شمّاسة عبد النور

[fouadzadieke]

المقامة الشمّاسيّة

حدّثتني زوجة قرياقس حنّا القسّ، و هي لا تعرفُ الخلطَ و الدّسّ، كثيرةُ المعرفة في تواريخ (آزخ) المُتلَفة وأحداثها القاهرة المُعْصفة. حدّثتني تقولُ وعمر القارئين يطولٌ: "أنّه كان لزوجها عمّةٌ تُدعى (شمّاسة) لها من الحنكة والحكمة والكياسة ما شهدَ له النّاس بقوّة المراس وشدّة الباس. وهي أختُ القس عبد النّور المشهود له بالمعرفة والاطّلاع على الكثير من الأمور، فيما يخصّ أحداثَ الزّمان وما واكب ذلك من الحدثان، منْ تعدّيات وحروبٍ وفلتان، وهو ما أدخَل إلى القلوب الآمنة الأحزان ودمّر كلّ جميلٍ بداخل الإنسان، فزادتِ الأحقاد واشتعلتِ البلاد ومُزّقت الأجساد بلا رحمةٍ ولا شفقة إنْ بضربة سيفٍ أو بمطرقة أو بجنون طلقة.

أرادتْ (شمّاسة) أنْ تغادرَ (آزخ) إلى مسافة آلاف الفراسخ تقصدُ مدينةَ (المُوصل) فبحثتْ عن الطريق التي إليها توصل آخذةً معها أخاها وحاملةً زوّادة غداها وسترةَ مساها، متى طلع النهار واشتدّتِ الأخطار و حين يحلّ الظلامُ والليل وتشتدّ سطوةُ الخوف ولوعةُ الويل سيراً على الأقدام لعدم توفـّر الخيل.
قصدتْ أنْ تزورَ دارَ (عبد النور بيثون) وهو من أسرتهم على ما يقولون ويؤكّده كذلك العارفون، كان غادرَ (آزخ) منذ زمنٍ طال فغابتْ عنهم أخبارُه والأحوال، وقد كان سفر(شمّاسة وأخيها) لسوء الوضع والحال، حيثُ كان الفقرُ والجوع وكانتِ الحاجةُ للمسموح والممنوع، تسيطرُ على الوضعِ والحال وتُلْزمُ المرءَ بالانتقال وتدفعُه إلى الهجرةِ والترحال.
من المعروفِ عن أسرة ( بيثون) أنّها أسرةُ علمٍ وأدبٍ وفنون وأفرادها بجودٍ وكرمٍ خيّرون وللكثير من مشاريع الخير داعمون. فعلا منهمُ الصّيتُ وشاع وعمّ جميعَ المناطقِ والضّياع، وكانتْ من (شمّاسة) الرّغبةُ والنّيّة في القيامِ بخدمةِ هذه الأسرة التقيّة لحاجةٍ لها كما أسلفنا في العبارات التمهيديّة وما سيأتي بعد ذلك من بقيّة.
وصلتْ (شمّاسة) إلى دار المذكور وهو السيّد عبد النّور فدقّتِ الباب وسألتْ عن السكّان والأصحاب وأعلنتْ عن سبب قدومها لأنّهم من الأقارب والأحباب، وأنّها منْ (آزخ) الحبيبة والتي حلّ بها عوزٌ ومصيبة وهي إنّما جاءتْ لتوثيق التعارف ولزيادةِ التآلف وكسب بعض المعارف، فهي تجيدُ العربيّة وال?رشونيّة وتشاءُ أنْ تقرأ الكتبَ التّاريخيّة وتجمع المعلوماتِ الثريّة، فحبّها للمطالعة عظيمٌ وشوقها للمعرفة قديمٌ، فشجّعها (آلُ عبد النّور) وفتحوا لها ولأخيها كلّ الدّور واضاؤوا لهما النّورواستقبلاهما بكلّ محبّةٍ وسرور.
انكبّتْ على القراءةِ (شمّاسة) بهمّةٍ ورغبةٍ وحماسة، ومضتِ الأيام وتوثّقت الصّلةُ وزالَ الانفصام وبولغ في الاحترام وإعلاء المقام ، وكان ما كان وانقلبتْ معاييرُ الأوزان حين وقعتْ عينا (شمّاسة) على كنزٍ ثمين لم تعدْ تعرف شمالها من اليمين، وقعتْ يدها على كتابٍ قيّم الموادّ والأبواب غنيّ بالمعارفِ والأسباب، يتحدّثُ عن الحكمةِ والطبّ والسّحر بمعلومات وفيرة كالبحر، فلعبَ برأسها الشّيطان وغرّها الطمعُ والذي إبنه الإنسان، فكان من قصّتها ما كان ومن مغامراتها ما يمتعّ الأخوان وما لم يكن بالحسبان حين أطاعت هذا الشّيطان فصار له عليها السّلطان فحرفها عن خطّ الاستقامةِ والائتمان وسقطتْ في فخّ الخوّان، ونرجو من قارئنا النّبهان أنْ يعذرنا وإلى آن، وألا يغضبْ متى أغلقنا الشطآن في وجه مركب (شمّاسة) التّعبان، لنتركَ إلى يومٍ آخر الحكاية فتعرفوا كيف كانت النهاية، ولا تنسوا ما جاء في المقدّمة والبداية. فهي قصّة شيّقة وحقيقةٌ ضيّقة لا يعرفُها إلاّ القليلون وقد ذكرها المتقدّمون من أسرة (عبد النور) وهم بهذا عالمون.
أشاءُ الاعتذار وإطفاء الأنوار إلى أنْ يُشْرقَ النّهار وتُعْرف حقيقةُ الأسرار وتنجلي المواقفُ وتُكشفُ الأخبار، ففي التاريخ المنسيّ ذكرياتٌ لم تُكتبْ وبين رُكامِ الأطلالِ والقبور أوراقٌ لم تُحسبْ، فلآزخ الجريحة حكاياتٌ صحيحة وجراحاتٌ قريحة ورجالاتٌ مليحة.
و إلى اللقاء لتكملة القسمِ الثّاني أستودعكم مع أحلى الأماني .