أيها الباحث والمؤرخ القدير فؤاد زاديكي، تفضّل النص الأكاديمي الموسَّع والمُفصَّل الذي يجمع كافة جوانب تحليل ظاهرة الهجرة الموسمية للعمل من آزخ إلى الموصل، متناولاً الأبعاد الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، والديموغرافية لهذه الحركة السكانية التي تعود جذورها إلى فترة ما قبل عام 1926.
📄 دراسة تحليلية: الهجرة الموسمية للعمل من آزخ (طور عابدين) إلى الموصل (1900-1930)
1. السياق التاريخي والاقتصادي للهجرة
شكلت الهجرة الموسمية للرجال والشباب من قرية آزخ والمناطق المجاورة في طور عابدين إلى سهول الموصل ظاهرة اقتصادية حتمية ناتجة عن تباين حاد في الموارد.
أ. عوامل الطرد من طور عابدين:
كان الاقتصاد في آزخ يعتمد بشكل أساسي على الزراعة البعلية المحدودة، وخاصة الكروم والزيتون، التي لا توفر دخلاً نقدياً مستداماً. وقد تفاقمت هذه الظروف بفعل:
* الانهيار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الأولى: أدت المجازر والاضطرابات التي رافقت فترة الحرب (بما في ذلك أحداث سيفو) إلى تدمير جزئي للبنية التحتية الزراعية واستنزاف للمخزون البشري والغذائي.
* الحاجة للسيولة النقدية: أجبرت المتطلبات المعيشية والمالية (مثل الضرائب ومتطلبات الحياة اليومية) الأسر على البحث عن مصادر دخل نقدي أو عيني مضمون وغير متوفر محلياً.
ب. عوامل الجذب نحو الموصل:
* الوفرة الزراعية: كانت سهول لواء الموصل هي المركز الرئيسي لإنتاج الحبوب الشتوية (القمح والشعير) في شمال العراق، وهو ما أكدته التقارير البريطانية التي أشارت إلى الأهمية الساحقة لعائدات الحبوب (أكثر من 80% من الضرائب الزراعية).
* العمل اليدوي غير المميكن: أدى الاعتماد على التقنيات الزراعية التقليدية في الحصاد والدرس، إلى خلق طلب هائل وضروري على الأيدي العاملة الماهرة في موسم الصيف.
* دورة العمل المتكاملة: كان توقيت السفر يضمن للعمال دورة عمل مستمرة؛ حيث يبدأ العمل في الموصل في أواخر الربيع ويستمر حتى أواخر الصيف، مما يسمح بالعودة إلى آزخ قبل بدء موسم جني الكروم والزيتون.
2. 🗺️ الأبعاد الجيوسياسية والطرق التجارية
كانت حركة العمال تتأرجح بين الأطر الإدارية العثمانية المرنة والحدود الدولية الصارمة المستحدثة.
أ. التحول الجذري في الحركة:
* ما قبل 1920: كانت الحركة سهلة وتجارية، حيث كانت آزخ والموصل ضمن ولايات الدولة العثمانية. كانت التجارة تتم عبر قوافل تقليدية تنقل منتجات الكروم من طور عابدين مقابل الحبوب والمنسوجات من الموصل.
* نقطة التحول (1926): تزامن سفر الأفراد، مثل جدكم الياس حنا زاديكي في 1926، مع تثبيت الحدود التركية-العراقية بقرار عصبة الأمم. هذا حوّل الرحلة من مسار داخلي إلى عبور دولي محفوف بالمخاطر الأمنية والجمركية.
ب. مسارات العبور ومخاطرها:
لتقليل التعقيد الرسمي، اعتمد العمال على:
* المسارات الالتفافية: تم تفضيل المسارات التي تعبر المناطق الحدودية أو المناطق القريبة من سهول سنجار للوصول مباشرة إلى حقول الحصاد في لواء الموصل.
