هل فارق اللاهوتُ الناسوت؟ الأنبا غريغوريوس.
سؤال
صرخ السيد المسيح وهو على الصليب قائلاً "إلهي إلهي لماذا تركتني؟"
فكيف يخاطب الآب بقوله إلهي؟ وهل تدل هذه العبارة على مفارقة اللاهوت للناسوت؟!
الجواب:
لو رجعت إلى المزمور الثاني والعشرين من مزامير النبي داود، لوجدته يبدأ بهذه العبارة: "إلهي إلهي لماذا تركتني" ثم يمضي النبي فيصوِّر آلامًا تطابق آلام سيدنا على الصليب مطابقة تامة، من ذلك قوله: "كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغَرون الشفاه (أو يمُصون الشفة) وينفُضون الرأس قائلين: "اتكلَ على الرب فلينجّه، لينقذْه لأنه سُرّ به، ومنه قوله: أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني، فَغَروا عليّ أفواههم.. كالماء انسكبتُ، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع... يَبُسَتْ مثل شقفةٍ قوتي٬ ولصق لساني بحَنَكي... جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يديّ ورجليّ، أُحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ، يُقسّمون ثيابي بينهم٬ وعلى لباسي يقترعون...."
وجدير بالذكر أن شيئًا من ذلك لم يحدث للنبي داود في حياته الخاصة، وإلا فمتى ثُقبتْ يداه ورجلاه؟ ومتى اقتسموا ثيابه؟ واقترعوا على لباسه؟ إلى غيرها من التفاصيل التي ذكرها في هذا المزمور.
فليس من شك أنه نطق بما نطق بروح النبوءة٬ مشيرًا إلى السيد المسيح في أحداث الصليب. ولو تابعتَ بدقّة ما ذكره البشيرون جميعًا، لاقتنعتَ بأن الروح القدس سبق فأعلم الأنبياء بما سيحدث للفادي وما سيُعانيه من آلام.
فإذا قال السيد على الصليب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ إنما هو يردد مطلع المزمور الثاني والعشرين لينبِّه اليهود، وهم حفظة الكتاب المقدس، إلى أنهم يتمّمون بأيديهم ما سبق وأشار إليه النبي داود من قبل.
فليس المسيح إذن مُضلاً أو مجدفًا على الله كما كانوا يَدّعون، وإنما هو المسيّا المُنتظَر، والذي تم في شخصه كل ما ذكره الأنبياء عنه بوحي الروح القدس٬ ولقد كان السيد المسيح حريصًا كل الحرص على أن يبين هذه الحقيقة دائمًا لتلاميذه أثناء حياته المقدسة على الأرض قبل الصليب، بل وبعد قيامته كذلك٬ وقال لهم "هذا هو الكلام الذي قلتُه لكم، إذ كنت معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسي، والأنبياء٬ والمزامير٬ حينئذ فتح قلوبهم ليفهموا الكتب. وقال لهم: "إنه هكذا كُتب (وهكذا ينبغي) أن يتألم المسيح ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث..."(لو46-44:22).
وكذلك٬ وبخ تلميذَي عمواس على شَكّهما في حقيقة شخصه٬ فقال لهما "يا عَديمَي الفهم، وبطيئَي القلب في الإيمان لكل ما نطقتْ به الأنبياء... وبدأ من موسى، ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما ما في جميع الكتب من أجله..." (لو27-25:24).
ولقد ذهب بعض مفسري الكنيسة إلى أن المخلص قد ردد سرًا، في الغالب، المزمور الثاني والعشرين كله من أوله إلى آخره، وأنه صرخ حينما تَلا أول عبارة فيه، وصرخ كذلك حين ردد آخر عبارة فيه٬ قد أُكْمِل٬ استنادًا إلى أن عبارة "قد فعل" التي يختتم بها المزمور الثاني والعشرون يقابلها في اللغة العبرانية قد أكمل.. وليس لدينا ما ينفي صحة هذا الرأي، وإنما تسنده احتمالات منطقية، وروحية، ونقلية.
وإذا كان حقًا أن المسيح له المجد أراد أن ينبّه اليهود إلى ما قاله النبي بروح النبوءة، لكن داود نفسه كان يُصوّر حقيقة واقعة على الصليب. والعبارة نفسها تدل على أن الترك حقيقة مؤكدة، فهي بلُغة الماضي لماذا تركتني؟ فلابد من أن نعالج هذه المسألة كذلك.
لقد ظن بعض الهراطقة الذين كانوا ينكرون لاهوت المسيح أنها عبارة تفيد معنى الافتراق بين الابن والآب. ولكن المسيح نفسه ينفي هذا الفهم بقوله: "إن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال لتعلموا وتعرفوا (وتؤمنوا) أني أنا في أبي وأبي فيّ" (يو38:10).
وقال أيضا لتلاميذه "لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه. قال له فيلبس يارب أرِنا الآبَ وحَسْبُنا. قال له يسوع أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس؟!. مَنْ رآني فقد رأى الآبَ، فكيف تقول أنت: أرِنا الآب؟ ألستَ تؤمن أني أنا في أبي وأبي فيّ؟ الكلام الذي أكلمكم به لا أتكلم به من نفسي وحدي، بل الآب الحال في هو الذي يعمل أعماله. آمنوا بي٬ إني أنا في أبي وأبي فيّ" (يو11,7:14).
أرأيت إذن حقيقة الاتحاد القائم بين أقنومَي الآب والابن؟ وأن الآب قائم في الابن والابن قائم في الآب؟ ولعل هذا هو السبب الذي من أجله سُمّي الأقنوم الثاني باللوغوس (أي الكلمة). فاللوغوس في الفلسفة اليونانية هو العقل الإلهي. ولا يمكن تصور إله بلا عقل، وإلا فكيف يكون العقل في المعلول أو المخلوق٬ ولا يكون في العلة أو الخالق؟ ولا يمكن تصور الله أن يكون في لحظة ما بلا عقل، لا في الماضي٬ ولا في الحاضر، ولا في المستقبل. فالابن إذن قائم في الأب قيامًا أزليًا، وقيامًا أبديًا٬ لا انفكاك فيه ولا افتراق. ومن أجل هذا سُمّي الابن بالكلمة٬ تصدر عن العقل، ومن ذلك فقد كانت منذ وجوده: لأنه لا يمكن تصور عقل بلا فكر في أية لحظة زمانية، كما أن الكلمة وقد صدرتْ من العقل، فهي لا تفترق عنه بل قائمة فيه بلا انفصال أو افتراق.
فليس كلام المسيح علي الصليب "لماذا تركتني" فيه معنى افتراق الابن عن الآب، لأنه معنى لا يتّفق وطبيعة الله العاقلة.
كذلك رأى النساطرة والخلقيدونيون وأصحاب الطبيعتين أن قوله "لماذا تركتني" يؤيد وجهة نظرهم في أن للمسيح طبيعتان، وأن الطبيعة اللاهوتية قد افترقت عن الطبيعة الناسوتية؟!.
ولكن لو صَحّ هذا، أفهل كان يجرؤ أحد من المسيحيين على القول بأن ابن الله قد صُلب؟ وهل يكون معناه أن الذي صُلب عن العالم إنسان مَحض؟ وحينئذ هل كان يتم خلاص العالم؟! إن نظرية الفداء تقوم على أساس أن الفادي لا يمكن أن يكون مجرد بشر، وإلا لَمَا كان ثمة داعٍ لتجسد الأقنوم الثاني!!. ثم إن إنسانًا لن يفدي غير نفسه٬ وإن كان حقًا أن مَدينًا لا يستطيع أن يَفي عن مدين٬ فكيف يمكن لإنسان أن يَفي أو يُكفّر عن خطايا البشر جميعًا؟! فلا ملاك ولا رئيس آباء ولا رئيس أحبار ولا نبيَ يمكنه أن يقوم بعمل الفداء. "فرأى أنه ليس إنسانٌ، وتحيّر من أنه ليس شفيعٌ، فخلَّصتْ ذراعُه لنفسِهِ،...ويأتي الفادي إلى صهيون.." (إش 20-16:59)
وإذا كان اللاهوت قد فارق الناسوت على الصليب، فَلِمَ سالَ من جنب مخلصنا بعد أن أسلم روحه، دم وماء؟
ونحن نعلم أن الميت يسيل منه الماء، ولكن الدم لا يسيل من غير الأحياء. أليس حقًا إنه أمر عجيب، يدل على أن المصلوب جَمَعَ بين الموت والحياة. الموت في ناسوته والحياة في لاهوته؟ أليس حقًا أن المصلوب لم يكن مجرد إنسان؟ وإنما كان الإله المتأنس؟! ولعله بسبب هذا٬ ولأسباب أخرى نطق يوسف ونيقوديموس بهذه التسبيحة التي ترتل بها لا كنيستنا فقط٬ بل وسائر الكنائس الرسولية التقليدية في الشرق والغرب قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الحي الذي لا يموت...إلخ.
