المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أكتوبر فيست بقلم باربارة برونن


fouadzadieke
22-12-2005, 11:26 PM
أكتوبر فيست

بقلم باربارة برونن





http://www.magazine-deutschland.de/sitegrafics/img_top_right_ws.gif http://www.magazine-deutschland.de/arabisch/img/2005-05_Wiesn.jpghttp://www.magazine-deutschland.de/sitegrafics/img_bot_right_ws.gifhttp://www.magazine-deutschland.de/sitegrafics/img_bot_left_ws.gif

في ميونيخ، في هذه المدينة الواقعة في أقصى "شمال إيطاليا" كل شيء له طابع التمثيل، بداية بالأضواء. كل وردة في حديقة، كل قصر، كل كنيسة، كل مطعم، كلها ملك لنا. وحتى كل عازف على صندوق الموسيقى (أورغ دوار)، وكل امرأة. يشعر المرء بنشوة كبيرة عندما يعبر الحديقة الإنكليزية وسط الرياح. هذا النوع من الرياح فريد من نوعه في ألمانيا. إنها الريح النقية المنعشة التي تهدر كالشلال. السماء واسعة بعيدة، والجبال تطل بقوة، خارقة الزرقة السماوية النقية، والنوافير تذر الماء على وجوه المارة. نسمات تهب قادمة من إيطاليا ومتعرجة بين القلاع المنتشرة على جبال الألب، تهب على تنورة (جونلة) المرأة وتفعل فعلها.

أكتوبر فيست (عيد أكتوبر) وسط الرياح. يحشر المرء نفسه ليدخل الـ"فيزة" (المرج)، هكذا يسمي أبناء المدينة عيدهم المفضل، ويتصبب عرقا وسط الزحام الذي يقوده نحو الداخل. وما يلبث المرء أن يطأ المدخل، حتى يشعر بأنه محمول وخفيف الوزن، شيء ما، كبساط الريح يرفعه ويتركه محمولا. وما أن يصبح في الداخل حتى يدرك أن الخروج ليس كالدخول. فهو لن يخرج بسهولة.

الاستعدادات الأولية لأكبر عيد شعبي في العالم تفرض على المتمدنين من أبناء المدينة والدخلاء عليها القيام بترتيب خزانة ملابسهم من جديد وتحضير الملابس التقليدية التي لا يمكن تصور أكتوبر فيست من دونها. يأتي الناس "بالملابس التنكرية". يلتزمون بارتداء الزي التقليدي لولاية بايرن: بنطال جلدي أو قصير (حتى الركبة)، جاكيت تقليدي، قميص من الكتان، ربطة عنق من الحرير زهرية اللون، وفستان شعبي تقليدي. النساء تعقدن الشعر على شكل ضفائر، وترتدين الملابس الأنيقة الطويلة وتكثرن من الزينة، بينما يضع الرجال القبعات التقليدية و"يطلقون لحيتهم".
لا يذهب المرء إلى "المرج" مجرد ذهاب فقط، إنه يستعرض وكأنه على خشبة المسرح.
"أكتوبر فيست" عبارة عن تظاهرة لولاية بايرن يعبر فيها الناس ولو لمرة واحدة في العام عن تمسكهم بالتراث والتقاليد: البنطال الجلدي وآلات النفخ الموسيقية، لهجة ولاية بايرن، الشعور الوطني والسجق المحشو. يعبرون عن تمسكهم بثقافة بايرن المميزة وإخلاصهم لها. إنه أشبه بعيد يجمع بين التمسك بالأرض وبين الاحتفال الكبير.

بالمناسبة: لولا ولي العهد لودفيغ الأول لما كان هناك "أكتوبر فيست". ففي العام 1810 جعل من عقد قرانه على الأميرة تيريزة فون زاكسن – هيلدبروغهاوزن مناسبة لإقامة أول "أكتوبر فيست"، عندما تم تنظيم سباق للخيل في مرج تيريزين. وقد أدى الإقبال الشديد إلى نشوء فكرة عدم اقتصار النشاط على ميونيخ، ولكن تنظيم مهرجانات ونشاطات زراعية ريفية في كافة أنحاء بايرن، تتضمن استعراضات للماشية ومعارض للأدوات الزراعية الحديثة وسباقا للخيل. وانضم فيما بعد إلى لائحة النشاطات صيد الطيور وانتخاب "ملك الرماية" والألعاب النارية. حتى الحرب العالمية الأولى كان المهرجان عبارة عن مناسبة للشعب لمشاهدة ملك بايرن شخصيا (واليوم لمشاهدة المشاهير). ووسط المدخل الرئيسي وأمام "صالة المجد" ليو فون كلينتس بما فيها من تماثيل نصفية لشخصيات مشهورة من بايرن، يطل منذ 1850، التمثال الأسود المحبب إلى قلوب أهالي بايرن والأسد تحت أقدامه، رافعا إكليل الغار فوق أكبر مهرجان شعبي ألماني: 14 خيمة كبيرة تتسع كل منها لحوالي 7000 كرسي إضافة إلى 16 خيمة من الحجم المتوسط والصغير تتسع الواحدة منها إلى 500 شخص جلوسا.
5,7 مليون كأس من البيرة و6 ملايين زائر من كافة أنحاء العالم. قلابتان عملاقتان و 5 ألعاب "قطار سريع متعرج"، 4 قطارات المتاهة السريعة، 34 منصة لرياضة الرمي، 21 دوار أطفال (دويخة) وسيرك فئران، كل هذا مجرد (جزء) من إحصائيات أكتوبر فيست الغنية بالأرقام. أما من الأشياء التي لا يمكن إحصاؤها فهو عدد الدجاجات المشوية وعدد أفخاذ الماشية والسجق التي يتم استهلاكها.
اعتبارا من ساعة معينة يصبح من النادر مصادفة امرئ لم يتناول شيئا من الشراب من زوار أكتوبر فيست، فالمغالاة تجري في عروق سكان هذه المدينة الكثيرة الرياح. ولكن غالبا ما يدرك الناس متى عليهم التوقف عن الشراب، أو بعد أي "عيار"، كما يطلق هنا على كأس البيرة الذي سعته ليترا كاملا. حيث يتوقف المرء تماما عند الحد الذي يبقى فيه صاحيا ليستمتع بالحياة وبما يدور من حوله.
في أيام "أكتوبر فيست" تنهار كل الحدود، حتى أن الاعتقاد الشعبي الواسع هنا يقول، أنه من لا يحب المبالغات ويريد الابتعاد عنها، فلن يبقى له مجال للحركة والانطلاقة الروحية. يتجاوز الناس حدودهم رامين بالقواعد الصارمة عرض الحائط. مثل هذه "الخطيئة" الصغيرة لن تؤثر في النهاية على هيبة الولاية وما يعرف عنها من التشدد والالتزام.
نراهم يتنقلون من خيمة لأخرى، تعلو أصواتهم بالغناء. وعندما يقابلون صديقا يربتون على كتفه بقوة حتى ليكاد يقع على الأرض. جنون بسيط يعتري الجميع هنا، المزاج جيد، والوجوه محمرة. "أكتوبر فيست" عبارة عن اسم آخر، لعيد، نشم فيه شيئا ما، أنى اتجهنا، كما نسمع الصرخات والضحكات العالية. عيد المشاعر الجياشة. هنا يسود المزاج الجيد، كما ينتشر الألم والعواطف والكراهية والحب، وكما تتنافس الشاعرية مع المشاجرة.

نقرأ لوحات الأسعار المنتشرة على طاولات البيع وهي تحمل أغرب الكلمات والمصطلحات (بلهجة بايرن): وجبات غريبة وشرحها باللهجة العامية أغرب، كلمات "ألمانية" ما أنزل الله بها من سلطان. دروس في اللغة من الدرجة الممتازة. على المرء فعلا الحضور إلى هنا ليشاهد بأم عينه الرجال بلحياتهم المصطنعة. اللحية التي تمثل الرمز الملكي الذي يسمو بالرجل عاليا ويمنحه مكانة نادرة الوجود، وليشاهدهم أمام أكشاك الرماية كيف يقومون وبمنتهى البراعة بإطلاق النار على ورود من الورق وإصابتها، كل ذلك لأجل "عيون الحبيبة".

إنها قمة السعادة بالنسبة لأهالي مدينة ميونيخ، أن يكون لهم محافظ للمدينة يقف دوما في آخر يوم سبت من شهر أيلول/سبتمبر (تم تغيير الموعد من تشرين الأول/أكتوبر إلى أيلول/سبتمبر بسبب الطقس) مرتديا "شابر" (مئزر،مريلة) ويحاول إدخال الصنبور في أول برميل للبيرة، معلنا بداية العيد. "أعطني الكأس وغني" وينطلق المهرجان: وتسيل البيرة من البرميل الأول. وبالطريقة التي يراقب فيها أهالي ميونيخ محافظ المدينة وهو "يدق" الصنبور في البرميل، فإنهم يبدون حكاما على طريقة أدائه أكثر منهم شهودا على الحدث. وهم يقررون بكل صرامة إذا ما كان عليهم تغيير المحافظ، ومتى وكيف، من خلال عدد ضرباته بالمطرقة وقوة هذه الضربات. أما المحافظ الذي يفشل في إدخال الصنبور، فيمكنه في اليوم التالي تقديم استقالته.

خير مكان وزمان لدراسة نفسية سكان بايرن هو خيمة البيرة، التي تتحول في الساعات المتأخرة فعلا إلى شيء أشبه بوكر لتناول الأفيون. سكان ميونيخ اعتادوا عندما يجلسون أن يبقوا جالسين في أماكنهم، وأن يستمروا في الشراب عندما يبدؤون به. وفي لحظة ما، لا يستطيعون التمييز بين البقاء والذهاب، وبين الشراب وعدم الشراب، كما لا يستطيعون التمييز بين الكلام والسكوت. وبعد تناول كمية من الشراب ينظرون للعالم على أنه شيء واحد صغير متجانس، إذ يفقدون الشعور بكل شيء.

"أكتوبر فيست" يتنفس البيرة. إنها نسمات من الشعير وماء الشعير تلك التي تهب عبر الميدان.وحيث أن رائحة السكر المحروق تنتشر مع كل نسمة فالريح مشبعة وصحية، كما أنها مفعمة برائحة خشب الشربين الرطب، الذي تصنع من الطاولات. وتتطاير مع النسمات وريقات شجر الخريف بين غيوم متفرقة تتلألأ تحت السماء الزرقاء.
عائلات ميونيخ تغرق بعد الظهر من جديد في عالم الأحلام، تجمعات الأصدقاء حول الموائد، ضحكات متعالية يتخللها بكاء أطفال وأصوات سكب البيرة وشربها. هنا على موائد العائلات يجلس الرجال بألوان مختلفة. السماء تزداد عتمة كلما مالت الشمس، ومع الغسق تتشابه الوجوه وتصبح ذات لون واحد. إيطالية، أسترالية، اسبانية، يابانية سرعان ما تغرق جميعها في عتمة الليل. مزيج من رائحة المسك والشعير والسجائر يتصاعد ليصل حتى الغيوم، ومن يتأمل هذا المشهد فإنه يرى أكواب البيرة وعلب التبغ تزين الهواء.


باربارة برونن، كاتبة وصحفية تعيش في ميونيخ.