد الله) وهناك اسم مشابه له لمكان وهو كفر عبدين ولاشكّ أنّه من أصل نصرانيّ، ويرجع إلى العهد الذي أصبحتْ هذه الناحية خلاله مركزاً كبيراً للرهبانيّة الشّرقيّة بحكم كثرة الأديرة فيها، وأقدم تحقيق لاسم طور عبدين هو كتاب في تراجم القديسين السريان على عهد الإمبراطور يوليان أي حوالي منتصف القرن الرابع الميلادي، ولغورغيوس القبرصي كتاب ألفه في العقد الأول من القرن السابع الميلادي شأن كبير بالنسبة لتخطيط طور عبدين، ذلك أنّه يورد قائمة بحصون هذه المنطقة ونحد فيه اسم ماردين (ومن الطبيعيّ أنْ نتمشّى مع هوفمان ونصحح هذا الاسم فنجعله طور عبدين).
ويحقّ لنا في هذا المقام أنْ ننوّه بأنّ مجموعة من الحصون الرّومانيّة في بلاد الجزيرة كانتْ بالقرب من دجلة والمجموعة الأخرى كانت فوق طور عبدين، وقد ورد في الكتاب السرياني في تراجم القديسين الذي ذكرناه آنفاً إشارة إلى إقامة حصنين كبيرين في منطقة طور عبدين، ونحن نجد اسم طور عبدين أيضاً وارداً في التاريخ المنحول لموسى الخوريني الذي لا يمكن أنْ يرجع تأليفه إلى زمن أبعد من نهاية القرن السابع الميلادي ولكنْ هذه الإشارة فيما يظنّ تدلّ على منطقة أضيق من ذلك رقعة ونعني بها الحيد الجنوبي لطور عبدين (إزلة). ونجد أيضاً اسم طور عبدين عند كتّاب العرب في القرون الوسطى أما في الجاهليّة فقد ورد في أبيات للشاعر أبي دؤاد الإيادي يقول فيها إنّ المؤسس الأسطوري لمملكة الحضر وهو ساطيرون قد حكم أيضاً طور عبدين وورد أيضاً ذكر طور عبدين بقصيدة في خسرو وشيرين ويروي المسعودي أنّ في طور عبدين بقايا من الآراميّين مازالول يعيشون فيها، وجاء في ابن رستة أنّ هرماس (وهو نهر جغجغ عند المحدثين وقد ذكرناه آنفاً) هو فرع من نهر الخابور يخرج منْ طور عبدين ويحقّ لنا أنْ نذكر أيضاً أنّ الجغرافيّين العرب قد ذكروا الاسم الخاصّ: جبل ماردين (أي تلال ماردين) للدلالة على المشارف الجنوبيّة لطور عبدين وهي ناحية نصيبين ودارا والنطق السرياني الحديث لطور عبدين (ونحن نسمع أيضاً مَنْ يقول طور العبدين) هو طور دِ عبودى، وليس اسم طور عبدين مجهولا عند أهلها وخاصّة في الدّوائر النصرانيّة، لكنّه ينتمي إلى لغة الكتابة أكثر من انتمائه للغة التخاطب. وهذه البلاد الجبليّة تُعْرف اليوم في السّريانيّة عادة باسم طور أو بالعربيّة الطّور ويستخدم الترك للدلالة عليها كما قال شلافلى السم قره داغ والكرد موه داغ أو ?يا ريش بمعنى الجبل الأسود.
وانتقلتْ ناحية طور عبدين هي وسائر أرض الجزيرة إلى يد العرب ما بين 639 -640 م وكانت الطور في أيام الخلفاء تنتمي إلى ولاية ديار ربيعة من أعمال الجزيرة. أما تاريخها السياسي بعد الفتح العربي فإنّ طور عبدين قد شاركتْ أقدار النواحي المجاورة لها التي تتكوّن منها سائر أرض الجزيرة، ولا نجد في المصادر العربيّة إلاّ معلومات قليلة بعض الشئ عن داخل طور عبدين عينها، على أنّ هذه المصادر قد تردّد فيها ذكر البلدان الهامّة التي على مشارفها مثل ماردين وجزيرة ابن عمر وحصن كيفا ونصيبين وثمّة معلوماتٌ هامّة عن تاريخ طور عبدين المحليّ في الكتب السريانيّة وخاصّة في النّصوص التي أوردها الإخباريّون وأصحاب تراجم القدّيسين، وعلى ذلك فإنّ النّصوص لم تزلْ في حاجة إلى جمعها وتصفيتها وثمّة معلومات قيّمة عن تاريخ طورعبدين في القرن الخامس عشر الميلادي وخاصّة أيام غزوة تيمور واردة في تكملة لتاريخ السريان "التاريخ الدنيوي" لإبن العبري أبي الفرج، كتبها رهبان مجهولون ينتمي أحدهم إلى دير باسبرينة (وأظنه يقصد مار دودو - فؤاد) وتاريخ القبائل الكرديّة في طور عبدين وما حولها منذ القرون الوسطى حتّى اليوم تاريخ له شأنه، ومما له شأن خاصّ في هذا المقام تاريخ الدول الكردية في جزيرة ابن عمر وحصن كيفا (انظر الوصف القائم على التاريخ الإخباري الكردي، شرفنامه الذي نشره بارت سنة 1859 م وانظر مادة "الكرد").
ولمّا أُعيد توزيع البلاد عقب الحرب العالميّة الأولى تركت طور عبدين للترك وكانتْ طور عبدين في التنظيم الإداري للإمبراطوريّة التركيّة حتّى هذه الحرب تتبع ولاية ديار بكر، سنجق ماردين الذي كان مقسّماً إلى خمسة أقضية: ماردين، وجزيرة ابن عمر، ومديات، وعوينة، ونصيبين.
والرّاجح أنّ طور عبدين كان يسكنها كلّها تقريباً في صدر القرون الوسطى والقرون الأولى للإسلام أرمن من النصارى ثمّ أخذ يسكنها شيئاً فشيئاً عدد متزايد من المسلمين معظمهم من الكراد، فأدّى ذلك إلى تناقص النصارى فيها تدريجيّاً، وظلّتْ نسبتهم في اضمحلال مطرد حتّى قيام الحرب العالميّة الأولى، وقد جاء في إحصائيات كوينيه التي لايمكن أنْ يعتمد عليها مع ذلك كلّ الإعتماد، أنّ سنجق ماردين الذي تزيد رقعته على الأقل عن طور عبدين بمدلولها الواسع، كان تعداد سكّانه سنة 1890 م 194072 نسمة منهم 122522 مسلمون 67970 مسيحيّون، 1500 من اليزيديّة، 1500 نت النّوَر، 890 من اليهود ومن ثمّ يتبيّن أنّ المسيحيّين كانوا ثلث عدد سكانه جميعاً. ويقدّر كوينيه عدد سكان قضاءين يدخلان برمّتهما تقريباً في طور عبدين، وهما قضاء مديات وقضاء عوينة، وذلك في هذه السنة ب: 31920 مسيحي و 37713 مسلم، وتكاد تكون نسبة المسلمين إلى المسيحيّين متوازنة في القضاء الوسط وهو قضاء مديات إذ يبلغ عدد المسلمين من سكانه 22632 نسمة وبلغ عدد المسيحيّين 22126 نسمة. وتوزيع سكّان طور عبدين الحاضر بحسب قوميّاتهم ونحلهم غير معروفين على أنّ السكّان المسلمين بلاشكّ هم الغالبيّة العظمى، ذلك أنّ النصارى قد عانوا الأمرّين أثناء الحرب العالميّة الأولى وما بعدها، ونذكر بخاصّة أنّ كثيراً من الأرمن قد اضطرّوا إلى ترك هذه البلاد. فعندما نزل بهم اضطهاد جديد سنة 1924 م وطرد بطريرك اليعاقبة (بحسب دائرة المعارف ويقصد السريان الأرثوذكس - فؤاد) إغناطيوس إلياس الثالث من مقرّه في دير الزّعفران (شرقي مديات) هاجر معظم أتباعه وعددهم ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة إلى سوريّة (بل وإلى شتّى أرجاء العالم - فؤاد).
وقد انتقلت المسيحيّة إلى طور عبدين من الرّها القريبة منها جدّاً في عهد عريق في القدم، ونحن نجد من بين الأساقفة الستّة الجزيريّين الذين عقدوا مجمع خلقيدونية سنة 451 م أسقفاً ممثّلا لحصن كيفا، ولا نجد أحداً مثّل إزلة كما ذهب إلى ذلك نولدكه اعتماداً على أقوال مانسي ورسم إزلة هنا يدلّ على قراءة مخطئة كما تتبيّن من الطبعة الجديدة لهذه القوال.