وإذا كان اللاهوت قد فارق الناسوت، فكيف يجرؤ الرسول على القول إلى مجمع الأساقفة في أفسس "لترعَوْا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أع28:20) فالدم هو دم الله وليس دم إنسان!!
ويقول القديس بولس "قد صُولحنا مع الله بموت ابنه" (رو10:5) و "الذي لم يُشفق على ابنه بل بذله لأجلنا(رو32:8)، الذي لنا فيه الفداء (بدمه) غفران الخطايا، الذي هو صورة الله غير المنظور(كولوسي14:1)، و "الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا (عب3:1). و "هذا يقوله الأول والآخر، الذي كان ميتًا فعاش" (رؤ8:2)، "لا تخف أنا هو الأول والآخر، والحي وكنتُ ميتًا، وها أنا حي إلى أبد الآبدين، ولي مفاتيح الهاوية والموت" (رؤ 18,17:1) (راجع أيضًا 1بط19:1) وهي جميعها، وغيرها كثير، ناطقة الدلالة، في أن المصلوب عنّا لم يكن مجرد إنسان فارقَهُ اللاهوت، بل إلهًا متأنسًا، حسب كل ما وقع على ناسوته من ألم واقعًا أيضًا على لاهوته، غير أن اللاهوت لم يتألم ألمًا ماديًا حاشا!!!، وإنما هي آلام أدبية لا مادية، تلك التي وقعت على اللاهوت، من حيث هو متّحد بالناسوت اتحادًا كاملاً بلا افتراق أو انفصال، وبغير هذا لا يمكن تعليل أو تأويل النصوص الرسولية الناطقة بأن المصلوب إنما هو الإله المتأنس وأنه الميت الحي، وأنه بذلك تم خلاص العالم.
وإذن لماذا صرخ المسيح هكذا؟...لماذا تركتني؟
إن المخلص وإن كان إلهًا متأنسًا كما قُلنا، وهوطبيعة واحدة للكلمة المتجسد (علي حد تعبير القديس أثناسيوس الرسولي)، طبيعة من طبيعتين، وجوهر من جوهرين، باتحاد طبيعي، ذاتي، بلا اختلاط، ولا امتزاج، ولا تغيير، لكن حقيقة هذا الاتحاد احتفظت بصفات اللاهوت كاملة، كما احتفظت بخصائص الناسوت كاملة، كما هو الحال في اتحاد الروح بالجسم، واتحاد الفحم بالنار في الجمر، أو اتحاد الحديد بالنار (وهي التشبيهات التي يسُوقها القديس كيرلس الأول عمود الدين بطل مجمع أفسس الأول) فطبيعة المسيح الناسوتية قائمة كاملة، لم يُبطلها اللاهوت المتحد بها، وهو بهذه الصفة يقوم بعمل النيابة عنا.
وإذا كان المسيح الإله متروكًا على الصليب ليحتمل صُنوف الآلام النفسية والحسية، فبوصفه نائبًا عن البشرية، يحتمل في شخصه كل ما استحقه البشر قِصاصًا على التمرد والعصيان. ولقد وقعت الآلام عليه كاملة، لأنه ينوب عن الجبلة الآدمية، وكان لابد أن يقع عليه كل ما يتطلبه العدل الإلهي من ألم، ليكون في آلامه: التغطية، والكفارة، والترضية. وصراخ المسيح على الصليب كان برهانًا على أن الآلام وقعت عليه شديدة ومُرّة، وعلى أنها كانت آلامًا حقيقية، وعلى أن الناسوت الذي اتحد به كان ناسوتًا كاملاً، وحقيقيًا، وطبيعيًا، وأنه أخذ صورة الإنسان حقًا، وأن الابن وحده هو الذي تألم دُونًا عن الآب والروح القدس.
