Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الادبي > نبض الشعر > منتدى فرعي خاص بالأديب الشاعر صبري يوسف > قصة

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-08-2009, 08:24 PM
SabriYousef SabriYousef غير متواجد حالياً
Silver Member
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 594
افتراضي رنين جرس المدرسة

رنين جرس المدرسة



قصّة قصيرة


إهداء: إلى صديقة غربتي الطويلة الشاعرة سوزان عليوان


العام الفائت كنت أرفعُ كأس المغتربين وأرقصُ مثلَ زوربا بينَ أحضانِ الأحبة، واليوم تتراقصُ أمامي ساعات الوداع والعناقات الطويلة في المطارِ البعيد.
ما كنتُ أتوقَّعُ أبداً هذه النتائج الموجعة. غليتُ في جلدي عندما عبرَتْ طائرتي المسافات. ما كان سهلاً عليّ وأنا أنظرُ من النافذة إلى مدينتي والطائرة تقلُّني إلى عالمٍ مجهول! .. كانت أنظاري مشدودة نحوَ مدينتي المتلألئة إلى أن غابَتِ المدينة في جوفِ الظلام. وعندما غابَ تلألؤها عن أنظاري شعرتُ بحزنٍ عميق.

راودني لبرهة من الزمن فيما لو تعطَّل محرَّك الطائرة وأنا في أجواءِ السماء. تلمَّسْتُ ذاتي وتأكَّدْتُ أنّي لستُ في حلم .. أمسكتُ قلماً ولكنّ يدي المرتعشة ما كانت تستطيع أن تخطَّ كلمة .. وتمرُّ الساعات بهدوءٍ ثقيل.
نظرتُ إلى الأرضِ، الغيومُ كانت تتماوجُ في أحضانِ السماء. كم كانت بيضاء، فجأةً عبَرَت الطائرة أجواءً صافية. يا إلهي! .. كم كان ازرقاق السماء مبهجاً! .. نظرتُ إلى الأسفل، رأيتُ البحار الواسعة، جمالها شتَّتَ جزءاً من همومي، وتراءَت لي المدن صغيرة ومبعثرة بينَ أراضٍ مكثَّفة بالاخضرار، والطرق كانت رفيعة وطويلة تنتهي في عمقِ الغابات والمروجِ بشكلٍ حلزونيّ خلاب!

كانت هذه أوّل مرّة أحلٍِّقُ عالياً فوق الغيومِ. تذكَّرتُ الطيور وحسدتها على هذه النعمة. وتذكَّرتُ مقطعاً نثرياً قصيراً كنتُ قد كتبته في إحدى رحلات (عين ديوار) بصحبة الأصدقاء والصديقات. وبدأتُ أردِّدُ هذا المقطع:

" وحدها العصافير / تعانِقُ / زرقةَ السماء ..!".

رنَّ جرس ساعتي فقطعني من لذّةِ الشرودِ. أشارَت الساعة إلى السابعة صباحاً. سألتُ نفسي: هل والدتي نائمة الآن أم أنّها ستسهرُ حتّى موعد هبوطِ الطائرة؟
الأمّهاتُ يحملْنَ بين جوانحهنَّ أعظمَ عاطفة على امتداد كلّ الأزمنة. جرفتني الأسئلة صوب أزقَّتي ونهضَتْ ذكريات ثلث قرن من الزمن تتراقص أمامي وكأنّها لوحة تشكيليّة، شعرتُ أنَّ لوحةَ العمر تناغمَت فيها الألوان في بعضِ الجوانب، وتنافرَت نفوراً غريباً في بعض الجوانب الأخرى، وفي عمقِ اللوحة كانت التناقضات اللونيّة باديةً للعيان!

