همسة سيجارة
تأملته من زاوية عيني بفضول مشبع وهو يخرج من جيب سترته الأماميّ الأيسر علبة دخانه
ليتناول من داخلها وبكلّ رفق سيجارة ثمّ يدفع بها إلى كمّاشتي شفتيه اللتين أطبقتا عليها بكلّ
هدوء وانسجام يشعّ من محيطهما بريق اللهفة والرّغبة الشديدة في الارتواء.
تأملتُه وأنا جالس إلى طاولة في مقهى (أبي عيد) وأمامي كوب الشاي الذي جلبه للتوّ (أبو
عيد) وبين يدي الجريدة اليوميّة التي أقلّب صفحاتها بحثاً عمّا يسلّي أو يفيد، علماً أني لم أكنْ
متفائلاً كثيراً فجميع الأخبار ومن كل أنحاء العالم لا تبعث على السرور أو الفرح فهي
كابوس من الحروب والتفجيرات والقتل والعمل الانتحاري وغرق وسقوط طائرات تسبب
في ضحايا ومشاكل على كل الأصعدة وفيضانات وانتهاك أعراض واغتصاب و تجارة ذكية
ومدروسة للرقيق الأبيض غير أن المطالعة قد تقرّب الصورة أكثر وتسلّط الأضواء على
خفايا وأسرار كثيرة ومن طبيعة الإنسان الفضولية أن يكون له ميل شديد إلى سبرأغوار هذه
الأسرار والوقوف على حيثياتها.
ومن سخرية القدر أن يكون الموضوع الرئيس في افتتاحية هذا اليوم مقال عن الدخان
والمدخنين وأضرار السيجارة، لم أكد أنته من قراءة المقال حتى وجدتُ صاحبنا يأتي على
ضحيّته الأولى ثمّ يثنّي بالأخرى، وهو يسرع في خطو حسوه للدخان بحيث لا يكاد يدع
نصفه يخرج إلى الهواء بل كان يبتلعه و(يشرقه) مرسلا إياه إلى داخل أحشائه عبر اسطوانة
بلعومه بل كان يتفنن أيضاً وهو يقذف ببعض هذا السمّ من فتحتي منخاره متبتاهياً
بمقدرته على فعل هذا.
صارتْ سحابة من الدخان المتشابك والمنبعث من سجائره يغطّي محيط المكان وصاحبنا لا
يعبأ بالآخرين مستمرّاً في (فتح الفال) بشدّة ورق اللعب ولست أدري هل فتح فاله أم لم
يفتح؟ وهل الآمال العريضة التي بسطها فوق صفحات ورق اللعب الاثنيتن والخمسين
تحقّق شيء منها؟ وأدركتُ مغزى المقال الذي دبّجه يراع الكاتب وهو يصوّر حواراً طال
مداه بين المدخّن والسيجارة ليس من الضروري أن أعيد سرده بحرفيته لكني استخلص منه
توجّهات السيجارة وهي تتحدّث إلى رفيق دربها واعظة له: " أيّتها الضحيّة الراغبة في نيل
حتفها وتقريب أجلها... أيّها المستهتر بمعاني وأهمية وجودك... أيّها الضعيف وغير القادر
على اتخاذ قرار مصيري مهمّ في حياتك قد ينقذها لك... أيّها الشاري هلاكه بماله... أيّها
المستسلم لرغباته وشهواته، ألم تفكروا بما سيؤل إله مصيركم في الزمن الآتي؟ ألم تأخذوا
عبراً ممنْ دفعوا قبلكم ثمن غفلتهم وضعفهم أمام قوّة سلطاني؟ هل أنا قويّة إلى هذا الحدّ
وبمقدور الطفل الصغير أن يسحقني بكعب قدمه؟ إني أتألم عنّي وعنكم فكلانا يدفع ثمناً ما"
ثم تتابع القول: "إنكم لا تحرقونني فقط بل أنتم تحرقون مالكم وجسدكم معي، وكلانا يدفع
ثمناً لكنْ أيّ منّا يدفع الثمن الغالي والباهظ، ألستم أنتم؟