ومنذ أنُ نشب النزاع بين النصارى حول طبيعة المسيح أصبحت طور عبدين معقل اليعاقبة (السريان الأرثوذكس) وما منْ بقعة وجدناهم في الماضي أو نجدهم في الحاضر كتلا متماسكة كما هو شأنهم في هذه الهضاب وفي ماردين وأرباضها، والظاهر أنّ طور عبدين عينها كانت في الصل أسقفيّة يعقوبيّة واحدة. وحوالي 1089 م انقسمت إلى أسقفيّتين عاش أسقف في قرطمين و الآخر في حاح، وأنشئتْ بعد ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي أسقفيات أخرى في بلدان الناحية الكبرى، وفي منتصف القرن الرّابع عشر نشبتْ خلافات بين بطريرك ماردين واسقف صلاح (على مسيرة ساعتين شمالي مديات) أدّت إلى الفرقة وفي أثناء ذلك خرج أساقفة طور عبدين على سلطان البطريرك واختاروا أسقف صلاح بطريركاً لطور عبدين وحصن كيفا (ومن هؤلاء البطاركة والذين يعدّون غير شرعيّين على كرسي طور عبدين البطريرك سويرا اسحق الآزخي الحبيبكي والذي عاش حياة بسيطة وله في آزخ قصر البطرك الذي يحمل اسمه، توفي ودفن في مدّو ولنا نبذة عن حياته سننشرها في وقت لاحق - فؤاد) ودامت هذه الفرقة ما يربو على قرن من الزّمان. وتوجد قوائم بأساقفة حاح وحصن كيفا وقرطمين في مصادر مثل رايت.
وكان في طور عبدين أيام القرون الوسطى، بل بعدها جماعاتٌ من النساطرة علاوة على ما كان فيها من يعاقبة (سريان أرثوذكس) وكان أقدم ديرهناك للنساطرة وهو مار أو?ين في حوزتهم منذ أمد طويل وقد استمالتهم رومة إلى صفّها في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديّين ومن ثمّ لقبوا أنفسهم بالكلدان ومنهم طائفة دينيّة لها شعائرها وطقوسها، وكان على رأس أتباع هذه الكنيسة المسمّاة بالكلدانيّة والقائمة في طور عبدين أسقفان (في ماردين وجزيره) وقد بلغ عدد هؤلاء التباع سنة 1914 م في قول قسّيس كلداني من الأهلين 70 - 80 نفساً.
يقول كوينيه إنّه كان في طور عبدين سنة ...(لم تتضح السنة المشار إليها لسوء الطباعة) 4000 نفس من السريان أي من اليعاقبة المتّحدين مع رومة وعلى رأسهم بطريرك ماردين واسقف جزيرة ابن عمر وهو يقول أيضاً "أنّه كان في ناحية ماردين الغداريّة 28666 أرمني يدين نصفهم بالتبعيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة والنّصف الآخر مقسّمين في تبعيّتهم بالتساوي تقريباً بين كنيستس الرّوم الكاثوليك وكنيسة البروتستانت وطائفة الأرمن البروتستانت قامت نتيجة لنشاط بعثات التبشير الأمريكيّة التي كان أهمّ مراكزها ماردين ومديات" ويضيف (كوينيه) آخر الأمر إلى تقديره السّابق منذ حوالي سنة 1890 م عدداً من سكّان سنجق ماردين قوامه 6730 من الأروام الذين هاجروا من الأراضي التركيّة بعد هذه الحرب و 580 يهوديّاً. ونحن نستطيع أن نقول في يقين: "إنّ طائفة اليعاقبة قبل الحرب العالميّة الأولى كانت أكبر طوائف النصارى عدداً في طور عبدين عينها، ولكنْ ليس بين أيدينا المعلومات التي تمكننا من أن نقدّر عددهم تقديراً تقريباً يعتمد عليه" ولاشكّ أنّ تقدير (كوينيه) (فيما يختصّ بسنجق ماردين) الذي يقول إنّ عدد اليعاقبة فيه يبلغ 13754 نفساً يقوم كما هو ظاهر على فروض مخطئة ومن ثمّ فإنّه فيما يبدو لا يعتمد عليه وفي سنة 1838 قدّر (سوثكيت) عدد اليعاقبة اعتماداً على معلومات استقاها بطريرك من بطاركة هذه الأيام بستّة آلاف أسرة أي ما بين 60 - 70 قرية يسكنها عدد من الأسر يتراوح بين 50 و 60 أسرة وفي تقديره أيضاً أنّ الجبال، أي طور عبدين عينها كان يسكنها ثلاثون الفاً من اليعاقبة (السريان الأرثوذكس) يضاف إلى ذلك خمسة آلاف يعقوبي آخر يستقرّون في جوار الأديرة. وكان في ماردين ألفان من اليعاقبة النصارى يقطنون في أرباض ماردين القريبة وستّة آلاف يقطنون سنجار ويقدّر (باد?ر) الذي زار طور عبدين سنة 1850 م عدد قرى اليعاقبة بمائة وخمسين قرية وما من شكّ في أنّ عدد يعاقبة طور عبدين ظلّوا يتناقصون تناقصاً مطرداً أو قلْ وئيداً منذ أيام باد?ر وسوث?يت حتّى اشتعال الحرب العالميّة الأولى.