هطلَت الأسئلة عليّ فهربتُ منها، لكنّها لاحقتني فاستسلمتُ لها عندَ الشفقِ الأخير .. ثمَّ أخذتُ غفوةً .. وبعدَ لحظات أيقظني من غفوتي نداءً يقول:
الطائرة ستهبطُ بعدَ دقائق، يرجى ربط الأحزمة. تمتمتُ .. الهبوط على أرضٍ غريبة يوقظُ الإنسان من غفوته، ويعيد حساباته من جديد.

.. ومرَّت الشهور والليالي الحالكات، وكم من الحسابات ماكانت تخطر على بال! .. وبلعني الشوق إلى تلكَ الصحارى، أجل .. إلى تلكَ الصحارى! .. محطَّات القطارات تلقَّفتني، سرتُ مترنِّحاً وشارداً في أزقِّة المدائن. كنتُ أنظرُ إلى الخلفِ، الفتيات الجميلات كنَّ يمارسنَ الفرح مع فتيانهنَّ عندَ مفترقِ الطرقات وعندَ مداخلِ الحدائق .. كان العناق يبدو أمامي وكأنّه جزء من الطبيعة الخلابة، أو علامة من علامات الربيع. حاصرتني أسئلة عديدة، نحيّتها جانباً ، لم تتنحَّ، ظلَّت معلّقة بين أجنحة الذاكرة.
قادتني قدماي إلى إحدى الحدائق العامّة. كانت الحديقة مزدانة بالورود والأطفال. ألقيتُ نظرة على ألعاب الأطفال. وقعَ بصري على طفلٍ في الخامسة من عمره تقريباً. كان يلعب مع أمِّه بفرح، دحرجَ نفسه على عشبِ الحديقةِ، قبَّلته أمُّه بفرح وحضنته بحنان أموميّ عميق. فجأةً نهضَتْ أمامي طفولتي البائسة متراقصةً أمام ناظري، وتداخلَ المشهدان، مشهد الطفل الماثل أمامي وهو يلعب مع أمِّه ببهجة، ومشهد الطفل المقهور الّذي كان (يغلي في داخلي)! .. سرتُ بغضبٍ بضع خطوات ثمَّ رجعتُ أراقبُ مرَحَ الطفل مع أمِّه وبدأتُ أسخرُ من أبجديات طفولتي البائسة. هذه الأبجديات التي حرقَتْ أجنحتنا أثناء الظهيرة الحارقة، ومعَ هذا حنين غريب كان يشدُّني إلى أزقَّتي اليتيمة التي ترعرعتُ فيها. تراقصَت أمامي ذكريات الطفولة بصورها الملوّنة بكلّ ألوان الفرح والبؤس والشقاء دفعةً واحدة. ثمَّ قفزَ إلى ذهني مشهد من زمن الطفولة لا أنساه أبداً واستقرّ بكلِّ تفاصيله المؤلمة أمامي. تلمَّستُ أخمصَ قدمي ولاح لي في الأفقِ البعيد كيف كنتُ أنطُّ كقطٍّ برّي حافي القدمين، فانغرسَتْ زجاجة مكسورة في باطن قدمي اليمنى، عبرت سنتيمترات في لحمي الطري. عضّيتُ شفتي السفلى ثمَّ نظرتُ إلى حذاء الطفلِ الجميل، الّذي كان ما يزال يلعب مع أمِّهِ، وأنا كنتُ ما أزالُ أتواصلُ مع أشيائي المحترقة هناك .. أشيائي القابعة في الرماد!

كم كنتُ أرغبُ أن أعودَ طفلاً وأمارسَ طفولتي بطريقةٍ أحبّها أنا، وازدادَ المشهدُ الماثل أمامي تلوُّناً، ثمَّ انهمرت من عيني دموعاً غير مرئية، كانت دموعي تنسابُ بغزارة نحوَ سماوات الروح. مشيتُ تاركاً الطفل يلعبُ مع أمِّهِ، وبعدَ لحظات عدتُ أدراجي كي ألقي نظرة أخيرة على الطفلِ. شعرتُ بحزن لأنني لم أجده. وراودني أنّ ما رأيته منذ قليل ربّما كان من بنات خيالي .. ولا أظنّني كنتُ حالماً.

وبتثاقلٍ جررتُ خطاي، بلعتني الشوارع الطويلة وقذفتني في الزحام. تعبتُ من الزحام وبدأتُ أبحثُ عن أربعة جدران ووسادة صغيرة، أسندُ عليها رأسي. آهٍ .. كم كنت بحاجة إلى نومٍ عميق ينسيني هموم الحياة! .. أينَ أنتِ أيّتها الجدران الأربعة، وأيّتها الوسادة؟ .. ازدادَ البحر تلاطماً، تمتمتُ لاعناً هؤلاء الّذين اغتصبوا أشيائي الجميلة وكسروا ألعابي وأدخلوني في كهوفٍ مظلمة وسراديب قاتمة تعشعشُ فيها الغربان، وأجبروني أن أعبرَ أنفاقاً ضيّقة تؤمُّها الجرذان والقطط البرّية!

الزفيرُ الّذي أطلقتهُ حرّكَ وريقاتِ الزهور. توقَّفتُ قليلاً وملأتُ رئتي من عبقِ الزهور. سمعتُ صوت خطوات متثاقلة ، التفتُّ خلفي .. شهقتُ ذاهلاً، فتاة جميلة عابقة بالعطور مرّت على مقربةٍ منّي. ابتسمتْ معي فجاريتها الابتسامة، وبابتسامتها أخرجتني من أحلامي المتكسّرة .. وأيقظَتْ فيَّ حنيناً غريباً ومنعشاً إلى عالم الأنثى .. تذكَّرتُ الأنثى المقهورة هناك خلفَ البحار، وشعرتُ وكأنّي أسمعُ صوت قهقهات صديقاتي وأصدقائي البعيدين .. فجأةً وجدتُ نفسي في إحدى الحدائق. فتحتُ صدري مستنشقاً رائحة العشب النديّ، ورميتُ جسدي المنهوك على العشبِ، مدحرجاً نفسي كالأطفال، ولكنّي سرعان ما تذكَّرتُ مكالمة هاتفيّة هامّة .. فنهضتُ وأخرجتُ من جيبي قصاصات من الورق ودفتراً صغيراً مكثَّفاً بالأرقام. سرتُ نحو ناصية الشارع المتاخم للحديقة. وفيما كنتُ أقطع الشارع، مرَّت سيارة بسرعةٍ فائقة على مقربةٍ منّي فجنَّ جنوني. أحدهم لكزني (مشيراً للإشارة) .. نظرتُ إلى الخلفِ .. شعرتُ بخيبة في نفسي. (الإشارة كانت حمراء) .. همستُ لنفسي:
لا بدَّ من الانتباه إلى إشارات المرور وحركة المشاة .. ولكنّ الشرود كان يقذفني أحياناً هنا وهناك، فكانت الألوان تغدو أمامي ضبابيّة غير واضحة المعالم.

وهناك .. انتظرتُ قليلاً .. وعندما جاء دوري تراقصَتْ أَصابعي على الأرقام. الطنين من الجهةِ الأخرى كان طويلاً، أعدتُ الكرّة من جديد، فاستقبلني الطنين الطويل مرّةً أخرى. وازدادَت معي عدد الكرّات ثمَّ التقطته أخيراً.

آلو .. آلو! ..
أيوه .. مين؟ ..

وازدادَت معي الأرقام يوماً بعد يوم. عدتُ أدراجي خائباً .. ناسياً محفظتي والدفتر الصغير. أحدهم ناداني وسار خلفي بخطى سريعة، استوقفني وهو يلهث ثمَّ أعطاني محفظتي ودفتري .. شكرته بامتنان. هزَّ رأسه مبتسماً ثمَّ غابَ بينَ المارّة.
راودني في تلكَ اللحظات، أسئلة تحمل بينَ ثناياها اختناقات العمر. ولم تهدأ الأسئلة، بدأت تغلي في ذهني .. وقفتُ موجِّهاً أنظاري بعيداً .. بعيداً، ثمَّ همستُ متسائلاً:
هل هذه المسألة تعود إلى تربية (الشاب)، أمَّ أنّها تعودُ إلى جملة من التربيات المنزليّة والمدرسيّة والشارع النظيف؟!
تماوجَتْ أَمامي باستياء قذارات الشارع المخيف الّذي كان يحاصرني وكأنّه أخطبوط مسموم الألوان!

(عفواً) .. الشارعُ كطبيعةٍ صامتة، كنتُ أحبّه حبّاً جَمَّاً، وكان ملتحماً بشهيقي وزفيري. ولكن احتراقات أجنحة الشوارع كانت تمتصُّ الأوكسجين الّذي أستنشقه، لهذا كان يغدو الشارع أمامي وكأنّه أخطبوط مسموم الألوان.
و(الشارع هناك!) .. هو شارعان، شارعٌ محترق الأجنحة، وشارعٌ مجصَّص مقولب (بالجبصين)، يعيش حالة صحراويّة صامتة جدّاً. ونحنُ المشتعلون في وضح النهار، نحبُّ شوارعنا رغم تقلباتها الصحراويّة المجصّصة! .. نحبّها لأنّها شوارعنا ولأنّنا نبتنا فيها .. ولكن! .. ولكن ماذا؟ .. آهٍ .. دعكَ الآن يا قلبي من تفاصيل انشطارات الروح!

كانت أصوات السيارات تغيظني، سرتُ على غير هدى. كنتُ أحدِّقُ بالمارّة دونما قصد، وكانوا يتجنَّبون نظراتي الحادّة. أخذتُ من رصيفِ الشارعِ مقعداً لي، وأخرجتُ مناديل من جيبي وبدأتُ أكتبُ عليها ما تمليه مرارات زمن الطفولة المكتنـزة في أعماق الذاكرة. أحد العابرين توقَّف بالقربِ منّي، ووضعَ قليلاً من النقود على المنديل الّذي نقشتُ عليه آهاتي ووضعته جانباً. كنتُ غائصاً مع عالمي (الألميّ)، فلم ألاحظ حركات بعض المارّة وهي تنحني وتضع نقوداً على منديلي المخطوط منذ لحظات. تَمْتَمْتُ (هؤلاء البشر أمرهم غريب)، جفَّ ريق قلمي .. نهضتُ قاصداً أحد الحوانيت الكبيرة. تعثَّرَتْ قدماي عندما عبرتُ مدخل الحانوت. ألقيتُ نظرة كئيبة على موجودات الحانوت المصفوفة بشكلٍ بهيج.

تذكَّرتُ الأطفال البائسين هناك عندَ الصحارى البعيدة. اقتربتُ من الحلوى، كالأطفال سال لعابي. ناجيتُ نفسي: (آهٍ .. يا أيُّها القلب القابع تحت عباءة مشتعلة! . وأنتِ يا ذاتي، لماذا أراكِ تزدادينَ تهشُّماً؟!).
لفتَتْ انتباهي الأقلام الملوَّنة. تفقَّدْتُ جيبي. كانت محفظتي تنام بمرارةٍ واضحة في جيبي الخلفي. قمَّطتني الغربة ثوب العذاب، وانهمرَت الدموع من أذنيّ. لم تَعُدْ مقلتاي تتحمّلان الدموع المنهمرة على خدّي اليتيمين.