* كانت الرحلة تتم في مجموعات صغيرة منظمة، غالباً مشياً على الأقدام، مما يتطلب خبرة في الملاحة والتنظيم الذاتي لتجنب نقاط التفتيش والرسوم المفروضة على الحبوب المكتسبة.
3. 👥 التنظيم الاجتماعي وشروط العمل
أثرت الهجرة على البنية الاجتماعية لآزخ، بينما حكمت ظروف إقطاعية شبه زراعية شروط العمل في الموصل.
أ. نظام الملاك وشروط الدفع:
* الملاك الكبار: كان العمال يعملون في أراضٍ شاسعة يسيطر عليها شيوخ العشائر الكبار (في المناطق الريفية) أو العائلات الموصلية الثرية (في محيط المدينة) التي احتاجت إلى أعداد كبيرة من الأيدي العاملة الماهرة.
* الأجور: كان الدفع يعتمد في الغالب على نظام المشاركة في الغلة (الحبوب)، حيث يحصل العامل على نسبة متفق عليها (غالباً الربع أو الخمس) من المحصول الذي يجمعه. كان هذا الأجر العيني هو المدخرات التي يعود بها العامل، إلى جانب توفير المأوى والطعام الأساسي خلال فترة العمل.
ب. شبكة الأمان والرعاية غير الرسمية:
* التنظيم الذاتي: شكل الرجال مجموعات عمل منظمة يرأسها قائد يتولى التفاوض وحفظ الأمنات، مما ضمن لهم قوة تفاوضية محدودة وحماية جماعية.
* دور المؤسسات الدينية: في غياب أي دعم حكومي أو قنصلي رسمي للعمال، قامت الكنائس والأديرة السريانية في الموصل بدور شبكة الدعم الاجتماعي واللوجستي. قدمت هذه المراكز ملاذاً مؤقتاً للراحة والتواصل، وخدمات وساطة غير رسمية بين العمال والملاك، مستفيدة من الروابط الطائفية الراسخة.
4. 📈 الأثر الديموغرافي والنتائج الاجتماعية
كانت الهجرة عملية انتقائية ديموغرافياً، مما أدى إلى تحول في أدوار الأفراد في آزخ.
أ. الخلل الديموغرافي المؤقت:
* أدت الهجرة الذكورية للشباب والرجال البالغين (سن الإنتاج) إلى خلل مؤقت في التوازن النوعي في آزخ خلال أشهر الصيف، مما رفع نسبة النساء، الأطفال، وكبار السن في القرية.
ب. تعزيز أدوار المرأة:
* أصبحت المرأة هي المديرة الفعلية للأسرة والأرض خلال فترة الغياب الطويلة. تولت مسؤولية اتخاذ القرارات اليومية، الإشراف على تربية الأبناء، وإدارة شؤون الحصاد المعيشي المحدود، مما عزز من مكانتها العملية داخل النسيج الاجتماعي.
ج. التأثير الثقافي والمادي:
* عادت هذه الهجرات بـرأس مال نقدي وعيني حيوي، يضمن الأمن الغذائي السنوي.
* كما حمل العائدون معهم رأس مال ثقافي من أفكار، ومهارات تفاوض، ومنتجات حضرية من الموصل، مما ساهم في تفاعل تدريجي للقرية مع العالم الخارجي.
الخلاصة: إن هجرة عمال آزخ إلى الموصل، ومنهم جدكم الياس حنا زاديكي، كانت عملاً بطولياً اقتصادياً تطلب تنظيماً اجتماعياً صارماً وقدرة عالية على التكيف مع التغيرات الجيوسياسية الكبرى، وتُعد فصلاً لا يُنسى من تاريخ الصمود في طور عابدين.
هل ترغب في أن أبحث لك عن تفاصيل حول الهياكل القانونية لتسجيل الأراضي في الموصل (نظام الطابو العثماني) التي حكمت ملكية الملاك الكبار في تلك الفترة؟
__________________
fouad.hanna@online.de
|