والمسيح لم يصرخ على الصليب كأنه يرجو خلاصًا من الألم، فقد جاء لأجل هذه الساعة (يو27:12)، وكان يُنبئ تلاميذه بأنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم، ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم (مت21:16). وكان يقول: "الكأس التي أعطاني الآب ألَا أشربها؟ (يو11:18)، ويُحدّثنا الرسول "بأن دم المسيح معروف سابقًا قبل تأسيس العالم" (1بط20:1).
ولم يصرخ المسيح عن ضعف، ولذلك يذكر عنه الكتاب أنه "صرخ بصوت عظيم" (مت46:27) ليبرهن على أنه القوي الجبار، الذي لم يَقْهَره أو يُجبِره على الموت أحدٌ، بإرادته ومسرته أسلم نفسه للموت، "وليس أحد يأخذها مني، بل أضعها من ذاتي وحدي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها"(يو18:10).
فعبارة "لِمَ تركتني" لا تجري مجرى الاستغاثة، ولا هي سؤال لطلب المعرفة أو سبب الترك، وإنما هي استفهام خرج من معناه الطبيعي، قَصد منه إعلان تخلي الرحمة الإلهية عن المصلوب، ليجد العدل في آلامه ترضية وإيفاءًا لحقه على البشرية ممثّلة في شخص المسيح.
ويمكن أن نضيف إلى هذا كله سببًا آخر ذكره الآباء، وهو أن صراخ المسيح هكذا، ليعطي للشيطان فرصة ليجرؤ فيقترب منه، كما كان يفعل مع كل بشر في لحظة موته، ليقبض على روحه ويمضي بها إلى الجحيم. وعن هذا يشير المخلص بقوله: "لست أكلمكم كلامًا كثيرًا بعد، فإن رئيس هذا العالم آتٍ وليس له فيّ شيء"(يو30:14) ومن أجل هذا "كانت ظلمة على الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة" (مت45:27) وهي المدة التي بلغت فيها الظلمة ذُروة سلطانها (لو53:22)، ولكن المسيح لم يقُل "قد أُكمِل" إلا بعد أن انقشعت الظلمة، وانبلج النور، رمزًا لانتصار المسيح على الشيطان، هذا الانتصار الذي أصبح بسببه يفزَع الشيطان من ذكر الصليب وعلامة الصليب، حتى أن المسيحيين أصبحوا يتحصّنون بالصليب ضد قوات الظلمة.
فالمسيح إذن صرخ قائلاً: "لِمَ تركتني"، نيابة عنا، ومن أجلنا، لأنه أخذ طبيعتنا، واحتمل فيها عمل الفداء، وقد تخلت الرحمة عن الابن، ليذوق الآلام كاملة لننال فيه الفداء.
ويتبقى بعد ذلك إشكال صغير، كيف يصرخ المسيح للآب مناديًا "إلهي، إلهي"؟! فهل يُعدّ ذلك اعتراضًا على لاهوته؟
والجواب أنه بذلك يُظهر حقيقة ناسوته، فينتفي بذلك كل شك في أن المسيح تجسد على الحقيقة، وأنه اتحد بجسم ونفس بشرييْن، وأن حقيقة الصليب لم تكن حُلمًا ولا خيالاً ولا مَظهرًا من المظاهر الخيالية، وقد أكد المسيح له المجد هذا المعنى مرة أخري بعد قيامته المجيدة "إني أصعد إلى أبي الذي هو أبوكم وإلهي الذي هو إلهكم"(يو17:20)، ولعل هذه الآية وغيرها هي بعض أدلتنا في إثبات ناسوتية المسيح التي أنكرها بعض الهراطقة في زمان قديم.
ولا اختلاف بين رواية القديس مرقس "إلوّي إلوّي لِمَا شبقتني" (مر34:15)، ورواية القديس متى "إيلي، إيلي لما شبقتني" (مت46:27).
فالعبارة الأولي باللغة السريانية، والعبارة الثانية باللغة العبرية - مشتقة من كلمة "إيل" بمعني إله، ولذلك أوردتهما النسخة أو الترجمة القبطية بألفاظ واحدة.
مثلث الرحمات
الأنبا غريغوريوس.
أسقف الدراسات اللاهوتية العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي.