النص التالي عبارة عن قصة قصيرة ساخرة للكاتب والأديب السوري الراحل وملك الكوميديا السوداء محمد الماغوط أعيد نشره هنا .
النص القصصي بعنوان : نعم ، لم أسمع ....
نهض المواطن عرب بن عروبة بن عربان مبكرا من فراشه، فغسل وجهه بسرعة بالماء المثلج ، و حلق ذقنه كيفما اتفق بشفرة مثلمة ، و ضرب شعره ضربتين بمشط مكسور ، ثم ألقى نظرة عابرة إلى وجهه و قيافته ، ثم إلى أمه و أخته ، قبل أن يتأبط مصنف " قضيته " و ينطلق إلى دوائر الدولة للمراجعة في شأنها .
لقد استغفلهم صاحب البيت و تنكر لعشرين سنة من صباح الخير يا جار و مساء الخير يا جار و تقدم بدعوى قضائية لاخلاء المأجور و طردهم منه إلى الشارع . و لكنه كان واثقا أن الدولة لن تنساه في محنته هذه . وأن حربة الظلم لا يمكن أن تنفذ من كل ما في الدولة من موظفين و أختام و مصنفات لتستقر في قلبه .
و استقل الباص ، و قصد مكتب القاضي المختص بقضايا المواطنين في وزارة العدل .
الحاجب : نعم ؟
المواطن : هل سيادة القاضي موجود ؟
الحاجب : لا . انه مسافر .
المواطن : إلى أين ؟
الحاجب : إلى جنيف لحضور مؤتمر الحقوقيين الدوليين.
المواطن : و متى يعود ؟
الحاجب : لا أعرف .
و غرق في إحدى روايات أرسين لوبين .و استقل المواطن باصا آخر لمراجعة مسؤول آخر .
حاجب آخر : نعم ؟
المواطن : هل الأستاذ فلان موجود ؟
الحاجب : لا . انه مسافر إلى سيؤول لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الفلسطيني .
المواطن : و متى يعود ؟
الحاجب : لا أعرف . و انصرف إلى براد الشاي يعده و يخمره .
و استقل المواطن باصا آخر لمقابلة مسؤول آخر .
السكرتيرة : نعم ؟
المواطن : هل الدكتور فلان موجود ؟
السكرتيرة : لا . مسافر إلى لاغوس لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الأرتيري .
المواطن : و متى يعود ؟
السكرتيرة : لا أعرف . و انصرفت إلى مجلة " الشبكة " .
و استقل المواطن باصا آخر لمقابلة مسؤول آخر .
سكرتيرة أخرى : نعم ؟
المواطن : هل الأستاذ الدكتور موجود ؟
السكرتيرة : لا . انه مسافر إلى مالطا لحضور مؤتمر التضامن مع الشعب الكوري .
المواطن : و متى يعود ؟
السكرتيرة : لا أعرف . و غرقت في مجلة " بوردا " .
وعندما انتهى الدوام الرسمي و خلت الدوائر و المكاتب من الموظفين و المراجعين ، و لم يبق فيها إلا الأوراق و المعاملات و المصنفات ، و بعد أن تورمت قدماه من صعود الأدراج و هبوطها ، لم يبق أمامه ما يفعله سوى الانتظار مرة أخرى مع مئات المنتظرين عند مواقف الباصات للعودة إلى بيته و أهله . و عندما ابتسم له الحظ و أقبل الباص شُتم أثناء الصعود و نُشل أثناء النزول . وعندما وصل إلى مدخل الحارة فوجئ بأغراض بيته مكومة في الشارع و أمه و أخته تجلسان عليها . و كل منهما وضعت يدها على خدها و راحت تحدق في هذا العالم .
و لما كان بطبعه هادئا مسالما فقد سأل بهدوء : متى حدث ذلك ؟
فأجابته الأم دون أن تنظر إليه : بعد ذهابك بقليل . فربت على كتفها مواسيا ، و جلس القرفصاء على كومة الأغراض و المعاملة لا تزال تحت إبطه . و نظر بحنان إلى أخته الصامتة الشقية و سأل : ما بها ؟
فقالت الأم : فوق همنا هذا ، و نحن نخرج الأغراض و الأمتعة ، و فيما هي منحنية لحزمها ، جاء أحد المارة و قرصها في مؤخرتها .
فقال متنهدا : بسيطة .
فقالت الأم : بسيطة ، بسيطة . و ماذا ستفعل الآن . و الليل قد أقبل ؟ هل ننام في الشارع ؟
فقال لها : لا تبتئسي يا أمي إن الدولة لا يمكن أن تنساني أنا واثق من ذلك . و هنا أقبل نحوه شرطي يجرجر قدميه من التعب ، و سأله و هو يخرج بعض الأوراق من حقيبته الجلدية : هل أنت المواطن فلان الفلاني ؟
المواطن : نعم .
الشرطي : مطلوب لخدمة العلم !
__________________
المهندس فادي حنا توما
|