أما المسلمون من سكّان طور عبدين فمعظمهم من الأكراد وهم قد انتشروا انتشاراً واسعاً مطرداً في قلب طور عبدين في القرون الحديثة، وطرد الفلاحون النصارى الذين كانوا في قتال دائب معهم شيئاً فشيئاً من المنحدرات الجنوبيّة للجبال إلى السهول (أنظر عن الفتن المتّصلة بين قرى طور عبدين ملاحظات "?ي?نون") أما أتباع اليزيديّة في طور عبدين فهم أيضاً من الأكراد ولكن عددهم لا يذكر وأهم القبائل اليزيديّة هناك تعرف بال?لكي (تشلكى) ويضرب البدو العرب خيامهم أيضاً في طور عبدين وخاصة في مشارفها الجنوبيّة ولقبيلة كبيرة منها مكانة خاصّة وهي قبيلة (المحلّميّة) ويرجع العهد بها إلى أيام تكملة تاريخ ابن العبري التي سبق أنْ أشرنا إليها والتي كتبها كاتب مجهول سنة 1407 م وهذه القبيلة نشأتْ من التزاوج بين العرب والأكراد مع سيطرة نفوذ العرب ويقال إنّهم نبذوا (كلمة ليست مهذبة وهي غير دقيقة وكان على أصحاب الدائرة وأمانة للتاريخ أن يذكروا أسباب دخولهم في الإسلام وهي قصّة معروفة لدينا عموماً ـ فؤاد) النصرانيّة منذ أكثر من ثلاثة قرون ومعظمهم يقطنون في قضاء عوينة وفي ذلك الجزء من طور عبدين الذي يمتدّ غربي ماردين حتّى دجلة.
وفي طور عبدين ثلاث لغات يتحدّث بها أهلها: الكرديّة والسّريانيّة والعربيّة وكلّ لغة منها قد أثّرتْ في الأخرى تأثيراً عظيماً وأكثر هذه اللغات انتشاراً هي الكرديّة التي يفهمها أيضاً ويتحدّث بها جميع المسيحيّين علاوة على اللغة السّريانيّة واللهجة الكرديّة التي يُتَحدّث بها هناك هي الفرعان الشّمالي والغربي من لهجة الكرمانجي وقد ازدادت معرفتنا بها الآن بفضل البحاث التي قام بها (ليوتش) و (?ريم) و(سوسن) و (ماكاس). ويستعمل اليعاقبة، شأن سائر نصارى طور عبدين وخاصّة طائفة الكلدان لهجة خاصّة من السّريانيّة في التحدّث فيما بينهم. وقد غلب على هذه اللهجة اسم الطوراني أي لغة الطّور وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن اللغة السّريانيّة الحديثة التي يتكلّم بها في الشّرق (في ناحية أورمية والموصل وفي شرقي كردستان) النساطرة والكلدان.
أما لهجة اليعاقبة السريانيّة الحديثة - أو اليعقوبيّة الحديثة - (لم أسمع في حياتي أنّه توجد لهجة يعقوبيّة حديثة، ثمّ هل كانت هناك لهجة يعقوبيّة قديمة، لكي يقال أنه وجدتْ اليوم لهجة يعقوبيّة حديثة؟ فؤاد) فهي أوثق صلة بكثير بلهجة الرّها من تلك اللهجة ونعني بلهجة الرّها اللغة الأدبيّة السّريانيّة. على أنّنا لا نستطيع أنْ نقول إنّها مشتقّة من لهجة الرّها دون أن نزيد هذه المسألة بحثاً، ومع ذلك فإنّها يمكن أن ترد إلى صورة قديمة من صور اللغة السّريانيّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بلهجة الرّها. وقد جمع (?ريم) و (سوسن) وكذلك سخاو نصوصاً من الطوراني ذات شأن في فهم هذه اللغة وقد سجّل (?ريم) و (سوسن) سنة 1869 م نصوصاً استقياها من فمّ رجل من مذيات وقد استطاع سخاو وبوساطة البعثة التبشيريّة الأمريكيّة أن يحصل على نماذج سجّلت بلهجة الطوراني عن قسّيس سرياني وهذه النماذج المخطوطة محفوظة بالمكتبة القوميّة ببرلين. ولم ينشر من نصوص هذه النماذج حتّى الآن إلاّ نصّ واحد وهو قصّة الحكيم حيقار.
أما النصوص الآراميّة التي جمعها (?اريسو) سنة 1898 م من طور عبدين فتختلف في لغتها اختلافاً كبيراً عن النّصوص التي جمعها (?ريم) و(سوسن) و(سخاو) ولعلّه يحقّ لنا أن نتساءل: هلْ نحنُ في هذا المقام بصدد لهجة محلية سريانيّة أخرى حديثة؟ وقد أعدّ (أشبي?ل) بحثاً ممتازاً في ذلك يعتمد في جوهره على النصوص التي نشرها (?ريم) و (سوسن).
ومما كتب في ذلك أيضاً الإلمامة النحوية واللغوية للطوراني التي نشرها (نولدكه) وقد حدّد ?ريم و سوسن النطاق الذي يتحدّث فيه بلهجة اليعاقبة الحديثة وفي مواضع مختلفة من كتابات (?ريم) وأوردها (سخاو) في قائمة بالأماكن التي لا تزال حتّى اليوم (أو قلْ سنة 1870 - 1880) تتحدّث بلغة الطوراني وثمّة أيضاً قرى سريانيّة في طور عبدين لم يعدْ يدور الحديث فيها باللغة الآراميّة بلْ يقتصر هذا الحديث على اللغة الكرديّة. ويفهم العربيّة معظم سكّان القرى الكبيرة ويتبع الحديث بها في الجنوب تجاه سهول أرض الجزيرة وبخاصّة في ناحية (ماردين) وتنتمي لهجة ماردين التي تتميّز بخصائص كثيرة إلى مجموعة دجلة من لهجات أرض الجزيرة وهي مرتبطة أوثق ارتباط بالعربيّة التي يتحدّث بها القوم حول (الموصل) وقد جاء في (كوينيه) ص 412 - 496 أنّ عدد القرى في سنجق (ماردين) الذي يشمل مع ذلك أرضاً لا تدخل في طور عبدين قد بلغ 1062 قرية ومن هذا العدد 410 قرية في قضاء (مديات) و 97 قرية في قضاء (عوينة) ويقدّر تاريخ سرياني مخطوط عدد القرى في طور عبدين بمائتين وثلاث وأربعين قرية و أورد (سوسن) قائمة بأسماء 168 قرية. وقد ذكرنا من قبل عدد القرى السّريانيّة في طور عبدين وفي معظم الأماكن خليط من الجنسيّات والنّحل بين السكّان ففيهم مسلمون أكراد وفيهم نصارى يعاقبة وأرمن وغير ذلك وما من شكّ أنّ طور عبدين كانت في الأزمان القديمة أفلح زراعةً وأعمر سكّاناً وشاهدٌ على ذلك كثرةُ الأطلال القائمة فيها.
أما البلدان الكبيرة القائمة على أكتاف طور عبدين مثل (ماردين، وحصن كيفا، وجزيرة ابن عمر، ونصيبين) فانظر بشأنها في الموادّ الخاصّة بها في هذه الدائرة. وقصبة وسط طور عبدين عينها هي (مديات) بالسريانيّة (مدياد) التي تقوم في سرّتها تقريباً بسهل بديع تحيط به التلال 3400 درجة فوق سطح البحر على خط طول 25 41 درجة شرقاً تقريباً وخط عرض 25 73 درجة شمالا أو نحو ذلك.
ويقوم المكان العريق في القدم الذي ذكر من قبل في النقوش الآشوريّة الأولى باسم ميتانة عند مفترق طريقين كبيرين يجتازان طور عبدين من الشمال إلى الجنوب (نصيبين - حصن كيفا) ومن الشرق إلى الغرب (جزيرة ابن عمر - ماردين) ويُقال إن مديات كان يسكنها قبل الحرب العالميّة الأولى سكّان كلّهم من النصارى ومعظمهم من اليعاقبة وقد بلغ عددهم حوالي 5000 نسمة ونذكر من الأماكن الكبيرة الأخرى في طور عبدين(صَوْر) وهي قصبة قضاء عوينة على مسيرة 15 ميلا شمالي شرق ماردين وإلى الشرق منها قرية (كلّث) ويقال (قلّث) وإلى الجنوب الشرقي منها (اربِل) بالكرديّة (هَبْكير) وإلى الشمال من (مديات) في منتصف الطريق بينها وبين حصن كيفا (كفرجوز) بالكرديّة كارجوز وهي قرية كرديّة كبيرة بعض الشء، يقوم في جوارها مزار يحجّ إليه المسلمون وهو تل عباد (عَبَادة) الذي يميل (رولنسون) إلى القول بأنّه هو عين مدينة (ت?را نوكرتا) الملكيّة الأرمنية القديمة. وعلى مسيرة إثني عشر ميلاً من شمالي مديات قرية (حاح) وبها أطلال كثيرة تشهد بماضيها المجيد.
ونذكر أيضاً زاز و عرناس وكلتاهما شمالي غرب حاح، الأولى على مسيرة ساعة ونصف منها، والثانية على مسيرة ثلاث ساعات القرية الكبيرة: مدّو، وهي على مسيرة إثني عشرميلاً جنوبي شرق حاح، وعلى مسيرة ساعتين غربي مدّو تقوم القرية المسيحيّة الكبيرة باسبرينة (بالسريانيّة القديمة بيت سبرينة) ولها ماض ذو شأن في التّاريخ الكنسي لطور عبدين، وعلى مسيرة عشرين ميلاً جنوبي شرق ماردين تقوم على الأنوف الجبليّة الجنوبيّة الغربيّة لطور عبدين الأطلال العظيمة الرّائعة لمدينة دارا التي بناها أنسطاسيوس الأول( 491 - 571) م ثمّ أعاد تحصينها يوستنيانوس بولس (نسبة إلى انسطاسينوس) ولا تزال تحمل اسمها قرية مجاورة لها. ولطور عبدين شأن عظيم الأهميّة في تاريخ الرّهبنة عند المشارقة، وقد جاء في رواية شائعة في دوائر النساطرة أنّ القديس يوجين قدم من مصر في القرن الرّابع الميلادي وأقام ديراً في الجزء الجنوبي من طور عبدين، وبذلك وضع الأساس لنظام الأديرة الذي اتّسع اتّساعاً عظيماً في أرض الجزيرة.
ويقال أنّ هذا القدّيس الذي اهتدى به أتباع كثيرون قد دفن بعد وفاته سنة 363 م في الدّير الذي أقامه. وليس المقام هنا مقام المناقشة لحقيقة أسطورة يوجين السّريانيّة، وحسب أن نشير إلى الإعتراضات الشّديدة عليها التي أثارها (لابور) و مهما يكن من أمر فإنّ من الثّابت أنّ طور عبدين غدتْ في القرون الوسطى موئلاً مستقرّاً للرهبان في الشّرق شبيهاً بجبل أتوس في الغرب وقد روى (ينبور) أنّ هذه الأرض الجبليّة تضمّ أطلال ما يربو على سبعين ديراً، وليس في هذا الأمر ما يدعونا إلى الظنّ بأنّ تلك الرواية تشوبها المبالغة، ذلك أنّ طور عبدين في الوقت الحاضر لا تزال حافلة ببقايا الأديرة القديمة، وليس من بينها إلاّ عدد قليل تناولته يد الترميم ولا يزال يقيم فيه بعض الرّهبان إلى وقتنا هذا. وإنّا لنشاهد بعد كنائس كبيرة هناك يرجع معظمها إلى ما بين القرنين السّابع والعاشرالميلاديّين. وهذه الآيات من روائع العمارة الكنسية في المشرق أيام القرون الوسطى لها شأن كبير في تاريخ الفنّ المسيحي، وقد درسها حديثاً منقبّون مختلفون نخصّ بالذكر منهم (?ونيون) و بل و ?روسو و كوير و ل?ونيون مكانة خاصّة اكتسبها بجمعه الكتابات السّريانيّة الكثيرة المنقوشة في الكنائس والأديرة التي زارها. وقد عني سترزيكوفسكي وكوير وهرزفلد عناية خاصة بتاريخ عمارة طورعبدين وتقدير قيمتها على اعتبار أنها وثائق في تاريخ الفن.
والنظرية التي قال بها ستريزكوفسكي: وهي أن فن الأديرة الجزيري أقدم من الفنّ السوري وأنّ بلاد الجزيرة وخاصة طور عبدين هي مهد الرّهبنة وليستْ مصر قد فنّدها في رأيي على أسس سليمة كوير وهرزفلد اللذان انتصرا للقول بأنّ العمائر السوريّة المتقدّمة لها الأوليّة على العمائر الجزريّة متأخرة العهد.
والدير الأم لجميع الأديرة الجزريّة في طور عبدين وهو دير مار أو?ن (أوجين) بالكرديّة مروكه الذي ذكرناه آنفاً يقوم على مسيرة 13 ميلاً إلى الشّمال الشّرقي من ماردين على خط طول 41 30 شرقاً وخط عرض 730 شمالاً معلّقاً في أنوف المنحدرات الجنوبيّة للهضبة. وكان هذا الدير في القرون الوسطى المقرّ الرّئيسي للنساطرة الغربيّين، ويسكنه الآن رهبان من النساطرة.
وعلى مسيرة نصف ساعة من مار أو?ن دير آخر قديم هو دير مار يوحنّا الذي أسّسه حواري (تلميذ) القدّيس يوجين ونسب إليه. وكان من أهم أديرة طور عبدين في القرون الوسطى دير إبراهيم الذي أشير إليه في الكتب السّريانيّة بقولها الدير الكبير فحسب، جبل إزلا وكان مؤسسه هو صاحب الرّهبنة النسطوريّة المشهور إبراهيم الكسكري المتوفّي سنة 588 م وقد أراد هوشمان أن يجعل هذا الدير هو عين الدير القائمة أطلاله عند مار باب على مسيرة ثلاثة أميال من الجنوب الغربي لمار أو?ن والذي ذكره تايلور وليس هذا الرّأي ممكناً والأصوب أنْ نجعله هو عين دير مار إبراهيم الذي زاره هنريخس في الرّحلة التي قام بها سنة 1911 م.
والدير الرئيسي بطور عبدين في أيامنا هذه هو دير كرتمين (دير مار ?بريئيل) بالسريانيّة القديمة: كرطمين وأحياناً قرطمين على مسيرة إثني عشر ميلا تقريباً من مديات وهو أيضاً أعظم المزارات التي يحجّ إليها اليعاقبة وهذا الدير، ولعلّه أشهر دير لليعاقبة في آسيا كان في القرون الوسطى من أغنى الأديرة في الشّرق كلّه وأعظمها توقيراً وكان في عزّ مجده يسكنه 300 راهباً، أما في الوقت الحاضر فلا نجد فيه إلا إثني عشر راهباً وحسبْ، ويُقال إنّه شيّد سنة 399 م في عهد أركاديوس. ويقال أيضاً أنّ الذي أسّسه هو القديس صموئيل توفي حوالي 406 م والقديس سمعان توفي سنة 433 م ولا يزال يغلب عليه بين السريان اسم مار جبريل (?بريئيل) نسبة إلى راهبه الأكبر القديس جبرائيل توفي سنة 667 م وقد جرى المسلمون واليونان على تسميته بدير عمرو وهو عين دير عمر ويروى أنّ الخليفة عمر، أيام الفتح الإسلامي جعل للراهب الأكبر حقّ ولاية قضاء جميع النصارى في هذه البلاد. وفي كرتمين ثلاث كنائس، أي اثنتان علاوة على الكنيسة الكبرى المنسوبة إلى القدّيس جبرائيل، وهذه الكنائس نذرت للعذراء مريم والشّهداء الأربعين. وبناء كنيسة القديس جبريل التي ربما كانت أقدم كنيسة في البلاد مثال لكنائس الرهبان في طور عبدين وقد أقيمت قرية قرطمين وسط أطلال دير آخر هو دير القدّيس سمعان.
ومن أقدم الكنائس في طور عبدين كنيسة مار قرياقس في عرناس وكنيسة مار عزازيل في كفرزه على مسيرة ساعة ونصف الساعة من جنوبي شرق عرناس وهما من حيث الطراز وثيقتا الصلة بعضهما ببعض. ويقول ?وير إنّ قرية حاح هي المركز الأثري لطور عبدين، وفيها كنيستان قديمتان عظيمتا الشأن: كنيسة مار سوفو (سابا) وكنيسة العذراء، وهذه الكنيسة غنيّة جداً بزخارفها، وقد وصلت إلينا سالمة أو تكاد منذ وقت بنائها. ومن أكثر كنائس القرون الوسطى حداثة كنيسة مار يعقوب في (صلاح)، وقد أصبحت هذه الكنيسة أهم كنائس البلاد حين غدت مقرّ بطرك لطور عبدين مستقلّ عن غيره.
ونذكر أيضاً أنّ ثمّة أطلالاً لأديرة وكنائس عدّة في باسبرين ولكنْ معظمها حديث النشأة. وفي الختام نذكر دير الزعفران المشهور على مسير ساعة من ماردين الذي ظلّ حتى سنة 1924 م مقرّ بطريرك اليعاقبة الذي يعيش الآن في حلب (وصار بعد ذلك حمص ثمّ إلى دمشق ولغاية اليوم).
وقد كان في منطقة طور عبدين أيام الرومان البوزنطيين كما ذكرنا من قبل، عدد كبيرمن الحصون أقيمتْ في غالب الأمر لحماية الدولة الرومانية حدودها من عدوان الفرس. ونستطيع أن نشاهد أطلال هذه الحصون في عدّة أماكن مثال ذلك ?انتوف الذي ذكره الكتّاب البوزنطيون ولعلّه هو عين قلعة حاتم الطائي الحديثة على مسيرة ثلاث ساعات إلى الجنوب من باسبرينة وثمّة قلعة أخرى تردد ذكرها في تواليف اليونان والرومان القديمة باسم سربانه وقد وصلتْ إلينا أيضاً صيغتان هما سزاره و سِزوران ولعلّهما تحريفان والراجح أنّ موقعها في موقع سيروان الحديثة ويمكن الرجوع إلى ?وير بشأن القلاع الأخرى المشهورة مثل "القلعة الجديدة" ومن الواضح أنّها" قلعة جديد" الحديثة على مسيرة ساعتين ونصف الساعة إلى الجنوب من قلعة حاتم الطائي وقلعة الهيثم بالسريانيّة (حصنا د هيثم) وهي التي يتردد ذكرها في المصادر السريانيّة والعربيّة، ولا شك أنّها قامت بالقرب من باسبرينة. أمّا قلعة فنك على الضفة الشماليّة لدجلة أعلى جزيرة ابن عمر والتي ذكرت في عهد متقدّم يرجع إلى الكتّاب اليونان الرومان القدماء باسم أي قونيقة وكان لها شأن مشهود في تاريخ الكرد.
وقد ذكر طور عبدين الرحالة الأوربي شيل الذي يعتبر أول أوروبي تغلغل في قلب طور عبدين سنة 1836 م و ده بوفور سنة 1840 م و ?ولد شمد سنة 1864 م و ثمّة كثير من الرحّالة لم يبلغوا إلاّ الحافّة الجنوبيّة لطور عبدين حين اتخذوا الطريق من ديار بكر إلى الموصل مارّين بماردين ونصيبين مثل نيبور وبكن?هام 1816 م و سوثكيت و بادجر و بانسة و ويكرام أو غيرهم، مثل لابارد 1849 م الذين ساروا من الشمال (أرمينية) إلى الموصل فلم يلمّوا إلاّ بالحافّة الشرقيّة لطور عبدين 1836 م و شلافلي على مياه دجلة على متن المراكب التي تعرف باسم (كلك) من ديار بكر إلى الموصل تزوّدنا بمعلومات عن المشارف الشماليّة والغربيّة لطور عبدين 1837 م وتزيد على ذلك أنّ تقارير البعثات التبشيريّة الأمريكيّة التي ذكرناها آنفاً فيها الكثير من المعلومات القيّمة عن الأحوال الاجتماعيّة والسّلاليّة في طور عبدين.

انتهت المادّة من الدائرة وقد أتيتُ على نسخها كاملة صباح الثلاثاء المصادف 25 كانون الثاني لعام 1983 أنا فؤاد زاديكه في ديريك (المالكيّة) ومن الله أرجو التوفيق وللأخوة زوّار الموقع الفائدة المرجوّة.