تذكَّرْتُ الأيام (السعيدة) الّتي قضيتها بينَ أحضان أصدقائي وأحبّائي. هززْتُ يدي اليمنى في الهواء، ساخراً من مستقبلي الضبابيّ .. وهمستُ للبحر، ولكنّ البحر كان منهمكاً بهمومه هو الآخر. حتّى البحار والأشجار والأزقّة لها همومها!
تأرّجحَتْ أحلامي ما بين المدِّ والجزرِ ، ثمَّ غاصَت رويداً .. رويداً إلى القاع. وبدَتْ لي أبجديات الفرح والعشق مقلوبة رأساً على عقبِ. شطرتني الأحلام شطرين وجرفني الحنين إلى والديّ العجوزَين. حاصرتني مشاهد الوداع لكنّي نحّيتها جانباً، فتوارَتْ مختبئةً بين هضابِ الذاكرة، تتحيّن الفُرَص لتنهضَ وتتبرعمَ أمامي.

استقبلتني الشوارع الطويلة، سرتُ وحيداً، تائهاً في معمعانات المدينة الصاخبة. تهاطلَت عليّ الأسئلة مثل رذاذات المطر. كان الشارع مكثَّفاً بالمارّة والسيارات والضجيج، فازداد ضجيجي الداخلي ضجيجاً. ورغم كلّ أنواع الضجيج كنتُ أسمعُ رنين جرس المدرسة يأتيني من بعيد. وارتسمَت أمامي السهرات الممتعة التي قضيتها مع أصحابي في غرفتي المتواضعة الفسيحة.

وفيما كنتُ غائصاً في عالمِ البحار والمسافات، توقَّفَتْ فجأةً أمامي إحدى الفتيات العابرات وأمعنَتِ النَّظر في عينيّ. كانت ترغب أن تتجاذب معي أطراف الحديث، أو هكذا خُيِّلَ إليّ. لَمْلَمْتُ قلبي المدمى ثمَّ هربتُ من ذاتي، لكنّي تعبتُ من الفرار .. وبإيقاعٍ هادئٍ نبرتُ:
(.. كم من الهموم / أيّها القلب المقمَّط / بكلّ أنواعِ الغربة! ) .. ردَّدتُ هذا المقطع عدّة مرّات وشدَدْتُ قبضتي اليمنى بقوّة ثمَّ ضربتها براحةِ اليد اليسرى وسرتُ بغضبٍ في الزحام. ارتطم رأسي بفتاة كان يفوح منها عبير الحياة. اعتذرتُ منها بارتباك. ارتعشَتْ شفتاي. لم تقطع الفتاة نظرها عنّي، كانت مشدوهةً، تكلّمنا بلغةٍ صامتة، قبَّلتها بطريقةٍ ذهنيّة، وتراءت أمامي دفعةً واحدة (خزعبلات وعُقَد الشرق حول المرأة) .. هيَّأتُ نفسي أن أسألها سؤالاً، وقبل أن أفتحَ فاهي عبَرَتْ الشارع المحاذي للحديقة. أسرعتُ الخطى نحوها. لكنّها غابَتْ في الزحام، تاركةً خلفها عبيرها يتوغّل في قلبي. وقفتُ ذاهلاً ثمَّ توجَّهتُ نحو سور الحديقة وشممْتُ زهورها. تساءلتُ:
هل كلّ هذه الرائحة الفوّاحة تأتي من الزهور؟! .. همستُ في سرّي، يبدو أن عبق الأنثى امتزجَ سريعاً مع أريجِ الزهور. بوّابة الحديقة كانت تنتظرني .. عندما عبرتها تفاجأتُ لمشهدِ عاشقة تحضنُ عشيقها.

كانت مرتمية بين أحضانه كالحمامة الوديعة. قبلاتهما كانت تشبه تغريد البلابل في أوائل الربيع. وقبل أن يودّعها العاشق، قدَّمَ لها وردةً حمراء، شهقْتُ شهيقاً عميقاً ثمَّ زفرتُ شهيقي المكتوم بشكلٍ متقطِّع وبدأتُ ألعنُ التقاليد المجنونة التي تخنق الأنثى، هناك حيث الصحارى القاتلة.

ناجيتُ نفسي: الأنثى هي يخضور الحياة، ولكن هذا اليخضور مسكون (هناك!) في كتلٍ يابسة. تشتعل أجنحتها بهدوءٍ مرّ في الليالي القمراء، وليالي الشتاء الباردة.
وأمّا (هنا!) .. فالأنثى تتبرعم شامخةً بانوثتها، تعتـزُّ بيخضورها العابق، ويتهاطل رحيقها على الشبّان كما يتهاطل ثلج استوكهولم على الحدائق والمروج.
كنتُ غائصاً في متاهات غربتي .. وقفتُ موجِّهاً أنظاري نحوَ الشواطئِ البعيدة .. ( .......)

آلاف الأسئلة كانت تموجُ في واحات ذهني .. شعرتُ بلمسة خفيفة على كتفي. رفعتُ رأسي، فغرتُ فاهي ولم أصدِّقْ نفسي. ابتسمَتْ مَعي الفتاة التي قبّلتُها ذهنيّاً منذ قليل. حاولتُ النهوض، لكنّي لم أستطِعْ. انحَنَتِ الفتاة قليلاً ثمَّ أمسَكَتْ يدي ووضَعَتْها على كتفيها وطلَبَتْ منَي النهوض. غمرني الفرح وانتابتني أحاسيس غامضة ومزركشة بألوان غير مألوفة لديّ من قبل.

البحر كان بانتظارنا، العناقُ كان خصباً وملوَّناً كالزهورِ البرّية. وفيما كنتُ أعبرُ بوّابات الفرح، تماوجَتْ أمامي قامات أصدقائي وصديقاتي .. وكنتُ أسمعُ (مثل الغمام) صراخات أزقَّتي تأتيني من بعيد .. وكانت أمواجُ البحر تُضفي على لغةِ الشوقِ والاشتعال توهُّجات غريبة وحنونة للغاية!



ستوكهولم: حزيران 1992

صبري يوسف

كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef1@hotmail.com

التعديل الأخير تم بواسطة SabriYousef ; 14-08-2009 الساعة 08:29 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-08-2009, 09:20 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,743
افتراضي

اقتباس:
آلاف الأسئلة كانت تموجُ في واحات ذهني .. شعرتُ بلمسة خفيفة على كتفي. رفعتُ رأسي، فغرتُ فاهي ولم أصدِّقْ نفسي. ابتسمَتْ مَعي الفتاة التي قبّلتُها ذهنيّاً منذ قليل. حاولتُ النهوض، لكنّي لم أستطِعْ. انحَنَتِ الفتاة قليلاً ثمَّ أمسَكَتْ يدي ووضَعَتْها على كتفيها وطلَبَتْ منَي النهوض. غمرني الفرح وانتابتني أحاسيس غامضة ومزركشة بألوان غير مألوفة لديّ من قبل.

البحر كان بانتظارنا، العناقُ كان خصباً وملوَّناً كالزهورِ البرّية. وفيما كنتُ أعبرُ بوّابات الفرح، تماوجَتْ أمامي قامات أصدقائي وصديقاتي .. وكنتُ أسمعُ (مثل الغمام) صراخات أزقَّتي تأتيني من بعيد .. وكانت أمواجُ البحر تُضفي على لغةِ الشوقِ والاشتعال توهُّجات غريبة وحنونة للغاية!
لديك يا عزيزي صبري جعبة ذكريات مليئة بكل ما هو جميل و متفاعل مع النفس. إني أتابع حرفك الجميل النابض بأريحية البوح, و المتفتّق عن جمالية الشفافية و روح المصداقية, و هذا هو عهدي بك أمينا و صادقاً و وفيا مع نبض حرفك و مع روح فكرك. أشكرك على هذا الإبداع يا صديقي فأنا من أشد المعجبين به لأنه يعانق أحاسيسي و يُطرب مشاعري. شكرا لك.
__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:39 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke