عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 18-11-2007, 08:41 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,897
افتراضي المرأة العاقلة قصة واقعية. بقلم: فؤاد زاديكه

المرأة العاقلة
بقلم: فؤاد زاديكه

إخوتي الأحبة ثقوا أنّ أحداث هذه القصة التي سأروي وقائعها على حضراتكم ليست من الخيال في شيء و إن كان فيها ما يشبه الخيال. إنها قصة واقعية حصلت في مدينة القامشلي و هي إحدى مدن محافظة الحسكة في القطر السوري في أيام الانتداب الفرنسي لسورية, الذي بدأ في يوم 24/7/1920م و استمرّ لغاية 17 نيسان من عام 1946م.
كانت عائلة سريانية فقيرة يعمل الزوج عسكراً فرنساوياً فيما الزوجة كانت تمارس بعض الأعمال البسيطة المتوفرة في تلك الأيام من مثل جلب الحطب و البوش(الأعشاب و الحشائش الجافة التي كانت تستخدم كشعيل للتدفئة أيام الشتاء) لبيعه لقاء بعض المال و غيرها من الأعمال التي لم تكن دائمة كما أنها لم تكن تدرّ مالا كثيراً. كان الزوج مدمناً على شرب الخمور و القيام بأعمال شائنة لا تليق برجل متزوج و حين كانت زوجته تفاتحه بأمر الخمر و ما له من ضرر على صحته و ما يكلفهما من مصروف زائد لا فائدة ترجى منه, كانت تثور ثائرة الرجل و يقوم بضرب زوجته و تهديدها أو يخرج إلى خارج البيت آخذاً معه لتر العرق ليشربه بعيدا عن عيون زوجته التي كانت تتألم من فعل زوجها و سلوكه و ردود فعله التي لم تكن مقبولة أبداً.
تحمّلت الزوجة سلوك زوجها هذا كما تحمّلت جميع أنواع التعديات التي كان يقوم بها و يمارسها ضد زوجته عندما كانت تبدي امتعاضها من شربه الدائم للخمور دون التفكير بمستقبل أولاده و بناته و لا حتى بمستقبله و مستقبل زوجته. مضت الأيام و السنوات على هذا النحو من التردّي و من الإدمان المستمرّ للزوج على شرب الكحول وملاحقة النساء و ارتكاب الموبقات و لم يكن من الزوجة العاقلة و المطيعة سوى أن ترضى بقسمتها التي كتبت لها و هي تخشى على بيتها و سمعتها من أن يسمع جيرانها أو الناس عمّا يجري بينها و بين زوجها فكانت تسكت خوفا و حياء و رغبة في عدم إثارة مشاكل و متاعب لها أكثر مما تعيشه معه و تتحمّله.
كان الزوج عندما يعود إلى البيت من خدمته العسكرية يقوم فورا بشراء العرق و من ثمّ يخرج إلى نهر الجغجغ (نهر صغير كانت تجري فيه كميات كبيرة من المياه يجري تحت جسر في مدينة القامشلي و مصدر مياه هذا النهر كان من منبع الماء الأبيض "آفه س?ي" في منطقة نصيبين التركية المحاذية للقامشلي و قد ذهبنا إلى تركيا و رأينا مجرى الماء و غزارته و ما بني عليه من السدود الصغيرة و الحواجز التي أدّت إلى قطعه عن مدينة القامشلي السورية و الآن مجرى هذا النهر في مدينة القامشلي ليس فيه إلا جفاف تام) ذات يوم و فيما كان الرجل جالسا على طرف النهر كعادته و هو يشرب من لتر العرق الذي كان ممسكاً إياه بيديه خوفا عليه من الهرب!!! و هو يستمتع بوقته و بشربه لعرقه إذ به يرى جمعاً من الناس و هو خليط من البنات الحسان و من الشباب و هم يمرّون من جانبه و حين رأى أن هذا الجمع يسير فوق النهر و كأنه يمشي فوق الأرض أصابته قشعريرة و أدرك أنّ في الأمر سرّاً أو شيئاً ما و أراد أن يعرف هذا السرّ, فألقى بزجاجة العرق من يده و قام و هو يسير خلف هذا الجمع من الناس و إذ به يراهم يدخلون إلى إحدى الكنائس في خشوع و رهبة و سكون ثم يشرعون بإنشاد ترانيم دينية روحية غاية في الروعة أثارت لديه إحساساً جميلا ثم صاروا يرتلون تراتيل عذبة فبكى و هو يتأمل هذا المشهد الجميل و الذي لم ير مثله في حياته. فتيات في عمر الزهور غاية في الجمال و الحسن و شباب ذكور كذلك و الجميع يترنم و يرتل و يسبح الرب و يصلّي فقال في نفسه: ما بي أنا أعيش في غير هذه الدنيا؟ و لماذا لا أفعل كما يفعل هؤلاء بالتقرب من الرب؟ لماذا أعيش حالة الضياع و الانغماس في الملذات و شرب الخمور؟ أقسم أنني لن أشرب هذا الشهر قطرة عرق كما لن أصرف قرشا واحدا في غير مكانه!
في نهاية الشهر و عندما تم توزيع الرواتب على العسكريين و قبض الرجل معاشه جاء إلى زوجته و وضع في يدها المعاش كاملا, استغربت زوجته من تصرفه فهذا لم يكن من عادته و حين سألته عن السرّ في ذلك أخبرها بما رأى و بما سمع و وعدها بأنه سيحاول تغيير حياته فسرّت لهذا الخبر غاية السرور لكنها لم تكن على ثقة من أنّ ذلك سيدوم. مضى شهر آخر و ثالث و رابع و الزوج مصر على موقفه دون أن يتزحزح قيد شعرة عن قراره الذي اتخذه, فما كان من هذه المرأة الحكيمة و العاقلة, التي تحمّلت نزق زوجها و كل ما تسبب لها به من متاعب, إلا أن تفكر بعين البصير حين صار بين يديهما المال فقامت بشراء قطعة أرض مخصصة للبناء و على مراحل اشترت لوازم البناء من إسمنت و بلوك و حديد غيره و استطاعت بمعاونة زوجها لها و تشجيعها أن يبنوا بيتاً ثم بيوتاً و صارت الأسرة الفقيرة و المعدمة من الأسر الغنيّة في مدينة القامشلي. كان أبي المرحوم روى لي هذه القصة ولم أفكر يومها في كتابتها لكن و اليوم تعيد أمي روايتها لي و لزوجتي سميرة قررت أن أسجلها هنا لتكون عظة لمن يريد أن يأخذ من كتاب الحياة عظة و حكمة و فائدة. إنّ هذه المرأة بحكمتها و تحمّلها و بصبرها و تعقّلها استطاعت أن تربح زوجها و تكسب المستقبل لهما معاً و لأبنائهما من بعدهما.ليس من العيب أن نخطيء لكن العيب و كل العيب أن نصرّ على المضي في أخطائنا دون الاستفادة منها و العمل على تجاوزها. و قد كان هذا الرجل مثالا حسنا ينطبق عليه هذا القول.
__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس